الكتاب : تفسير القرآن العظيم
المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي [ 700 -774 هـ ]
المحقق : سامي بن محمد سلامة
الناشر : دار طيبة للنشر والتوزيع
الطبعة : الثانية 1420هـ - 1999 م
عدد الأجزاء : 8
مصدر الكتاب : موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
www.qurancomplex.com
[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ، والصفحات مذيلة بحواشي المحقق ]

وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)

بذلك ، أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو (1) رَأَوْها دون أولئك ؟ كلا بل { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ].
هذا كله ، وقد شاهدوا من الآيات الباهرات ، والحجج القاطعات ، والدلائل البينات ، على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو أظهر وأجلى ، وأبهر وأقطع وأقهر ، مما شُوهِدَ مع غيره من الأنبياء ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : ذكر عن زيد بن الحباب ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا الحارث بن زيد الحضرمي ، عن علي بن رباح اللخمي ، حدثني من شهد عبادة بن الصامت ، يقول : كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، يُقْرِئُ بعضنا بعضا القرآن ، فجاء عبد الله بن أبي بن سلول ، ومعه نُمْرُقة وزِرْبِيّة ، فوضع واتكأ ، وكان صبيحًا فصيحًا جدلا فقال : يا أبا بكر ، قل لمحمد يأتينا بآية كما جاء الأولون ؟ جاء موسى بالألواح ، وجاء داود بالزبور ، وجاء صالح بالناقة ، وجاء عيسى بالإنجيل وبالمائدة. فبكى أبو بكر ، رضي الله عنه ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : قوموا إلى رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه لا يقام لي ، إنما يقام لله عز وجل". فقلنا : يا رسول الله ، إنا لقينا من هذا المنافق. فقال : "إن (3) جبريل قال (4) لي : اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك ، وفضيلته التي فُضِّلت بها ، فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود ، وأمرني أن أنذر الجن ، وآتاني كتابه وأنا أمّي ، وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر ، وذكر اسمي في الأذان وأيدني (5) بالملائكة ، وآتاني النصر ، وجعل الرعب أمامي ، وآتاني الكوثر ، وجعل حوضي من أعظم الحياض يوم القيامة ، ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعو (6) رءوسهم ، وجعلني في أول زمرة تخرج من الناس ، وأدخل في شفاعتي سبعين ألفًا من أمتي الجنة بغير حساب وآتاني السلطان والملك ، وجعلني في أعلى غرفة في الجنة في جنات النعيم (7) ، فليس فوقي أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش ، وأحل لي (8) الغنائم (9) ، ولم تحل لأحد كان قبلنا". وهذا الحديث غريب جدًا.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا يُوحَى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) }.
يقول تعالى رادِّا على من أنكر بعثة الرسل من البشر : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالا يُوحَى (10) إِلَيْهِمْ }
__________
(1) في ف : "ولو".
(2) في ف : "إلى رسوله".
(3) في ف : "أتى".
(4) في ف : "فقال".
(5) في أ : "وأمرني".
(6) في ف : "مقنعي".
(7) في ف ، أ : "عدن".
(8) في ف ، أ : "لي ولأمتي".
(9) في أ : "المغانم".
(10) في ف ، أ : "نوحي".

(5/333)


لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)

أي : جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر ، لم يكن فيهم أحد من الملائكة ، كما قال في الآية الأخرى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا يُوحَى (1) إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] ، وقال تعالى : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } [ الأحقاف : 9 ] ، وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم أنهم أنكروا ذلك فقالوا : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف : هل كان الرسل الذين أتوهم بشرًا أو ملائكة ؟ إنما كانوا بشرًا ، وذلك من تمام نِعمَ الله على خلقه ؛ إذ بعث فيهم رسلا (2) منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والأخذ عنهم.
وقوله : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } أي : بل قد كانوا أجسادًا يأكلون الطعام ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } [ الفرقان : 20] أي : قد كانوا بشرا من البشر ، يأكلون ويشربون مثل الناس ، ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة ، وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئًا ، كما توهمه المشركون في قولهم : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا } [ الفرقان : 7 ، 8 ].
وقوله : { وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } أي : في الدنيا ، بل كانوا يعيشون ثم يموتون ، { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [ الأنبياء : 34 ] ، وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل ، تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكم (3) في خلقه مما يأمر به وينهى عنه.
وقوله : { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ } أي : الذي وعدهم ربهم : "ليهلكن الظالمين" ، صدقهم الله وعده ففعل ذلك ؛ ولهذا قال : { فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ } أي : أتباعهم من المؤمنين ، { وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ } أي : المكذبين بما جاءت الرسل به.
{ لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) }
__________
(1) في ف ، أ : "نوحي".
(2) في ف ، أ : "رسولا" ، وهو خطأ.
(3) في ف : "يحكمه".

(5/334)


وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)

{ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) }.
يقول تعالى منبهًا على شرف القرآن ، ومحرضًا لهم على معرفة قدره : { لَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } قال ابن عباس : شَرَفُكم.
وقال مجاهد : حديثكم. وقال الحسن : دينكم.

(5/334)


وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)

{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } [ الزخرف : 44 ].
وقوله : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً } هذه صيغة تكثير ، كما قال { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ } [ الإسراء : 17].
وقال تعالى : { فَكَأَيِّنْ (1) مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } [ الحج : 45]. وقوله : { وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ } أي : أمة أخرى بعدهم.
{ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا } أي : تيقنوا أن العذاب واقع (2) بهم ، كما وعدهم نبيهم ، { إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ } أي : يفرون هاربين.
{ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ } هذا تهكم بهم قدرًا أي : قيل لهم قدرًا : لا تركضوا هاربين من نزول العذاب ، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور ، والمعيشة والمساكن الطيبة.
قال قتادة : استهزاء بهم.
{ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } أي : عما كنتم فيه من أداء شكر النعمة.
{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك ، { فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ } أي : ما (3) زالت تلك المقالة ، وهي الاعتراف بالظلم ، هِجيراهم حتى حصدناهم حصدًا (4) وخمدت حركاتهم وأصواتهم خمودًا.
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20) }.
يخبر تعالى أنه خلق السموات والأرض بالحق ، أي : بالعدل والقسط ، { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [ النجم : 31] ، وأنه لم يخلق ذلك عبثًا ولا لعبًا ، كما قال : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ (5) وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ ص : 27]
وقوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا } يعني : من عندنا ، يقول : وما خلقنا جنة ولا نارًا ، ولا موتًا ، ولا بعثًا ، ولا حسابًا.
وقال الحسن ، وقتادة ، وغيرهما : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا } اللهو : المرأة بلسان أهل اليمن.
__________
(1) في ف : "وكأين".
(2) في ف : "تيقنوا العذاب أنه واقع".
(3) في ف : "فما".
(4) في ف ، أ : "جعلناهم حصيدا خامدين".
(5) في ف ، أ : "السماوات".

(5/335)


وقال إبراهيم النَّخعِي : { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ } من الحور العين.
وقال عكرمة والسدي : المراد باللهو هاهنا : الولد.
وهذا والذي قبله متلازمان ، وهو كقوله تعالى : { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ } [الزمر : 4] ، فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقًا ، لا سيما عما يقولون من الإفك والباطل ، من اتخاذ عيسى ، أو العزير (1) أو الملائكة ، { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } [ الإسراء : 43].
وقوله : { إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } قال قتادة ، والسدي ، وإبراهيم النخعي ، ومغيرة بن مِقْسَم ، أي : ما كنا فاعلين.
وقال مجاهد : كل شيء في القرآن "إن" فهو إنكار.
وقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ } أي : نبين الحق فيدحض الباطل ؛ ولهذا قال : { فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } أي : ذاهب مضمحل ، { وَلَكُمُ الْوَيْلُ } أي : أيها القاتلون : لله ولد ، { مِمَّا تَصِفُونَ } أي : تقولون وتفترون.
ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ، ودأبهم في طاعته ليلا ونهارًا ، فقال : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ } يعني : الملائكة ، { لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي : لا يستنكفون عنها ، كما قال : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } [ النساء : 172].
وقوله : { وَلا يَسْتَحْسِرُونَ } أي : لا يتعبون ولا يَملُّون.
{ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } فهم دائبون في العمل ليلا ونهارًا ، مطيعون قصدًا وعملا قادرون عليه ، كما قال تعالى : { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن أبي دُلامة البغدادي ، أنبأنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن صفوان بن مُحرِز ، عن حكيم بن حِزَام قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه ، إذ قال لهم : "هل تسمعون ما أسمع ؟" قالوا : ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني لأسمع أطيط السماء ، وما تلام أن تئط ، وما فيها موضع شِبْر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم". غريب ولم يخرجوه (2).
ثم رواه ابن أبي حاتم من طريق يزيد بن زُرَيْع ، عن سعيد ، عن قتادة مرسلا.
وقال أبو إسحاق (3) ، عن حسان بن مخارق ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام ، فقلت له : أرأيت قول الله [للملائكة] (4) { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ }
__________
(1) في ف : "أو عزيز".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (3/201) والطحاوي في مشكل الآثار برقم (1134) من طريق عبد الوهاب بن عطاء به ، وله شاهد من حديث أبي ذر الغفاري أخرجه الترمذي في السنن برقم (2312) وقال : "هذا حديث حسن غريب".
(3) في هـ ، ف ، أ : "محمد بن إسحاق" والمثبت من الطبري 17/70.
(4) زيادة من ف ، أ.

(5/336)


أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)

أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل ؟. فقال : فمن هذا الغلام ؟ فقالوا : من بني عبد المطلب ، قال : فقبل رأسي ، ثم قال لي : يا بني ، إنه جعل لهم التسبيح ، كما جعل لكم النفس ، أليس تتكلم وأنت تتنفس (1) وتمشي وأنت تتنفس ؟.
{ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) }
ينكر (2) تعالى على من اتخذ من دونه آلهة ، فقال : بل { اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ } أي : أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض ؟ أي : لا يقدرون على شيء من ذلك. فكيف جعلوها لله ندًا وعبدوها معه.
ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات الأرض ، فقال { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ } أي : في السماء والأرض ، { لَفَسَدَتَا } ، كقوله تعالى : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [ المؤمنون : 91] ، وقال هاهنا : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي : عما يقولون إن له ولدًا أو شريكًا ، سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علوًا كبيرًا.
وقوله : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } أي : هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يعترض عليه أحد ، لعظمته وجلاله وكبريائه ، وعلوه وحكمته وعدله ولطفه ، { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } أي : وهو سائل خلقه عما يعملون ، كقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92 ، 93] وهذا كقوله تعالى : { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } [ المؤمنون : 88].
{ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) }
__________
(1) في ف : "وأنت تمشي".
(2) في ف : "فينكر".

(5/337)


وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)

{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) }
يقول تعالى : بل { اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ } يا محمد : { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } أي : دليلكم على ما تقولون ، { هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ } يعني : القرآن ، { وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } يعني : الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولون وتزعمون ، فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ، ناطق بأنه لا إله إلا الله ، ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق ، فأنتم معرضون عنه ؛ ولهذا قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا يُوحَى (1) إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } ، كما قال : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف : 45] ،
__________
(1) في ف ، أ : "نوحي".

(5/337)


وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)

وقال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36] ، فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والفطرة شاهدة بذلك أيضا ، والمشركون لا برهان لهم ، وحجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ، ولهم عذاب شديد.
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) }.
يقول تعالى ردًا على من زعم أن له - تعالى وتقدس - ولدًا من الملائكة ، كمن قال ذلك من العرب : إن الملائكة بنات الله ، فقال : { سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } أي : الملائكة عباد الله مكرمون عنده ، في منازل عالية ومقامات سامية ، وهم له في غاية الطاعة قولا وفعلا.
{ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } أي : لا يتقدمون بين يديه بأمر ، ولا يخالفونه فيما أمر (1) به بل يبادرون إلى فعله ، وهو تعالى عِلْمه محيط بهم ، فلا يخفى عليه منهم خافية ، { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }
وقوله : { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } كقوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255] ، وقوله : { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ : 23] ، في آيات كثيرة في معنى ذلك.
{ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ } أي : من خوفه ورهبته { مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ } أي : من ادعى منهم أنه إله من دون الله ، أي : مع الله ، { فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } أي : كل من قال ذلك ، وهذا شرط ، والشرط لا يلزم وقوعه ، كقوله : { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [الزخرف : 81] ، وقوله { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر : 65].
{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) }.
يقول تعالى منبهًا على قدرته التامة ، وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء ، وقهره لجميع المخلوقات ، فقال : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : الجاحدون لإلهيته العابدون (2) معه غيره ، ألم يعلموا
__________
(1) في ف ، أ : "أمرهم".
(2) في أ : "العابدين".

(5/338)


أن الله هو المستقل بالخلق ، المستبد بالتدبير ، فكيف يليق أن يعبد غيره أو يشرك به ما سواه ، ألم (1) يروا { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا } أي : كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكم ، بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ، ففتق هذه من هذه. فجعل السموات سبعًا ، والأرض (2) سبعًا ، وفصل بين سماء الدنيا والأرض بالهواء ، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ؛ ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ } أي : وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئًا فشيئًا عيانًا ، وذلك دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء : فَفِي كُلّ شيء لَهُ آيَة... تَدُلّ علَى أنَّه وَاحد...
قال سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن عكرمة قال : سئل ابن عباس : الليل كان قبل أو النهار ؟ فقال : أرأيتم السموات والأرض حين كانتا رتقًا ، هل كان بينهما إلا ظلمة ؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن أبي حمزة ، حدثنا حاتم ، عن حمزة بن أبي محمد ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ؛ أن رجلا أتاه يسأله عن السموات والأرض { كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ؟. قال : اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ، ثم تعال فأخبرني بما قال لك. قال : فذهب إلى ابن عباس فسأله. فقال ابن عباس : نعم ، كانت السموات رتقًا لا تمطر ، وكانت الأرض رتقًا لا تنبت.
فلما خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر ، وفتق هذه بالنبات. فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره ، فقال ابن عمر : الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علمًا ، صدق - هكذا كانت. قال ابن عمر : قد كنت أقول : مما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن ، فالآن قد علمت أنه قد أوتي في القرآن علمًا.
وقال عطية العَوْفي : كانت هذه رتقًا لا تمطر ، فأمطرت. وكانت هذه رتقًا لا تنبت ، فأنبتت.
وقال إسماعيل بن أبي خالد : سألت أبا صالح الحنَفِي عن قوله : { أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } ، قال : كانت السماء واحدة ، ففتق منها سبع سماوات ، وكانت الأرض واحدة ففتق منها سبع أرضين.
وهكذا قال مجاهد ، وزاد : ولم تكن السماء والأرض متماستين.
وقال سعيد بن جبير : بل كانت السماء والأرض ملتزقتين ، فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض ، كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه. وقال الحسن ، وقتادة ، كانتا جميعًا ، ففصل بينهما بهذا الهواء.
وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } أي : أصل كل الأحياء منه.
__________
(1) في أ : "أولم"."
(2) في ف ، أ : "والأرضين".

(5/339)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر (1) ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة عن أبي ميمونة (2) ، عن أبي هريرة أنه قال : يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني ، وطابت نفسي ، فأخبرني عن كل شيء ، قال : "كل شيء خلق من ماء".
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أبي ميمونة ، عن أبي هريرة قال : قلت : يا رسول الله ، إني إذا رأيتك طابت نفسي ، وقرت عيني ، فأنبئني عن كل شيء. قال : "كل شيء خلق من ماء" قال : قلت : أنبئني عن أمر إذا عملتُ به دخلت الجنة. قال : "أفْش السلام ، وأطعم الطعام ، وصِل الأرحام ، وقم بالليل والناس نيام ، ثم ادخل الجنَّة بسلام" (3).
ورواه أيضا عبد الصمد وعفان وبَهْز ، عن همام (4). تفرد به أحمد ، وهذا إسناد على شرط الصحيحين ، إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن ، واسمه سليم ، والترمذي يصحح له. وقد رواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة مرسلا والله (5) أعلم.
وقوله : { وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ } أي : جبالا أرسى الأرض بها وقرّرها وثقلها ؛ لئلا تميد بالناس ، أي : تضطرب وتتحرك ، فلا يحصل لهم عليها قرار (6) لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع ، فإنه باد للهواء والشمس ، ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الآيات الباهرات ، والحكم والدلالات ؛ ولهذا قال : { أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ } أي : لئلا تميد بهم.
وقوله : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا } أي : ثغرًا في الجبال ، يسلكون فيها طرقًا من قطر إلى قطر ، وإقليم إلى إقليم ، كما هو المشاهد في الأرض ، يكون الجبل حائلا بين هذه البلاد وهذه البلاد ، فيجعل الله فيه فجوة - ثغرة - ليسلك الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا ؛ ولهذا قال : { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }.
وقوله : { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا } أي : على الأرض وهي كالقبة عليها ، كما قال : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات : 47] ، وقال : { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } [الشمس : 5] ، { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ } [ق : 6] ، والبناء هو نصب القبة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بُنِي الإسلام على خمس" أي : خمس (7) دعائم ، وهذا لا يكون إلا في الخيام ، على ما (8) تعهده العرب.
{ مَّحْفُوظًا } أي : عاليًا محروسًا أن يُنال. وقال مجاهد : مرفوعا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدَّشْتَكي ، حدثني
__________
(1) في ف ، أ : "الجماهير".
(2) في ف ، أ : "أبي ميمون".
(3) المسند (2/295) ورواه الحاكم في المستدرك (4/129) من طريق يزيد بن هارون وصححه. ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (642) "موارد" من طريق أبي عامر العقدي عن همام به.
(4) المسند (2/323 - 493) من طريق عبد الصمد ، (2/323) من طريق عفان ، (2/324) من طريق بهز. وقال الهيثمي في المجمع (5/16) : "رجاله رجال الصحيح ، خلا أبي ميمونة وهو ثقة".
(5) في ف : "فالله".
(6) في ف : "قرار عليها".
(7) في ف : "خمسة".
(8) في ف : " كما".

(5/340)


وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)

أبي ، عن أبيه ، عن أشعث - يعني ابن إسحاق القُمِّي - عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، قال رجل : يا رسول الله ، ما هذه السماء ، قال : "موج مكفوف عنكم" (1) إسناد غريب.
وقوله : { وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } ، كقوله : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [يوسف : 105] أي : لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم ، والارتفاع الباهر ، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ، وفي نهارها (2) من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله ، في يوم وليلة فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الذي (3) قدرها وسخرها وسيرها.
وقد ذكر ابن أبي الدنيا ، رحمه الله ، في كتابه "التفكر والاعتبار" : أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة ، وكان الرجل منهم إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة ، فلم ير ذلك الرجل شيئًا مما كان يرى لغيره ، فشكى ذلك إلى أمه ، فقالت له : يا بني ، فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه ، فقال : لا والله ما أعلم ، قالت : فلعلك هممت ؟ قال : لا (4) ولا هممت. قالت : فلعلك رفعت بصرك إلى السماء ثم رددته بغير فكر ؟ فقال : نعم ، كثيرًا. قالت : فمن هاهنا أتيت.
ثم قال منبهًا على بعض آياته : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : هذا في ظلامه وسكونه ، وهذا بضيائه وأنسه ، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى ، وعكسه الآخر. { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } هذه لها نور يخصها ، وفلك بذاته ، وزمان على حدة ، وحركة وسير خاص ، وهذا بنور خاص آخر ، وفلك آخر ، وسير آخر ، وتقدير آخر ، { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40] ، أي : يدورون.
قال ابن عباس : يدورون كما يدور المغزل في الفلكة. وكذا قال مجاهد : فلا يدور المغزل إلا بالفلكة ، ولا الفلكة إلا بالمغزل ، كذلك النجوم والشمس والقمر ، لا يدورون إلا به ، ولا يدور إلا بهن ، كما قال تعالى : { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96].
{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) }.
يقول تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ } أي : يا محمد ، { الْخُلْدَ } أي : في الدنيا بل { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } [ الرحمن : 26 ، 27].
وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر ، عليه السلام ، مات وليس بحي إلى الآن ؛ لأنه بشر ، سواء كان وليًا أو نبيًا أو رسولا وقد قال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ }.
__________
(1) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (539) من طريق أحمد بن القاسم عن أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي به.
(2) في ف ، أ : "النهار".
(3) في ف ، أ : "الله".
(4) في ف ، أ : "بل والله".

(5/341)


وقوله : { أَفَإِنْ مِتَّ } أي : يا محمد ، { فَهُمُ الْخَالِدُونَ } ؟! أي : يؤملون أن يعيشوا بعدك ، لا يكون هذا ، بل كل إلى فناء ؛ ولهذا قال : { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } ، وقد روي عن الشافعي ، رحمه الله ، أنه أنشد واستشهد بهذين البيتين : تمنى رجال أن أموت وإن أمت فَتلْكَ سَبيل لَسْت فيهَا بأوْحد
فقُلْ للَّذي يَبْغي خلاف الذي مضى : تَهَيَّأ لأخْرى مثْلها فكَأن قد (1)
وقوله : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } أي : نختبركم بالمصائب تارة ، وبالنعم أخرى ، لننظر من يشكر ومن يكفر ، ومن يصبر ومن يقنط ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ونبلوكم } ، يقول : نبتليكم بالشر والخير فتنة ، بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والحلال والحرام ، والطاعة والمعصية والهدى والضلال..
وقوله : { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي : فنجازيكم بأعمالكم.
__________
(1) البيتان ذكرهما البيهقي في مناقب الشافعي (2/62) والرازي في مناقب الشافعي (ص119).

(5/342)


وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)

{ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) }.
يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني : كفار قريش كأبي جهل وأشباهه { إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا } أي : يستهزئون بك وينتقصونك ، يقولون : { أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } يعنون : أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم ، قال تعالى : { وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ } أي : وهم كافرون بالله ، ومع هذا يستهزئون برسول الله ، كما قال في الآية الأخرى : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا. إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا } [ الفرقان : 41 ، 42].
وقوله : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } ، كما قال في الآية الأخرى : { وَكَانَ (1) الإنْسَانُ عَجُولا } [الإسراء : 11] أي : في الأمور.
قال مجاهد : خلق الله آدم بعد كل شيء من آخر النهار ، من يوم خلق الخلائق فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ، ولم يبلغ (2) أسفله قال : يا رب ، استعجل بخلقي قبل غروب الشمس.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا محمد بن علقمة بن وقاص الليثي ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خير يوم طلعت فيه
__________
(1) في ف : "وخلق".
(2) في ف : "تبلغ".

(5/342)


وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)

الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة ، وفيه أهبط منها ، وفيه تقوم الساعة ، وفيه ساعة لا يوافقها مؤمن يصلي - وقبض أصابعه قَلَّلَها (1) - فسأل الله خيرًا ، إلا أعطاه إياه". قال أبو سلمة : فقال عبد الله بن سلام : قد عرفت تلك الساعة ، وهي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة ، وهي التي خلق الله فيها آدم ، قال الله تعالى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ } (2).
والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول ، صلوات الله [وسلامه] (3) عليه ، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت (4) ، فقال الله تعالى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } ؛ لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، يؤجل ثم يعجل ، وينظر ثم لا يؤخر ؛ ولهذا قال : { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي } أي : نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني ، { فَلا تَسْتَعْجِلُونِ }.
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) }.
يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضًا بوقوع العذاب بهم ، تكذيبًا وجحودًا وكفرًا وعنادًا واستبعادًا ، فقال : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
قال الله تعالى : { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ } أي : لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا ، به ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16] ، { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41] ، وقال في هذه الآية : { حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ } وقال : { سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ } [إبراهيم : 50] ، فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم ، { وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي : لا ناصر لهم كما قال : { وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ } [الرعد : 34].
وقوله : { بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً } (5) أي : "تأتيهم النار بغتة" ، أي : فجأة { فَتَبْهَتُهُمْ } أي : تذعرهم (6) فيستسلمون لها حائرين ، لا (7) يدرون ما يصنعون ، { فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } أي : ليس لهم حيلة في ذلك ، { وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي : ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.
__________
(1) في أ : "يقللها"
(2) أخرج مالك في الموطأ (1/108) من طريق يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه دون ذكر الآية وأخرج الشيخان أوله والله أعلم.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "واستعجلت ذلك".
(5) في ف : "بغته فتبهتهم"
(6) في ف ، أ : "تدعوهم".
(7) في ف : "حائرون ولا".

(5/343)


وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)

{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) }.
يقول تعالى مسليًا لرسوله [صلوات الله وسلامه عليه] (1) عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } يعني : من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ } [الأنعام : 34].
ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه لهم بالليل والنهار ، وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام ، فقال : { قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ } ؟ أي : بدل الرحمن بمعني غيره كما قال الشاعر (2)
جَارية لَمْ تَلْبَس المُرقَّقا... وَلَم تَذق منَ البُقول الفُسْتُقا...
أي : لم تذق بدل البقول الفستق.
وقوله تعالى : { بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ } أي : لا يعترفون (3) بنعمه عليهم وإحسانه إليهم ، بل يعرضون عن آياته وآلائه ، ثم قال { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا } استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ ، أي : ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا ؟ ليس الأمر كما توهموا ولا كما (4) زعموا ؛ ولهذا قال : { لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ } أي : هذه [الآلهة] (5) التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم.
وقوله : { وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ } قال العوفي ، عن ابن عباس : { وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ } أي : يجارون (6) وقال قتادة لا يصحبون [من الله] (7) بخير وقال غيره : { وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ } يمنعون.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) هو أبو نخيلة يعمر بن حزن ، والبيت في اللسان مادة (فسق) وصدره : دسته لم تأكل المرققا
وقد حمل صاحب اللسان قوله بأنه ظن الفستق من البقول.
(3) في ف ، أ : "لا يعرفون".
(4) في ف ، أ : "ولا قد كما".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف ، أ : "يجازون".
(7) زيادة من ف.

(5/344)


بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)

{ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) }.

(5/345)


قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)

{ قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) }.
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين : إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال ، أنهم مُتّعوا في الحياة الدنيا ، ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه ، فاعتقدوا أنهم على شيء.
ثم قال واعظًا لهم : { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } اختلف المفسرون في معناه ، وقد أسلفناه في سورة "الرعد" ، وأحسن ما فسر بقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الاحقاف : 27].
وقال الحسن البصري : يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر.
والمعنى : أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه ، وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة ، وإنجائه لعباده المؤمنين ؛ ولهذا قال : { أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ } يعني : بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون.
وقوله : { قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ } أي : إنما أنا مبلغ (1) عن الله ما أنذركم (2) به من العذاب والنكال ، ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إليّ ، ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته ، وختم على سمعه وقلبه ؛ ولهذا قال : { وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ }.
وقوله : { وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي : ولئن مس هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله ، ليعترفن بذنوبهم ، وأنهم كانوا ظالمين أنفسهم في الدنيا.
وقوله : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا } أي : ونضع الموازين العدل ليوم القيامة. الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد ، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه.
وقوله : { فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } كما قال تعالى : { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف : 49] ، وقال : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 40] ، وقال لقمان : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : "كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم" (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطَّالَقَاني ، حدثنا ابن المبارك ، عن ليث بن سعد ، حدثني عامر بن يحيى ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، قال : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر ، ثم يقول أتنكر من هذا شيئًا ؟
__________
(1) في ف ، أ : "مبلغكم".
(2) في ف ، أ : "أنذرتكم".
(3) صحيح البخاري برقم (7563) وصحيح مسلم برقم (2694).

(5/345)


أظلمتك كتبتي الحافظون ؟ قال : لا يا رب ، قال : أفلك عذر ، أو حسنة ؟" قال : فيبهت الرجل فيقول : لا يا رب. فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة واحدة ، لا ظلم اليوم عليك. فيخرج له بطاقة فيها : "أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن (1) محمدًا عبده ورسوله" فيقول : أحضروه ، فيقول : يا رب ، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول : إنك لا تظلم ، قال : "فتوضع السجلات في كفة [والبطاقة في كفة]" (2) ، قال : "فطاشت السجلات وثقلت البطاقة" قال : "ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم" (3).
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث الليث بن سعد ، به ، (4) وقال الترمذي : حسن غريب.
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن عمرو بن يحيى ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "توضع الموازين (5) يوم القيامة ، فيؤتى بالرجل ، فيوضع في كفة ، فيوضع (6) ما أحصى عليه ، فتايل (7) به الميزان" قال : "فيبعث به إلى النار" قال : فإذا أدبر به إذا (8) صائح من عند الرحمن عز وجل يقول : [لا تعجلوا] (9) ، فإنه قد بقي له ، فيؤتى ببطاقة فيها "لا إله إلا الله" فتوضع مع الرجل في كفة (10) حتى يميل به الميزان" (11).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو نوح قراد (12) أنبأنا ليث بن سعد ، عن مالك بن أنس ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ؛ أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جلس بين يديه ، فقال : يا رسول الله ، إن لي مملوكين ، يكذبونني ، ويخونونني ، ويعصونني ، وأضربهم وأشتمهم ، فكيف أنا منهم ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم ، إن (13) كان عقابك إياهم دون ذنوبهم ، كان فضلا لك [عليهم] (14) وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم ، كان كفافا لا لك ولا عليك ، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم ، اقتص لهم منك الفضل الذي يبقى (15) قبلك". فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويهتف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما له أما يقرأ كتاب الله ؟ : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } فقال الرجل : يا رسول الله ، ما أجد شيئًا خيرًا من فراق هؤلاء - يعني عبيده - إني أشهدك أنهم أحرار كلهم (16).
__________
(1) في ف : "وأشهد أن".
(2) زيادة من ف ، والمسند.
(3) المسند (2/213).
(4) سنن الترمذي برقم (2639) وسنن ابن ماجه برقم (4300).
(5) في ف : "يوضع الميزان".
(6) في ف : "ويوضع".
(7) في ف : "فيمايل".
(8) في ف : "فإذا"
(9) زيادة من ف ، والمسند.
(10) في ف : "كفته".
(11) المسند (2/221).
(12) في ف ، أ : "مرارا".
(13) في ف : "فإن".
(14) زيادة من ف ، والمسند.
(15) في ف : "بقي".
(16) المسند (6/280).

(5/346)


وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)

{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) }.
قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيرًا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد ، صلوات الله وسلامه عليهما ، وبين كتابيهما ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ }. قال مجاهد : يعني : الكتاب. وقال أبو صالح : التوراة ، وقال قتادة : التوراة ، حلالها وحرامها ، وما فرق الله بين الحق والباطل. وقال ابن زيد : يعني : النصر.
وجامع القول في ذلك : أن الكتب السماوية تشتمل على التفرقة بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، والحلال والحرام ، وعلى ما يحصل نورًا في القلوب ، وهداية وخوفًا وإنابة وخشية ؛ ولهذا قال : { الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ } أي : [تذكيرًا] (1) لهم وعظة.
ثم وصفهم فقال : { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } كقوله { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } [ ق : 33] ، وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [الملك : 12] ، { وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ } أي : خائفون وجلون.
ثم قال تعالى : { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزلْنَاهُ } يعني : القرآن العظيم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، { أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي : أفتنكرونه وهو في غاية [الجلاء] (2) والظهور ؟.
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) }.
يخبر تعالى عن خليله إبراهيم ، عليه السلام ، أنه آتاه رشده من قبل ، أي : من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه ، كما قال تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } [الأنعام : 83] ، وما يذكر من الأخبار عنه (3) في إدخال أبيه له في السرب ، وهو رضيع ، وأنه خرج به بعد أيام ، فنظر إلى الكوكب والمخلوقات ، فتبصر فيها وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم - فعامتها أحاديث بني إسرائيل ، فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه لموافقته الصحيح ، وما خالف شيئًا من ذلك رددناه ، وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه ، بل نجعله وفقًا ، وما كان من هذا الضرب منها فقد ترخص كثير من السلف في روايتها ، وكثير من ذلك ما لا فائدة فيه ، ولا حاصل له
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.
(3) في ف : "عنه من الأخبار".

(5/347)


وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)

مما ينتفع به في الدين. ولو كانت فيه فائدة تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة. والذي نسلكه (1) في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية ، لما فيها من تضييع الزمان ، ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم ، فإنهم لا تفرقة (2) عندهم بين صحيحها وسقيمها كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة.
والمقصود هاهنا : أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده ، من قبل ، أي : من قبل ذلك ، وقوله : { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } أي : وكان أهلا لذلك.
ثم قال : { إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره ، الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله ، عز وجل ، فقال : { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } أي : معتكفون على عبادتها.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد الصباح ، حدثنا أبو معاوية الضرير ، حدثنا سعد بن طريف ، عن الأصبغ بن نباته ، قال : مر عليّ ، على قوم يلعبون بالشطرنج ، فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ لأن يمس أحدكم جمرًا حتى يطفأ خير له من أن يمسها.
{ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } : لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال ؛ ولهذا قال : { لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم ، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم.
فلما سفه أحلامهم ، وضلل آباءهم ، واحتقر آلهتهم { قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ } يقولون (3) : هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعبًا أو محقًا فيه ؟ فإنا لم نسمع به قبلك.
{ قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ } أي : ربكم الذي لا إله غيره ، هو الذي خلق السموات [والأرض] (4) وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن ، وهو الخالق لجميع الأشياء { وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } أي : وأنا أشهد أنه لا إله غيره ، ولا رب سواه.
{ وَتَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) }
__________
(1) في هـ : "يذكر" والمثبت من ف.
(2) في ف : "لا معرفة".
(3) في ف : "يقول".
(4) زيادة من ف.

(5/348)


فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)

{ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) }.
ثم أقسم الخليل قسمًا أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم ، أي : ليحرصن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا (1) مدبرين أي : إلى عيدهم. وكان لهم عيد يخرجون إليه.
__________
(1) في ف : "تولو".

(5/348)


قال السدي : لما اقترب (1) وقت ذلك العيد قال أبوه : يا بني ، لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا! فخرج معهم ، فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض. وقال : إني سقيم ، فجعلوا يمرون عليه وهو صريع ، فيقولون : مه! فيقول : إني سقيم ، فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال : { تَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } فسمعه أولئك.
وقال أبو إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : لما خرج قوم إبراهيم ، إلى عيدهم مروا عليه فقالوا : يا إبراهيم ألا تخرج معنا ؟ قال : إني سقيم. وقد كان بالأمس قال : { تَاللَّهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ } فسمعه ناس منهم.
وقوله : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا } أي : حطامًا كسرها كلها { إِلا كَبِيرًا لَهُمْ } يعني : إلا الصنم الكبير عندهم كما قال : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ } [ الصافات : 93].
وقوله : { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم ، لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غَارَ لنفسه ، وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار ، فكسرها.
{ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها ، وعلى سخافة عقول عابديها { قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : في صنيعه هذا.
{ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } أي : قال من سمعه يحلف أنه ليكيدنهم : { سَمِعْنَا فَتًى } أي : شابًا { يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن قابوس [عن أبيه] (2) ، عن ابن عباس قال : ما بعث الله نبيًا إلا شابًا ، ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب ، وتلا هذه الآية : { قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }.
وقوله : { قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ } أي : على رءوس الأشهاد في الملإ الأكبر بحضرة الناس كلهم ، وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم أن يتبين (3) في هذا المحفل العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم (4) في عبادة هذه الأصنام التي لا تدفع عن نفسها ضرًا ، ولا تملك (5) لها نصرًا ، فكيف يطلب منها شيء من ذلك ؟.
{ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } يعني : الذي تركه لم يكسره { فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ } وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم ، فيعترفوا أنهم لا ينطقون ، فإن هذا لا يصدر عن هذا الصنم ، لأنه جماد.
وفي الصحيحين من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن إبراهيم ، عليه السلام ، لم يكذب غير ثلاث : ثنتين في ذات الله (6) ، قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } وقوله { إِنِّي سَقِيمٌ } قال : "وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه
__________
(1) في ف : "قرب".
(2) زيادة من ف.
(3) في ف ، أ : "يبين".
(4) في ف : "عقولهم".
(5) في ف : "ولا تستطيع".
(6) في ف ، أ : "كتاب".

(5/349)


فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)

سارة ، إذ نزل منزلا فأتى الجبار رجل ، فقال : إنه قد نزل بأرضك رجل معه امرأة أحسن الناس ، فأرسل إليه فجاء ، فقال : ما هذه المرأة منك ؟ قال : هي أختي. قال : فاذهب فأرسل بها إليّ ، فانطلق إلى سارة فقال : إن هذا الجبار (1) سألني عنك فأخبرته أنك أختي فلا تكذبيني عنده ، فإنك أختي في كتاب الله ، وأنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك ، فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي. فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها ، فتناولها ، فأخذ أخذًا شديدًا ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت له فأرسل ، فأهوى إليها ، فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد. ففعل ذلك الثالثة فأخذ ، [فذكر] (2) مثل المرتين الأوليين (3) فقال ادعي الله فلا أضرك. فدعت ، له فأرسل ، ثم دعا أدنى حجابه ، فقال : إنك لم تأتني بإنسان ، وإنما (4) أتيتني بشيطان ، أخرجها وأعطها هاجر ، فأخرجت وأعطيت هاجر ، فأقبلت ، فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته ، قال (5) : مَهْيَم ؟ قالت : كفى الله كيد الكافر الفاجر ، وأخدمني هاجر" قال محمد بن سيرين (6) وكان (7) : أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال : فتلك أمكم يا بني ماء السماء (8)
{ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) }.
يقول تعالى مخبرًا (9) عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال : { فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ } أي : بالملامة في عدم احترازهم وحراستهم لآلهتهم ، فقالوا : { إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ } أي : في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها ، { ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ } أي : ثم أطرقوا في الأرض فقالوا : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ } قال قتادة : أدركت القوم حيرة سوء فقالوا : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ }.
وقال السدي : { ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ } أي : في الفتنة.
وقال ابن زيد : أي في الرأي.
وقول قتادة أظهر في المعنى ؛ لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزًا ؛ ولهذا قالوا له : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ } ، فكيف تقول لنا : سلوهم إن كانوا ينطقون ، وأنت تعلم أنها لا تنطق فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك : { أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ } أي : إذا كانت لا تنطق (10) ، وهي لا تضر ولا تنفع ، فلم تعبدونها من دون الله.
{ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ }
__________
(1) في ف : "الجبار قد سألني".
(2) زيادة من ف ، والسنن.
(3) في ف ، أ : "الأولتين".
(4) في ف : "ولكنك".
(5) في ف : "وقال".
(6) في ف ، أ : "إدريس".
(7) في ف : "فكان".
(8) لم أجده في الصحيحين من طريق هشام بن حسان وإنما هو في السنن : فرواه أبو داود في السنن برقم (2212) من طريق عبد الوهاب الثقفي عن هشام بن حسان. ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (8374) من طريق أبي أسامة عن هشام بن حسان. وهو في الصحيحين من طريق أيوب عن محمد بن سيرين ؛ صحيح البخاري برقم (5084) ، وصحيح مسلم برقم (2371).
(9) في ف ، أ : "يخبر تعالى".
(10) في أ : "كان لا ينطق".

(5/350)


قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)

أي : أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ ، الذي لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر ؟ فأقام عليهم الحجة ، وألزمهم بها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } الآية [ الانعام : 83].
{ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ (70) }.
لما دَحَضت حجتهم ، وبان عجزهم ، وظهر الحق ، واندفع الباطل ، عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم ، فقالوا : { حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } فجمعوا حطبًا كثيرًا جدًا - قال السدي : حتى إن كانت المرأة تمرض ، فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطبًا لحريق إبراهيم - ثم جعلوه في جَوْبة من الأرض ، وأضرموها نارًا ، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع ، لم توقد قط نار (1) مثلها ، وجعلوا إبراهيم ، عليه السلام ، في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد - قال شُعَيب الجبائي : اسمه هيزن - فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، فلما ألقوه قال : "حسبي الله ونعم الوكيل" ، كما رواه البخاري ، عن ابن عباس أنه قال : "حسبي (2) الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها (3) محمد حين قالوا : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } [ آل عمران : 173] (4).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا ابن هشام ، حدثنا إسحاق (5) بن سليمان ، عن أبي جعفر ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما ألقي إبراهيم ، عليه السلام ، في النار قال : اللهم ، إنك في السماء واحد ، وأنا في الأرض واحد أعبدك" (6).
ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال : لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ، ولك الملك ، لا شريك لك (7).
وقال شعيب الجبائي : كان عمره ست عشرة سنة. فالله أعلم.
وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء ، فقال : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا [وأما من الله فبلى] (8).
__________
(1) في ف ، "نار قط".
(2) في ف : "حسبنا".
(3) في ف : "وقال".
(4) صحيح البخاري برقم (4563)
(5) في ف ، أ : "أبو إسحاق".
(6) ورواه البزار في مسنده برقم (2349) "كشف الأستار" وأبو نعيم في الحلية (1911) والخطيب في تاريخ بغداد (10/346) من طريق أبي هشام الرفاعي به. وقال البزار : "لا نعلم رواه عن عاصم إلا أبا جعفر ، ولا عنه إلا إسحاق ، ولم نسمعه إلا من أبي هشام" قلت : عاصم بن عمر بن حفص متكلم فيه.
(7) رواه الطبري في تفسيره كما في الدار المنثور (5/642) عن أرقم.
(8) زيادة من ف.

(5/351)


وقال سعيد بن جبير - ويروى (1) عن ابن عباس أيضًا - قال : لما أُلقيَ إبراهيم جعل خازن المطر يقول : متى أومر بالمطر فأرسله ؟ قال : فكان (2) أمر الله أسرع من أمره ، قال الله : [عز وجل] (3) { يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } قال : لم (4) يبق نار في الأرض إلا طفئت.
وقال كعب الأحبار : لم ينتفع [أحد] (5) يومئذ بنار ، ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه.
وقال الثوري ، عن الأعمش ، عن شيخ ، عن علي بن أبي طالب : { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [قال : بَرَدَتْ عليه حتى كادت تقتله ، حتى قيل : { وَسَلامًا } ] (6) ، قال : لا تضرِّيه.
وقال ابن عباس ، وأبو العالية : لولا أن الله عز وجل قال : { وَسَلامًا } لآذى إبراهيم بَرْدُها.
وقال جُوَيبر ، عن الضحاك : { كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ } قال : صنعوا له حظيرة من حَطَب جَزْل ، وأشعلوا فيه النار من كل جانب ، فأصبح ولم يصِبه منها شيء حتى أخمدها الله - قال : ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق ، فلم يُصِبْه منها شيء غيرُ ذلك.
وقال السدي : كان معه فيها ملك الظل.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا مِهْران ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن المِنْهَال بن عمرو قال : أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار ، فقال : كان (7) فيها إما خمسين وإما أربعين ، قال : ما كنت أيامًا وليالي قط أطيب عيشًا إذ كنت فيها ، وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها.
وقال أبو زُرْعَة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة قال : إن أحسن [شيء] (8) قال أبو إبراهيم - لما رفع عنه الطبق وهو في النار ، وجده يرش جبينه - قال عند ذلك : نعْمَ الربّ ربك يا إبراهيم.
وقال قتادة : لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار ، إلا الوَزَغ - وقال الزهري : أمر النبي صلى الله عليه وسلم : بقتله وسماه فويسقًا (9).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، حدثني عمي ، حدثنا جرير بن حازم ، أن نافعًا حدثه قال : حدثتني مولاة (10) الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت : دخلت على عائشة فرأيت في بيتها رمحا. فقلت : يا أم المؤمنين ، ما تصنعين بهذا الرمح ؟ فقالت : نقتل به هذه الأوزاغ ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن إبراهيم حين ألقي في النار ، لم يكن (11) في الأرض دابة إلا تطفئ النار ، غير الوَزَغ ، فإنه كان ينفخ على إبراهيم" ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله (12).
__________
(1) في ف ، أ : "وروي".
(2) في ف : "وكان".
(3) زيادة من ف.
(4) في ف ، أ : "فلم".
(5) زيادة من ف.
(6) زيادة من ف.
(7) في ف : "فكان".
(8) زيادة من ف.
(9) جاء من حديث أم شريك : رواه البخاري برقم (3307) ومسلم في صحيحه برقم (2237).
(10) في ف ، أ : "حدثني مولاه".
(11) في ف : "تكن"
(12) ورواه أحمد في المسند (6/83 ، 109) وابن ماجه في السنن برقم (3231) من طريق نافع عن سائبة مولاة الفاكه به.

(5/352)


وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)

وقوله : { وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ } أي : المغلوبين الأسفلين ؛ لأنهم أرادوا بنبي الله كيدا ، فكادهم الله ونجاه من النار ، فغلبوا هنالك.
وقال عطية العوفي : لما ألقِيَ إبراهيم في النار ، جاء ملكهم لينظر إليه فطارت شرارة فوقعت على إبهامه ، فأحرقته مثل الصوفة.
{ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) }

(5/353)


وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) }.
يقول تعالى مخبرًا عن إبراهيم ، أنه سلمه الله من نار قومه ، وأخرجه من بين أظهرهم مهاجرًا إلى بلاد الشام ، إلى الأرض المقدسة منها ، كما قال الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب في قوله : { إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } قال : الشام ، وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة.
وكذا قال أبو العالية أيضًا.
وقال قتادة : كان بأرض العراق ، فأنجاه الله إلى الشام ، [وكان يقال للشام : عماد دار الهجرة ، وما نقص من الأرض زيد في الشام] (1) وما نقص من الشام زيد في فلسطين. وكان يقال : هي أرض المحشر والمنشر ، وبها ينزل عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، وبها يهلك المسيح الدجال.
وقال كعب الأحبار في قوله : { إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } إلى حران.
وقال السدي : انطلق إبراهيم ولوط قِبَل الشام ، فلقي إبراهيم سارة ، وهي ابنة ملك حران ، وقد طعنت على قومها في دينهم ، فتزوجها على ألا يغيرها.
رواه ابن جرير ، وهو غريب [والمشهور أنها ابنة عمه ، وأنه خرج بها مهاجرًا من بلاده] (2).
وقال العَوفي ، عن ابن عباس : إلى مكة ؛ ألا تسمع قوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 96].
وقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } قال عطاء ، ومجاهد : عطية.
وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحكم بن عُيينة : النافلة ولد الولد ، يعني : أن يعقوب ولد إسحاق ، كما قال : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71].
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.

(5/353)


وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : سأل واحدًا فقال : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } [ الصافات : 100] ، فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة.
{ وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ } أي : الجميع أهل خير وصلاح ، { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } أي : يقتدي بهم ، { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي : يدعون إلى الله بإذنه ؛ ولهذا قال : { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ } من باب عطف الخاص على العام ، { وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ } أي : فاعلين لما يأمرون الناس به.
ثم عطف بذكر لوط - وهو لوط بن هاران بن آزر - كان قد آمن بإبراهيم ، واتبعه ، وهاجر معه ، كما قال تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } [العنكبوت : 26] ، فآتاه الله حكمًا وعلمًا ، وأوحى إليه ، وجعله نبيًا ، وبعثه إلى سَدُومَ وأعمالها ، فخالفوه وكذبوه ، فأهلكهم الله ودَمَّر عليهم ، كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز ؛ ولهذا قال : { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ }.
{ وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) }.
يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح ، عليه السلام ، حين دعا على قومه لما كذبوه : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [ القمر : 10] ، { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا } [نوح : 26 ، 27] ، ولهذا قال هاهنا : { إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ (1) وَأَهْلَهُ } أي : الذين آمنوا به كما قال : { وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ } [هود : 40].
وقوله : { مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } أي : من الشدة والتكذيب والأذى ، فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله عز وجل ، فلم يؤمن به منهم إلا القليل ، وكانوا يقصدون لأذاه (2) ويتواصون قرنًا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل على خلافه.
وقوله : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ } أي : ونجيناه وخلصناه منتصرًا من القوم { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } أي : أهلكهم الله بعامة ، ولم يُبْقِ على وجه الأرض منهم أحدًا ؛ إذ (3) دعا عليهم نبيهم.
__________
(1) في ف ، أ : "ونجيناه".
(2) في ف : أذاه".
(3) في ف : "كما".

(5/354)


وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)

{ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) }

(5/355)


وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)

{ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) }.
قال ابن إسحاق ، عن مُرّة ، عن ابن مسعود : كان ذلك الحرث كرمًا قد نَبَتَتْ عناقيده. وكذا قال شُرَيْح.
قال ابن عباس : النَّفْشُ : الرعي.
وقال شُرَيح ، والزهري ، وقتادة : النَّفْشُ بالليل. زاد قتادة : والهَمْلُ بالنهار.
قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب وهارون بن إدريسَ الأصم قالا حدثنا المحاربي ، عن أشعت ، عن أبي إسحاق ، عن مُرّة ، عن ابن مسعود في قوله : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } قال : كرم قد أنبتت عناقيده ، فأفسدته. قال : فقضى داود بالغَنَم لصاحب الكَرْم ، فقال سليمان : غيرُ هذا يا نبي الله! قال : وما ذاك ؟ قال : تدفع الكرم إلى صاحب الغنم ، فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيُصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ، ودفعت الغنم إلى صاحبها ، فذلك قوله : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ }.
وهكذا روى العَوْفي ، عن ابن عباس.
وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، حدثنا (1) خليفة ، عن ابن عباس قال : فحكم (2) داود بالغنم لأصحاب الحرث ، فخرج الرِّعاء معهم الكلاب ، فقال لهم سليمان : كيف قضى بينكم ؟
فأخبروه ، فقال : لو وليت أمركم لقضيتُ بغير هذا! فأخبر بذلك داود ، فدعاه فقال : كيف تقضي بينهم ؟ قال (3) أدفع الغنم إلى صاحب الحرث ، فيكون له أولادها وألبانها وسلاؤها ومنافعها ويبذُر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثلَ حرثهم ، فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذ أصحاب الحرث الحرثَ وردوا الغنم إلى أصحابها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا خُدَيْج ، عن أبي إسحاق ، عن مُرَّة ، عن مسروق قال : الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرما نفشت فيه الغنم ، فلم تَدَع فيه ورقة ولا عنقودًا من عنب إلا أكلته ، فأتوا داود ، فأعطاهم رقابها ، فقال سليمان : لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها (4) أهلُ الكرم ، فيكون لهم لبنها ونفعها ، ويعطى أهل الغنم الكرم فيصلحوه ويعمروه (5) حتى يعود كالذي كان ليلة نَفَشت فيه الغنم ، ثم يُعطَى أهل الغنم غنمهم ، وأهل الكرم كرمهم.
__________
(1) في ف : "حدثني".
(2) في ف ، أ : "قضى".
(3) في ف : "فقال".
(4) في ف : "فتعطى".
(5) في ف : "فيعمره ويصلحوه".

(5/355)


وهكذا قال شُرَيح ، ومُرَّة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد وغير واحد.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن أبي زياد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا إسماعيل ، عن عامر ، قال : جاء رجلان إلى شُرَيح ، فقال أحدهما : إن شاة هذا قطعت غزلا لي ، فقال شريح : نهارًا أم ليلا ؟ فإن كان نهارًا فقد برئ صاحب الشاة ، وإن كان ليلا ضَمِن ، ثم قرأ : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ } الآية.
وهذا الذي قاله شُرَيح شبيه بما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، من حديث الليث بن سعد ، عن الزهري ، عن حَرام بن مُحَيْصة (1) ؛ أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطًا ، فأفسدت فيه ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها (2). وقد عُلِّل هذا الحديث ، وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب "الأحكام" وبالله التوفيق.
وقوله : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن حميد ؛ أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى ، قال (3) ما يبكيك ؟ قال (4) يا أبا سعيد ، بلغني أن القضاة : رجل اجتهد فأخطأ ، فهو في النار ، ورجل مال به الهوى فهو في النار ، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان ، عليهما السلام ، والأنبياء حكمًا يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم ، قال الله تعالى : { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود. ثم قال - يعني : الحسن - : إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثًا : لا يشترون به ثمنًا قليلا ولا يتبعون فيه الهوى ، ولا يخشون فيه أحدًا ، ثم تلا { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (5) ] } [ص : 26] وقال : { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [ المائدة : 44] ، وقال { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا } [ المائدة : 44].
قلت : أما الأنبياء ، عليهم السلام ، فكلهم معصومون مُؤيَّدون من الله عز وجل. وهذا مما لا خلاف (6) فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف ، وأما من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري ، عن عمرو بن العاص أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ،
__________
(1) في ف : "عن حرام عن الزهري بن محيصة".
(2) المسند (5/435) وسنن أبي داود برقم (3570) وسنن ابن ماجه برقم (2332).
تنبيه : هذا الطريق إنما هو طريق ابن ماجه ، أما أحمد فرواه عن مالك وسفيان ومعمر عن الزهري ، وأما أبو داود فرواه عن معمر والأوزعي عن الزهري.
(3) في ف ، أ : "فقال".
(4) في ف ، أ : "فقال"
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "ما لا اختلاف فيه".

(5/356)


وإذا اجتهد فأخطأ (1) فله أجر" (2) فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه "إياس" من أن القاضي إذا اجتهد فأخطأ فهو في النار ، والله أعلم.
وفي السنن : "القضاة ثلاثة : قاض في الجنة ، وقاضيان في النار : رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى بخلافه ، فهو في النار (3).
وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، حيث قال : حدثنا علي بن حَفْص ، أخبرنا وَرْقاء عن أبي الزِّنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بينما امرأتان معهما ابنان لهما ، جاء (4) الذئب فأخذ أحد الابنين ، فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا. فدعاهما سليمان فقال : هاتوا السكين أشقه بينهما ، فقالت الصغرى : يرحمك الله هو ابنها ، لا تَشُقه ، فقضى به للصغرى" (5).
وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما (6) وبوّب عليه النسائي في كتاب القضاء : (باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق) (7).
وهكذا القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة "سليمان عليه السلام" من تاريخه ، من طريق الحسن بن سفيان ، عن صفوان بن صالح ، عن الوليد بن مسلم ، عن سعيد بن بشر ، عن قتادة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس - فذكر قصة مطولة (8) ملخصها - : أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل ، راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم ، فامتنعت على (9) كل منهم ، فاتفقوا فيما بينهم عليها ، فشهدوا عليها عند داود ، عليه السلام ، أنها مَكَّنت من نفسها كلبًا لها ، قد عودته ذلك منها ، فأمر برجمها. فلما كان عشية ذلك اليوم ، جلس سليمان ، واجتمع معه وِلْدانٌ ، مثله ، فانتصب حاكمًا وتزيا أربعة منهم بزيّ أولئك ، وآخر بزيّ المرأة ، وشهدوا عليها بأنها مكَنت من نفسها كلبًا ، فقال سليمان : فرقوا بينهم. فقال لأولهم : ما كان لون الكلب ؟ فقال : أسود. فعزله ، واستدعى الآخر فسأله عن لونه ، فقال : أحمر. وقال الآخر : أغبش. وقال الآخر : أبيض. فأمر بقتلهم ، فحكي ذلك لداود ، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة ، فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب ، فاختلفوا عليه ، فأمر بقتلهم (10).
__________
(1) في ف : "وأخطأ".
(2) صحيح البخاري برقم (7352).
(3) سنن أبي داود برقم (3573) وسنن النسائي الكبرى برقم (5922) وسنن ابن ماجه برقم (2315)
(4) في ف : "إذ جاء".
(5) المسند (2/322)
(6) في ف : "صحيحيهما".
(7) صحيح البخاري برقم (6769) وصحيح مسلم برقم (1720) وسنن النسائي الكبرى برقم (5958) والباب فيه "التوسعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يفعله أفعل ليستبين له الحق".
(8) في ف : "طويلة".
(9) في أ : "عن".
(10) تاريخ دمشق (7/565 "المخطوط")

(5/357)


وقوله : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } : وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه الزبور ، وكان إذا تَرَنَّم به تقف الطير في الهواء ، فتجاوبه ، وتَرد عليه الجبال تأويبًا ؛ ولهذا لمَّا مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري ، وهو يتلو القرآن من الليل ، وكان له صوت طيب [جدًا] (1). فوقف واستمع لقراءته ، وقال : "لقد أوتي هذا مزامير آل داود". قال يا رسول الله ، لو علمت أنك تسمع (2) لحبرته لك تحبيرًا (3).
وقال أبو عثمان النهدي : ما سمعت صوت صَنْج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه ، ومع هذا قال : لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود.
وقوله : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِيُحْصِنَكُمْ (4) مِنْ بَأْسِكُمْ } يعني صنعة الدروع.
قال قتادة : إنما كانت الدروع قبله صفائح ، وهو أول من سردها حلَقًا. كما قال تعالى : { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } [سبأ : 10 ، 11] أي : لا توسع الحلقة فتقلق (5) المسمار ، ولا تغلظ المسمار فتَقَدّ الحَلْقة ؛ ولهذا قال : { لِيُحْصِنَكُمْ (6) مِنْ بَأْسِكُمْ } يعني : في القتال ، { فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ } أي : نعم الله عليكم ، لما ألهم به عبده داود ، فعلمه ذلك من أجلكم.
وقوله : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً } أي : وسخرنا لسليمان الريح العاصفة ، { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني أرض الشام ، { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } وذلك أنه كان له بساط من خشب ، يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة ، والخيل والجمال والخيام والجند ، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته ، ثم تحمله فترفعه وتسير به ، وتظله الطير من الحر ، إلى حيث يشاء من الأرض ، فينزل وتوضع آلاته وخشبه (7) ، قال الله تعالى : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ } [ص : 36] ، وقال { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } [سبأ : 12].
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن عيينة ، عن أبي سِنَان ، عن سعيد بن جبير قال : كان يُوضَع لسليمان ستمائة ألف كرسي ، فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس ، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن ، ثم يأمر الطير فتظلهم ، ثم يأمر الريح فتحمله صلى الله عليه وسلم (8).
وقال عبد الله بن عُبَيْد بن عمير : كان سليمان يأمر الريح ، فتجتَمع كالطَّود العظيم ، كالجبل ، ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان منها ، ثم يدعو بفَرَس من ذوات الأجنحة ، فترتفع (9) حتى تصعد (10) على فراشه ، ثم يأمر الريح فترتفع به كُل شَرَف دون السماء ، وهو مطأطئ رأسه ، ما يلتفت يمينا ولا شمالا تعظيمًا لله عز وجل ، وشكرًا لما يعلم من صغر ما هو فيه في ملك الله
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "تستمع".
(3) سبق الحديث في فضائل القرآن.
(4) في ف ، أ : "لتحصنكم".
(5) في ف : "فتفلق".
(6) في ف ، أ : "لتحصنكم".
(7) في أ : "وحشمه"
(8) في أ : "فتحملهم عليه السلام".
(9) في ف ، أ : "فيرتفع".
(10) في ف ، أ : "يصعد".

(5/358)


وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)

تعالى (1) حتى تضعه (2). الريح حيث شاء أن تضعه (3)
وقوله : { وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ } أي : في الماء يستخرجون اللآلئ [وغير ذلك. { وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ } أي : غير ذلك ، كما قال تعالى : { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * ] (4) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ }. [ص : 37 ، 38].
وقوله : { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } (5) أي : يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء ، بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه ، بل هو مُحَكَّم (6) فيهم ، إن شاء أطلق ، وإن شاء حبس منهم من يشاء ؛ ولهذا قال : { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ }
{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) }.
يذكر تعالى عن أيوب ، عليه السلام ، ما كان أصابه من البلاء ، في ماله وولده وجسده (7) ، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير ، وأولاد كثيرة ، ومنازل مرضية. فابتلي في ذلك كله ، وذهب عن آخره ، ثم ابتلي في جسده - يقال : بالجذام في سائر بدنه ، ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه ، يذكر بهما الله عز وجل ، حتى عافه الجليس ، وأفردَ في ناحية من البلد ، ولم يبق من الناس أحد (8) يحنو عليه سوى زوجته ، كانت تقوم بأمره (9) ، ويقال : إنها احتاجت فصارت تخدم الناس من أجله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل" (10) وفي الحديث الآخر : "يبتلى الرجل على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه" (11).
وقد كان نبي الله أيوب ، عليه السلام ، غاية في الصبر ، وبه يضرب المثل في ذلك.
وقال يزيد بن ميسرة : لما ابتلى الله أيوب ، عليه السلام ، بذهاب الأهل والمال والولد ، ولم له يبق شيء ، أحسن الذكر ، ثم قال : أحمدك رب الأرباب ، الذي أحسنت إلي ، أعطيتني المال والولد ، فلم يبق من قلبي شعبة ، إلا قد دخله ذلك ، فأخذت ذلك كله مني ، وفرَّغت قلبي ، ليس يحول بيني وبينك شيء ، لو يعلم عدوي إبليس بالذي صنعت ، حسدني. قال : فلقي إبليس من ذلك منكرًا.
قال : وقال أيوب ، عليه السلام : يا رب ، إنك أعطيتني المال والولد ، فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته ، وأنت تعلم ذلك. وأنه كان يوطأ لي الفراش فأتركها وأقول لنفسي :
__________
(1) في ف ، أ : "عز وجل".
(2) في ف : "يضعه".
(3) في ف ، أ : "حيث يشاء أن يضعه".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف : "له".
(6) في ف ، أ : "يحكم".
(7) في ف : "وجسده وولده".
(8) في ف : "أحد من الناس".
(9) في ف : "بأوده".
(10) رواه أحمد في المسند (1/172) والترمذي في السنن برقم (2398) وابن ماجه في السنن برقم (4023) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح".
(11) هو جزء من الحديث المتقدم ، والله أعلم.

(5/359)


يا نفس ، إنك لم تخلقي لوطء الفرش (1) ، ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتم.
وقد ذكر عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة ، ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه ، وذكرها غير واحد من متأخري المفسرين ، وفيها غرابة تركناها لحال الطول (2).
وقد روى أنه مكث في البلاء مدة طويلة ، ثم اختلفوا في السبب المهيج له على هذا الدعاء ، فقال الحسن وقتادة ، ابتلي أيوب ، عليه السلام ، سبع سنين وأشهرًا ، ملقى على كُنَاسَة بني إسرائيل ، تختلف الدواب في جسده ففرج الله عنه ، وعَظَمَّ له الأجر ، وأحسن عليه الثناء.
وقال وهب بن منبه : مكث في البلاء ثلاث سنين ، لا يزيد ولا ينقص.
وقال السدي : تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام ، فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالزاد يكون فيه ، فقالت له امرأته لما طال وجعه : يا أيوب ، لو دعوت ربك (3) يفرج عنك ؟ فقال : قد عشت سبعين سنة صحيحًا ، فهل (4) قليل لله أن أصبر له سبعين سنة ؟ فجَزَعت من ذلك فخرجت ، فكانت تعمل للناس بأجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه ، وإن إبليس انطلق إلى رجلين من فلسطين كانا صديقين له وأخوين ، فأتاهما فقال : أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا ، فأتياه وزوراه واحملا معكما من خمر أرضكما ، فإنه إن شرب منه بَرَأ. فأتياه ، فلما نظرا إليه بكيا ، فقال : من أنتما ؟ فقالا (5) : نحن فلان وفلان! فرحَّب بهما وقال : مرحبًا بمن لا يجفوني عند البلاء ، فقالا يا أيوب ، لعلك كنت تُسر شيئًا وتظهر غيره ، فلذلك ابتلاك الله ؟ فرفع رأسه إلى السماء ثم قال : هو يعلم ، ما أسررت شيئًا أظهرت غيره. ولكن ربي ابتلاني لينظر أأصبر أم أجزع ، فقالا له : يا أيوب ، اشرب من خمرنا فإنك إن شربت منه بَرَأت. قال : فغضب وقال جاءكما الخبيث فأمركما بهذا ؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما عليّ حرام. فقاما من عنده ، وخرجت امرأته تعمل للناس فخبزت لأهل بيت لهم صبي ، فجعلت لهم قرصًا (6) ، وكان ابنهم نائمًا ، فكرهوا أن يوقظوه ، فوهبوه لها.
فأتت به إلى أيوب ، فأنكره وقال : ما كنت تأتيني بهذا ، فما بالك اليوم ؟ فأخبرته الخبر. قال : فلعل الصبي قد استيقظ ، فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله. [فانطلقي به إليه. فأقبلت حتى بلغت درجة القوم ، فنطحتها شاة لهم ، فقالت : تعس أيوب الخطاء! فلما صعدت وجدت الصبي قد استيقظ وهو يطلب القرص ، ويبكي على أهله] (7) ، لا يقبل منهم شيئًا غيره ، فقالت : رحم الله أيوب فدفعت القرص إليه ورجعت. ثم إن إبليس أتاها في صورة طبيب ، فقال لها : إن زوجك قد طال سُقمه ، فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذبابًا فليذبحه باسم صنم بني فلان فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك. فقالت ذلك لأيوب ، فقال : قد أتاك الخبيث. لله عليّ إن برأت أن أجلدك مائة جلدة. فخرجت تسعى عليه ، فحظر عنها الرزق ، فجعلت لا تأتي أهل بيت فيريدونها ، فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب
__________
(1) في ف : "الفراش".
(2) تفسير الطبري (1/42).
(3) في ف ، أ : "الله".
(4) في أ : "فهو".
(5) في ف ، أ : "قالا".
(6) في ف ، أ : "قرصة".
(7) زيادة من ف ، أ.

(5/360)


الجوع حلقت من شعرها قرنًا فباعته من صبية من بنات الأشراف ، فأعطوها طعامًا طيبًا كثيرًا فأتت به أيوب ، فلما رآه أنكره وقال : من أين لك هذا ؟ قالت : عملت لأناس فأطعموني. فأكل منه ، فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد فحلقت أيضًا قرنًا فباعته من تلك الجارية ، فأعطوها من ذلك الطعام ، فأتت به أيوب ، فقال : والله لا أطعمه حتى أعلم من أين هو ؟ فوضعت خمارها ، فلما رأى رأسها محلوقًا جزع جزعًا شديدًا ، فعند ذلك دعا ربه عز وجل : { أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن نَوْف البِكَالي ؛ أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له : "سوط" (1) ، قال : وكانت امرأة أيوب تقول : "ادع الله فيشفيك" ، فجعل لا يدعو ، حتى مر به نفر من بني إسرائيل ، فقال بعضهم لبعض : ما أصابه ما أصابه إلا بذنب عظيم أصابه ، فعند ذلك قال : "رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين".
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا جرير بن حازم ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : كان لأيوب ، عليه السلام ، أخوان فجاءا يومًا ، فلم يستطيعا أن يدنوا منه ، من ريحه ، فقاما من بعيد ، فقال أحدهما للآخر : لو كان الله علم من أيوب خيرًا ما ابتلاه بهذا ؟ فجزع أيوب من قولهما جَزعا لم يجزع من شيء قط ، فقال : اللهم ، إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان (2) وأنا أعلم مكان جائع ، فصدقني. فصدق من السماء وهما يسمعان. ثم قال : اللهم ، إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط ، وأنا أعلم مكان عار ، فَصَدقني فصدق من السماء وهما يسمعان. اللهم (3) بعزتك ثم خر ساجدًا ، ثم قال (4) اللهم بعزتك لا أرفع رأسي أبدًا حتى تكشف عني. فما رفع رأسه حتى كشف عنه.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعًا بنحو هذا فقال : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد ، عن عُقَيل ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد ، إلا رجلين من إخوانه ، كانا من أخص إخوانه ، كانا (5) يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : تَعَلَّم - والله - لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين. فقال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف (6) ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له ، فقال أيوب ، عليه السلام : ما أدري ما تقول ، غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله ، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما ، كراهة أن يذكرا الله إلا في حق. قال : وكان يخرج في حاجته (7) ، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه ، فأوحى إلى
__________
(1) في ف ، أ : "مبسوط".
(2) في ف : "شبعانا".
(3) في ف ، أ : "ثم قال : اتللهم".
(4) في ف : "فقال".
(5) في ف ، أ : "له".
(6) في ف : "فكشف".
(7) في ف : "حاجة".

(5/361)


أيوب في مكانه : أن اركض برجلك ، هذا مغتسل بارد وشراب" (1).
رفع هذا الحديث غريب جدًا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، أخبرنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس ، قال : وألبسه الله حلة من الجنة ، فتنحى أيوب فجلس في ناحية ، وجاءت امرأته ، فلم تعرفه ، فقالت : يا عبد الله ، أين ذهب المبتلى الذي كان هاهنا ؟ لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب ، فجعلت تكلمه ساعة ، فقال : ويحك! أنا أيوب! قالت : أتسخر مني يا عبد الله ؟ فقال : ويحك! أنا أيوب ، قد رد الله علي جسدي.
وبه قال ابن عباس : ورد عليه ماله وولده عيانا ، ومثلهم معهم.
وقال وهب بن منبه : أوحى الله إلى أيوب : قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ، فاغتسل بهذا الماء ، فإن فيه شفاءك ، وقرب عن صاحبتك (2) قربانًا ، واستغفر لهم ، فإنهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتم.
[وقال] (3) أيضًا : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عمرو بن مرزوق ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن النضر ابن أنس ، عن بَشير (4) بن نَهِيك ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لما عافى الله أيوب ، أمطر عليه جرادًا من ذهب ، فجعل يأخذ بيده ويجعله في ثوبه". قال : "فقيل له : يا أيوب ، أما تشبع ؟ قال : يا رب ، ومن يشبع من رحمتك".
أصله في الصحيحين (5) ، وسيأتي في موضع آخر.
وقوله : { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ } قد تقدم عن ابن عباس أنه قال : ردوا عليه بأعيانهم. وكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس أيضًا. وروي مثله عن ابن مسعود ومجاهد ، وبه قال الحسن وقتادة.
وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة ، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النَّجْعَة ، وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب ، وصح ذلك عنهم ، فهو مما لا يصدق ولا يكذب. وقد سماها ابن عساكر في تاريخه - رحمه الله تعالى - قال : ويقال : اسمها ليا ابنة مِنَشَّا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، قال : ويقال : ليا بنت يعقوب ، عليه السلام ، زوجة أيوب كانت معه بأرض البَثَنيَّة.
وقال مجاهد : قيل له : يا أيوب ، إن أهلك لك في الجنة ، فإن شئت أتيناك بهم ، وإن شئت
__________
(1) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2091) "موارد" من طريق حرملة بن يحيى عن ابن وهب بنحوه.
(2) في ف : "صحابتك".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف : "بشر".
(5) ورواه الحاكم في المستدرك (2/582) من طرق عن عمرو بن مرزوق به ، وسيأتي أصل الحديث في صحيح البخاري عند تفسير الآية : 42 من سورة ص.

(5/362)


وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)

تركناهم لك في الجنة ، وعوضناك مثلهم. قال : لا بل اتركهم لي في الجنة. فتُركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا.
وقال حماد بن زيد ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن نَوف البِكَالي قال : أوتي أجرهم في الآخرة ، وأعطي مثلهم في الدنيا. قال : فحدثت به مُطَرَّفا ، فقال : ما عرفت وجهها قبل اليوم.
وهكذا روي عن قتادة ، والسدي ، وغير واحد من السلف ، والله أعلم.
وقوله : { رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا } أي : فعلنا به ذلك رحمة من الله به ، { وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } أي : وجعلناه في ذلك قدوة ، لئلا يظن أهل البلاء إنما فعلنا بهم ذلك (1) لهوانهم علينا ، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما (2) يشاء ، وله الحكمة البالغة في ذلك.
{ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) }.
أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل ، عليهما السلام ، وقد تقدم ذكره في سورة مريم ، وكذلك إدريس ، عليه السلام (3) وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي. وقال آخرون : إنما كان رجلا صالحًا ، وكان ملكًا عادلا وحكمًا مقسطًا ، وتوقف ابن جرير في ذلك ، فالله أعلم.
وقال ابن جُرَيج ، عن مجاهد في قوله : { وَذَا الْكِفْلِ } قال : رجل صالح غير نبي ، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ذلك ، فَسُمي : ذا الكفل. وكذا روَى ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أيضًا.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عفان ، حدثنا وُهَيب ، حدثنا داود ، عن مجاهد قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي ، حتى أنظر كيف يعمل ؟ فجمع الناس ، فقال : من يتقبل مني بثلاث : أستخلفه يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب. قال : فقام رجل تزدريه العين ، فقال : أنا. فقال : أنت تصوم النهار ، وتقوم الليل ، ولا تغضب ؟ قال : نعم ، قال : فردهم (4) ذلك اليوم ، وقال مثلها في اليوم الآخر ، فسكت الناس ، وقام ذلك الرجل وقال (5) أنا. فاستخلفه ، قال : وجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان. فأعياهم ذلك (6) ، قال : دعوني (7) وإياه ، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير ، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة
__________
(1) في ف : "إنما فعل ذلك بهم".
(2) في ف : "فيما".
(3) انظر : تفسير الآيات : 54 - 57.
(4) في ف ، أ : "فيردهم".
(5) في ف : "فقال"
(6) في ف ، أ : "ذلك الرجل".
(7) في أ : "دعوني أنا وإياه".

(5/363)


- وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة - فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : شيخ كبير مظلوم. قال : فقام ففتح الباب ، فجعل يقص عليه ، فقال : إن بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني ، وفعلوا بي وفعلوا. وجعل يُطَول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة ، فقال (1) : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك. فانطلق ، وراح. فكان في مجلسه ، فجعل ينظر هل يرى الشيخ ؟ فلم يره ، فقام يتبعه ، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس ، وينتظره ولا (2) يراه ، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه ، أتاه فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال (3) الشيخ الكبير المظلوم. ففتح له (4) فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ؟ قال : إنهم أخبث قوم ، إذا عرفوا (5) أنك قاعد قالوا : نحن نعطيك حقك. وإذا قمت جحدوني. قال : فانطلق ، فإذا رحت فأتني. قال : ففاتته القائلة ، فراح فجعل ينتظره (6) ولا يراه ، وشق عليه النعاس ، فقال لبعض أهله : لا تدعن أحدًا يَقرب هذا الباب حتى أنام ، فإني قد شق عليّ النوم. فلما كان تلك الساعة أتاه (7) فقال له الرجل : وراءك وراءك ؟ فقال : إني قد أتيته أمس ، فذكرت له أمري ، فقال : لا والله لقد أمرنا ألا ندع أحدًا يقربه. فلما أعياه نظر فرأى كُوَّة في البيت ، فتسور منها ، فإذا هو في البيت ، وإذا هو يدق الباب من داخل ، قال : فاستيقظ الرجل فقال : يا فلان ، ألم آمرك ؟ فقال (8) أما من قبلي والله فلم تؤتَ ، فانظر من أين أتيت ؟ قال : فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه ، وإذا الرجل معه في البيت ، فعرفه ، فقال : أعدو الله ؟ قال : نعم ، أعييتني في كل شيء ، ففعلت ما تَرَى لأغضبك. فسماه الله ذا الكفل ؛ لأنه تكفل بأمر فوفى به (9).
وهكذا رواه بن أبي حاتم ، من حديث زهير بن إسحاق ، عن داود ، عن مجاهد ، بمثله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن مسلم ، قال : قال ابن عباس : كان قاض في بني إسرائيل ، فحضره الموت ، فقال : من يقوم مقامي على ألا يغضب ؟ قال : فقال رجل : أنا. فسمي ذا الكفل. قال : فكان (10) ليله جميعًا يصلي ، ثم يصبح صائمًا فيقضي بين الناس - قال : وله (11) ساعة يقيلها - قال : فكان كذلك ، فأتاه الشيطان عند نومته ، فقال له أصحابه : ما لك ؟ قال : إنسان مسكين ، له على رجل حق ، وقد غلبني عليه. قالوا : كما أنت حتى يستيقظ - قال : وهو فوق نائم - قال : فجعل يصيح عمددا حتى يوقظه (12) ، قال : فسمع ، فقال : ما لك ؟ قال : إنسان مسكين ، له على رجل حق. قال : اذهب فقل له يعطيك. قال : قد أبى. قال : اذهب أنت إليه. قال : فذهب ، ثم جاء من الغد ، فقال : ما لك ؟ قال : ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأسًا. قال : اذهب إليه فقل له يعطيك حقك ، قال : فذهب ، ثم جاء من الغد حين قال ، قال : فقال له أصحابه : اخرج ، فعل الله بك ، تجيء كل يوم حين ينام ، لا
__________
(1) في ف : "وقال".
(2) في ف ، أ : "فلا".
(3) في ف : "فقال".
(4) في ف : "ففتح الباب".
(5) في ف ، أ : "اعترفوا".
(6) في ف : "ينتظر".
(7) في ف : "جاءه".
(8) في ت : "قال".
(9) تفسير الطبري (17/59).
(10) في ف : "فقال".
(11) في ف : "فله".
(12) في ف : "يغضبه".

(5/364)


تدعه ينام ؟. فجعل (1) يصيح : من أجل أني إنسان مسكين ، لو كنت غنيا ؟ قال : فسمع أيضًا ، فقال : ما لك ؟ قال : ذهبت إليه فضربني. قال : امش حتى أجيء معك. قال : فهو ممسك بيده ، فلما رآه ذهب معه نَثَر يده منه (2) فَفَر.
وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث ، ومحمد بن قيس ، وابن حُجَيرة الأكبر ، وغيرهم من السلف ، نحو من هذه القصة ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر (3) ، أخبرنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة ، عن أبي كنانة بن الأخنس قال : سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر : ما كان ذو الكفل بنبي ، ولكن كان - يعني : في بني إسرائيل - رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة ، فتكفل له ذو الكفل من بعده ، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة ، فسمي ذا الكفل.
وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة قال : "قال أبو موسى الأشعري..." فذكره منقطعا (4) ، والله أعلم.
وقد روى الإمام أحمد حديثًا غريبًا فقال :
حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن سعد (5) مولى طلحة ، عن ابن عمر قال : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عدّ سبع مرات - ولكن قد سمعته أكثر من ذلك ، قال : "كان الكفل من بني إسرائيل ، لا يتورّع من ذنب عمله ، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا ، على أن يَطَأها ، فلما قعد منها (6) مَقعدَ الرجل من امرأته ، أرعِدَت (7) وبكت ، فقال : ما يبكيك ؟ أكْرَهْتُك ؟ قالت : لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط ، وإنما حَمَلني عليه الحاجة. قال : فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ؟ فَنزل (8) فقال : اذهبي فالدنانير لك. ثم قال : "والله لا يَعصي الله الكفل أبدًا. فمات من ليلته فأصبح مكتوبًا على بابه : قد غفر الله للكفل" (9).
هكذا وقع في هذه الرواية "الكفل" ، من غير إضافة ، فالله أعلم. وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة (10) ، وإسناده غريب ، وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كان "الكفل" ، ولم يقل : "ذو الكفل" ، فلعله رجل آخر ، والله أعلم.
__________
(1) في ف ، أ : "قال : فجعل".
(2) في أ : "منه فذهب".
(3) في ف ، أ : "أبو الجماهير".
(4) تفسير الطبري (17/60).
(5) في ف ، أ : "سعيد".
(6) في أ : "معها".
(7) في أ : "ارتعدت".
(8) في ف : "ثم نزل".
(9) المسند (2/23).
(10) قلت : بل أخرجه الترمذي في السنن برقم (2496) من طريق عبيد بن أسباط عن أبيه به ، وقال : "هذا حديث حسن قد رواه شيبان وغير واحد عن الأعمش نحو هذا ورفعوه وروى بعضهم عن الأعمش فلم يرفعه".

(5/365)


وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

{ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) }.
هذه القصة مذكورة هاهنا وفي سورة "الصافات" وفي سورة "ن" (1) وذلك أن يونس بن مَتَّى ، عليه السلام ، بعثه الله إلى أهل قرية "نينوى" ، وهي قرية من أرض الموصل ، فدعاهم إلى الله ، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم ، فخرج من بين أظهرهم مغاضبا لهم ، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث. فلما تحققوا منه ذلك ، وعلموا أن النبي لا يكذب ، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم ، وفرقوا بين الأمهات وأولادها ، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل ، وجأروا (2) إليه ، ورغت الإبل وفُضْلانها ، وخارت البقر وأولادها ، وثغت الغنم وحُمْلانها ، فرفع الله عنهم العذاب ، قال الله تعالى : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ (3) الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس : 98].
وأما يونس ، عليه السلام ، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فَلَجَّجت بهم ، وخافوا أن يغرقوا (4). فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه ، فوقعت القرعة على يونس ، فأبوا (5) أن يلقوه ، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضًا ، فأبوا ، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضًا ، قال الله تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } [ الصافات : 141] ، أي : وقعت عليه القرعة (6) ، فقام يونس ، عليه السلام ، وتجرد من ثيابه ، ثم ألقى نفسه في البحر ، وقد أرسل الله ، سبحانه وتعالى ، من البحر الأخضر - فيما قاله ابن مسعود - حوتًا يشق البحار ، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة ، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له لحمًا ، ولا تهشم له عظما ؛ فإن يونس ليس لك رزقا ، وإنما بطنك له يكون سجنًا.
وقوله : { وَذَا النُّونِ } يعني : الحوت ، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة.
وقوله : { إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } : قال الضحاك : لقومه ، { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } [أي : نضيق عليه في بطن الحوت. يُروَى نحو هذا عن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وغيرهم ، واختاره (7) ابن جرير ، واستشهد عليه بقوله تعالى : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [ الطلاق : 7].
وقال عطية العَوفي : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } (8) ، أي : نقضي عليه ، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير ، فإن العرب تقول : قدَر وقَدّر بمعنى واحد ، وقال الشاعر :
__________
(1) سورة الصافات الآيات : (139 - 148) ، وسورة نون (القلم) الآيات : (48 - 50).
(2) في ت : "ولجؤوا".
(3) في ت : "العذاب".
(4) في ت ، ف : "تغرق بهم".
(5) في ت : "فأتوا".
(6) في ف : "فوقعت القرعة عليه".
(7) في ت : "واختارهم".
(8) زيادة من ت ، ف ، أ.

(5/366)


فَلا عَائد ذَاكَ الزّمَانُ الذي مَضَى... تباركت ما تَقْدرْ يَكُنْ ، فَلَكَ الأمْرُ...
ومنه قوله تعالى : { فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [القمر : 12] ، أي : قدر.
وقوله : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } قال ابن مسعود : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل. وكذا روي عن ابن عباس (1) ، وعمرو بن ميمون ، وسعيد بن جُبَير ، ومحمد بن كعب ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة.
وقال سالم بن أبي الجعد : ظلمةُ حُوت في بطن حوت (2) ، في ظلمة البحر.
قال ابن مسعود ، وابنُ عباس وغيرهما : وذلك أنه ذهب به الحوتُ في البحار يَشُقُّها ، حتى انتهى به إلى قرار البحر ، فسمع (3) يونسُ تسبيح الحصى في قراره ، فعند ذلك وهنالكَ قال : { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ }
وقال عوف : لما صار يونس في بطن الحوت ، ظن أنه قد مات ، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه ، ثم نادى : يا رب (4) ، اتخذت لك مسجدًا (5) في موضع ما اتخذه (6) أحد.
وقال سعيد بن أبي الحسن البصري : مكث في بطن الحوت أربعين يومًا. رواهما (7) ابن جبير.
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار ، عمن حدثه ، عن عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة - سمعتُ أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أراد الله حَبْسَ يونس في بطن الحوت ، أوحى الله إلى الحوت أن خذه ، ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر ، سمع يونس حسًا ، فقال في نفسه : ما هذا ؟ فأوحى الله إليه ، وهو في بطن (8) الحوت : إن هذا تسبيح دواب البحر. قال : فَسَبَّح وهو في بطن الحوت ، فسمع (9) الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا ، إنا نسمع صوتًا ضعيفًا [بأرض غريبة] (10) قال : ذلك عبدي يونس ، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر. قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عملٌ صالح ؟. قال : نعم". قال : "فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل ، كما قال الله عز وجل : (11) { وَهُوَ سَقِيمٌ } [الصافات : 145].
ورواه ابن جرير (12) ، ورواه البزار في مسنده ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة ، فذكره بنحوه ، ثم قال : لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد (13) ، وروى ابن عبد الحق من حديث شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سَلمَة (14) ،
__________
(1) في ف : "ابن مسعود".
(2) في ف ، أ : "حوت آخر".
(3) في ت ، أ : "حتى يسمع" ، وفي ف : "حتى سمع".
(4) في ت : "رب الحوت".
(5) في ت : "مسجد".
(6) في ف ، أ : "ما أخده".
(7) في ت : "رواها".
(8) في ف : "وهو ببطن".
(9) في ف ، أ : "فسمعت".
(10) زيادة من ف ، أ.
(11) في ت : "الله تعالى".
(12) تفسير الطبري (17/65).
(13) مسند البزار برقم (2254) "كشف الأستار".
(14) في ت ، ف : "مسلم".

(5/367)


عن علي مرفوعًا : لا ينبغي لعبد أن يقول : " أنا (1) خير من يونس بن متى" ؛ سبح لله في الظلمات (2).
وقد روي هذا الحديث بدون هذه الزيادة ، من حديث ابن عباس ، وابن مسعود ، وعبد الله بن جعفر ، وسيأتي أسانيدها في سورة "ن" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي : حدثني أبو صخر : أن يزيد الرقاشي حدثه قال : سمعت أنس بن مالك - ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يونس النبي ، عليه السلام ، حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت ، قال : "اللهم ، لا إله إلا أنت ، سبحانك ، إني كنت من الظالمين". فأقبلت هذه الدعوة تحف بالعرش (4) ، فقالت الملائكة : يا رب ، صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة ؟ فقال : أما تعرفون ذاك (5) ؟ قالوا : لا يا رب (6) ، ومن هو ؟ قال : عبدي يونس. قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يُرفَع له عَمَلٌ متقبل (7) ، ودعوة مجابة ؟. [قال : نعم] (8). قالوا : يا رب ، أَوَلا (9) ترحم ما كان يصنع (10) في الرخاء فتنجيَه من البلاء ؟ قال : بلى. فأمر الحوت فطرحه في العراء (11).
وقوله : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } أي : أخرجناه من بطن الحوت ، وتلك الظلمات ، { وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } أي : إذا كانوا في الشدائد ودَعَونا منيبين إلينا ، ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء ، فقد جاء الترغيب في الدعاء بها عن سيد الأنبياء ، قال الإمام أحمد :
حدثنا إسماعيل بن عُمَر ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني ، حدثنا إبراهيم بن محمد (12) ابن سعد ، حدثني والدي محمد عن أبيه سعد ، - وهو ابن أبي وقاص - قال : مررت بعثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، في المسجد ، فسلمت عليه ، فملأ عينيه مني ثم لم يَردُدْ عليّ السلام ، فأتيت عمر بن الخطاب فقلت : يا أمير المؤمنين ، هل حدث في الإسلام شيء ؟ مرتين ، قال : لا وما ذاك ؟ قلت : لا إلا أني مررتُ بعثمان (13) آنفا في المسجد ، فسلمت عليه ، فملأ عينيه مني ، ثم لم يَرْدُد (14) علي السلام. قال : فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه ، فقال : ما منعك ألا تكون رَدَدت على أخيك
__________
(1) في ف : "أنا عند الله خير".
(2) كذا (ابن عبد الحق) ، وأظنه تحريف عن عبد بن حميد ، إلا أني لا أجزم بذلك ، وقد ذكره الهندي في كنز العمال (12/476) وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر في تاريخه.
(3) كذا قال الحافظ ابن كثير ، وإنما ذكره هناك من حديث ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله عنهما.
فأما حديث ابن عباس : فرواه البخاري في صحيحه برقم (3395) ومسلم في صحيحه برقم (2377).
وأما حديث عبد الله بن جعفر : فرواه أبو داود في السنن برقم (4670).
(4) في ت : "نحو العرش" وفي ف : "تحت العرش".
(5) في ف : "ذلك".
(6) في ت ، ف : "يا ربنا".
(7) في ت ، ف : "متقبلا".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ت ، ف ، أ : "أفلا".
(10) في ت ، ف : "يصنعه".
(11) ورواه ابن أبي الدنيات في الفرج بعد الشدة برقم (32) من طريق أحمد بن صالح عن عبد الله بن وهب به.
(12) في ت : "محمد بن إبراهيم".
(13) في ف ، أ : "بعثمان بن عفان رضي الله عنه".
(14) في ت : "يرد".

(5/368)


السلام ؟ قال : ما فعلتُ. قال سعد : قلتُ : بلى (1) حتى حلفَ وحلفت ، قال : ثم إن عثمان ذكرَ فقال : بلى ، وأستغفر الله وأتوب إليه ، إنك مررت بي آنفا وأنا أحدّث نفسي بكلمة سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله ما ذكرتها قط إلا تَغْشَى بصري وقلبي غشَاوة. قال سعد : فأنا أنبئك بها ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا [أول دعوة] (2) ثم جاء أعرابي فشغله ، حتى قَام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته ، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض ، فالتفت إليّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال : "من هذا ؟ أبو إسحاق ؟" قال : قلت : نعم ، يا رسول الله. قال : "فمه ؟" قلت : لا والله ، إلا أنك ذكرتَ لنا أول دعوة ، ثم جاء هذا الأعرابي فشغلك. قال : "نعم ، دعوةُ ذي النون ، إذ هو في بطن الحوت : { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } ، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له".
ورواه الترمذي ، والنسائي في "اليوم والليلة" ، من حديث إبراهيم بن محمد بن سعد ، عن أبيه ، عن سعد (3) ، به (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن كَثِير بن زيد ، عن المطلب بن حنطب - قال أبو خالد : أحسبه عن مصعب ، يعني : ابن سعد - عن سعد (5) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من دعا بدعاء يونس ، استُجِيب (6) له". قال أبو سعيد : يريد به { وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } (7).
وقال ابن جرير : حدثني عمران بن بَكَّار الكَلاعي ، حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن ، حدثني بِشْر بن منصور ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب قال : سمعت سعد بن مالك - وهو ابن أبي وقاص - يقول : سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : "اسم الله الذي إذا دُعي به أجاب ، وإذا سُئِل به أعطى ، دعوةُ يونس بن متى". قال : قلت (8) : يا رسول الله ، هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال : هي ليونس بن متى خاصة وللمؤمنين عامة ، إذا دعوا بها ، ألم تسمع قول الله عز وجل : { : فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ }. فهو شرط من الله لمن دعاه به" (9).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج ، حدثنا داود بن المُحَبَّر بن قَحْذَم المقدسي ، عن كثير بن معبد قال : سألت الحسن ، قلت : يا أبا سعيد ، اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ؟ قال : ابنَ أخي ، أما تقرأ القرآن ؟ قول الله : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا }
__________
(1) في ف : "ويلي".
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) في ت : "ابن سعيد".
(4) المسند (1/170) وسنن الترمذي برقم (3505) وسنن النسائي الكبرى برقم (10492).
(5) في ت : "عن سعيد".
(6) في ت : "استجبت".
(7) ورواه الحاكم في المستدرك (2/584) من طريق يحيى بن عبد الحميد ، وابن عدي في الكامل (6/68) من طريق أبي هشام الرفاعي كلاهما عن أبي خالد الأحمر به.
(8) في ت ، ف : "فقلت".
(9) تفسير الطبري (17/65).

(5/369)


وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)

إلى قوله : { الْمُؤْمِنِينَ } ، ابن أخي ، هذا اسم الله الأعظم ، الذي إذا دُعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى.
{ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) }.
يخبر تعالى عن عبده زكريا ، حين طلب أن يَهبَه الله ولدا ، يكون من بعده نبيًا. وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول سورة "مريم" وفي سورة "آل عمران" أيضا ، وهاهنا أخصر منهما ؛ { إِذْ نَادَى رَبَّهُ } أي : خفية عن قومه : { رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا } أي : لا ولدَ لي ولا وارثَ يقوم بعدي في الناس ، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } دعاء وثناء مناسب للمسألة.
قال الله تعالى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } أي : امرأته.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير : كانت عاقرا لا تلد ، فولدت.
وقال عبد الرحمن بن مهدي (1) ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء : كان في لسانها طول فأصلحها الله. وفي رواية : كان في خَلْقها شيء فأصلحها الله. وهكذا قال محمد بن كعب ، والسدّي. والأظهر من السياق الأول.
وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } أي : في عمل القُرُبات وفعل الطاعات ، { وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } قال الثوري : { رَغَبًا } فيما عندنا ، { وَرَهَبًا } مما عندنا ، { وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي مصدقين بما أنزل الله. وقال مجاهد : مؤمنين حقا. وقال أبو العالية : خائفين. وقال أبو سِنَان : الخشوع هو الخوف اللازم للقلب ، لا يفارقه أبدًا. وعن مجاهد أيضًا { خَاشِعِينَ } أي : متواضعين. وقال الحسن ، وقتادة ، والضحاك : { خَاشِعِينَ } أي : متذللين لله عز وجل. وكل هذه الأقوال متقاربة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ ، حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق بن (2) عبد الله القرشي ، عن عبد الله بن حكيم قال : خطبنا أبو بكر ، رضي الله عنه ، ثم قال : أما بعد ، فإني أوصيكم بتقوى الله ، وتُثنُوا عليه بما هو له أهل ، وتخلطوا الرغبة بالرهبة ، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة ، فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته ، فقال : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }.
__________
(1) في ت : "ابن منبه".
(2) في ت ، ف : "عن".

(5/370)


وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)

{ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91) }.
هكذا قَرَن تعالى (1) قصة مريم وابنها عيسى ، عليه السلام ، بقصة زكريا وابنه يحيى ، عليهما السلام ، فيذكر أولا قصة زكريا ، ثم يتبعها بقصة مريم ؛ لأن تلك مُوَطّئة لهذه ، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طَعَن في السن ، ومن امرأة عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها ، ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب ، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر. هكذا وقع في سورة "آل عمران" ، وفي سورة "مريم" ، وهاهنا ذكر قصة زكريا ، ثم أتبعها بقصة مريم ، فقوله : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } يعني : مريم ، عليها السلام ، كما قال في سورة التحريم : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } [التحريم : 12].
وقوله : { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } أي : دلالة على أن الله على كل شيء قدير ، وأنه يخلق ما يشاء ، و { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس : 82]. وهذا كقوله : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } [مريم : 21].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عَمْرو بن علي ، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مُخَلَّد (2) عن شَبِيب (3) - يعني ابن بشر (4) - عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { لِلْعَالَمِينَ } قال : العالمين : الجن والإنس.
{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) }.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { إِنَّ (5) هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } يقول : دينكم دين واحد.
وقال الحسن البصري ؛ في (6) هذه الآية : بين لهم ما يتقون وما يأتون ثم قال : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : سنتكم سنة واحدة. فقوله : { إِنَّ هَذِهِ } إنّ واسمها ، و { أُمَّتُكُمْ } خبر إن ، أي : هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم ، وقوله : { أُمَّةً وَاحِدَةً } نصب (7) على الحال ؛ ولهذا قال : { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } ، كَمَا قَالَ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [المؤمنون : 51 ، 52] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نحن معشر الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد" ، يعني : أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله ، كما قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [المائدة : 48].
__________
(1) في ت : "يقرن الله تعالى" وفي ف ، أ : "يقرن تعالى".
(2) في ف : "عن مجلز".
(3) في ت ، ف ، أ : "شعيب".
(4) في ف : "بشير".
(5) في ت ، ف : "وإن".
(6) في ت : "من".
(7) في ت : "نصيب".

(5/371)


وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)

وقوله : { وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أي : اختلفت الأمم على رسلها ، فمن بين مُصَدق لهم ومكذب ؛ ولهذا قال : { كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } أي : يوم القيامة ، فيجازَى كل بحسب عمله ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر ؛ ولهذا قال : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي : قلبه مصدق ، وعمل عملا صالحا ، { فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } ، كقوله : { إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا } [الكهف : 30] أي : لا يُكْفَر سعيُه ، وهو عمله ، بل يُشْكَر ، فلا يظلم مثقال ذرة ؛ ولهذا قال : { وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } أي : يُكتب جميعُ عمله ، فلا يَضيع عليه منه شيء.
{ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) }.
يقول تعالى : { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ } قال ابن عباس : وجب ، يعني : قدرًا مُقَدرًا (1) أن أهل كل (2) قرية (3) أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة. هكذا صرح به ابن عباس ، وأبو جعفر الباقر ، وقتادة ، وغير واحد.
وفي رواية عن ابن عباس : { أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } أي : لا يتوبون.
والقول الأول أظهر ، والله أعلم.
وقوله : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } : قد قدمنا أنهم من سلالة آدم ، عليه السلام ، بل هم من نسل نوح أيضا (4) من أولاد يافث أبي الترك ، والترك شرذمة منهم ، تركوا من وراء السد الذي بناه ذو القرنين.
وقال : { هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا. وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } [الكهف : 98 ، 99] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } أي : يسرعون في المشي إلى الفساد.
والحَدَب : هو المرتفع من الأرض ، قاله ابن عباس ، وعكرمة ، وأبو صالح ، والثوري وغيرهم ، وهذه صفتهم في حال خروجهم ، كأن السامع مشاهد لذلك ، { وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر : 14] : هذا إخبار عالم ما كان وما يكون ، الذي يعلم غيب السموات والأرض ، لا إله إلا هو.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن مثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عُبَيد الله بن أبي يزيد قال : رأى ابُن عباس صبيانا ينزو بعضهم على بعض ، يلعبون ، فقال ابن عباس : هكذا
__________
(1) في ت ، ف : "مقدورا".
(2) في ت ، ف : "إن كل أهل".
(3) في ت : "القرية".
(4) في ف ، أ : "عليه السلام".

(5/372)


يخرج يأجوج ومأجوج (1).
وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنة النبوية :
فالحديث الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة ، عن محمود بن لَبيد ، عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يُفتَح يأجوجُ ومأجوجُ ، فيخرجون كما قال الله عز وجل" : { [وَهُمْ ] (2) مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } ، فيغشونَ الناس ، وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم (3) ، ويضمون إليهم مواشيَهم ، ويشربون مياه الأرض ، حتى إن بعضَهم ليمر بالنهر ، فيشربون ما فيه حتى يتركوه يَبَسا ، حتى إن مَنْ بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول (4) : قد كان هاهنا ماء مرةً حتى إذا لم يبقَ من الناس أحد إلا أحدٌ في حصن أو مدينة قال قائلهم : هؤلاء أهلُ الأرض ، قد فرغنا منهم ، بقي أهلُ السماء. قال : "ثم يهزّ أحدهم حربته ، ثم يرمي بها إلى السماء ، فترجع إليه مُخْتَضبَةً دما ؛ للبلاء والفتنة. فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل دودا في أعناقهم كنَغَف الجراد الذي يخرج في أعناقه ، فيصبحون (5) موتى لا يُسمَع لهم حس ، فيقول المسلمون : ألا رجل يَشْري لنا نفسه ، فينظر ما فعل هذا العدو ؟" قال : "فيتجرّد رجل منهم محتسبا نفسه ، قد أوطنها على أنه مقتول ، فينزل فيجدهم موتى ، بعضهم على بعض ، فينادي : يا معشر المسلمين ، ألا أبشروا ، إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم ، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ويُسَرِّحون مواشيهم ، فما يكون لها رعي إلا لحومهم ، فَتَشْكر عنه كأحسن ما شَكرَت عن شيء من النبات أصابته قط.
ورواه ابن ماجه ، من حديث يونس بن بُكَيْر ، عن ابن إسحاق ، به (6).
الحديث الثاني : قال [الإمام] (7) أحمد أيضا : حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني يحيى بن جابر الطائي - قاضي حمص - حدثني عبد الرحمن بن جُبَير بن نُفَير الحضرمي ، عن أبيه ، أنه سمع النَّوّاس بن سمْعانَ الكلابي قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غَداة ، فخَفَض فيه ورَفَع ، حتى ظنناه في طائفة النخل ، [فلما رُحْنَا إليه عرف ذلك في وجوهنا ، فسألناه فقلنا : يا رسول الله ، ذكرت الدجال الغداة ، فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل] (8). فقال : "غير الدجال أخْوَفُني عليكم ، فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حَجِيجُه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم : إنه شاب جَعْدُ قَطَط عينه
__________
(1) تفسير الطبري (17/70).
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : "وحضرتهم".
(4) في ت : "فيقولون".
(5) في ت : "فيحصون".
(6) المسند (3/77) وسنن ابن ماجه برقم (4079) ، وقال البوصيري في الزوائد (3/260) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(7) زيادة من ت ، ف ، أ.
(8) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.

(5/373)


طافية ، وإنه يخرج خَلَةَ بين الشام والعراق ، فعاث يمينا وشمالا يا عباد الله اثبتوا".
قلنا : يا رسول الله ، ما لبثه في الأرض ؟ قال : "أربعين يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم".
قلنا : يا رسول الله ، فذاك اليوم الذي هو كسنة ، أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة ؟ قال : "لا اقدروا له قدره".
قلنا : يا رسول الله ، فما إسراعه في الأرض ؟ قال : "كالغيث استدبرته الريح". قال : "فيمر بالحي فيدعوهم فيستجيبون له ، فيأمر السماء فتمطر ، والأرض فتنبت ، وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذُرَى ، وأمده خواصر ، وأسبغه ضروعا. ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قولَه ، فتتبعه أموالهم ، فيصبحون مُمْحلين ، ليس لهم من أموالهم. ويمر بالخَربة فيقول لها : أخرجي كنوزك ، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل". قال : "ويأمر برجل فيُقتَل ، فيضربه بالسيف فيقطعه جَزْلتين رَمْيَةَ الغَرَض ، ثم يدعوه فيقبل إليه [يتهلل وجهه] (1).
فبينما هم على ذلك ، إذ بعث الله عز وجل المسيح ابن مريم ، فينزل عند المنارة (2) البيضاء ، شرقي دمشق ، بين مَهْرُودَتَين واضعا يَدَه على أجنحة مَلَكين ، فيتبعه فيدركه ، فيقتله عند باب لُدّ الشرقي".
قال : "فبينما هم كذلك ، إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم : أني قد أخرجت عبادا من عبادي لا يَدَانِ لك بقتالهم ، فَحَوّز عبادي إلى الطور ، فيبعث الله عز وجل يأجوج ومأجوج ، وهم كما قال الله : { مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ } فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل ، فيرسل الله عليهم نَغَفًا في رقابهم ، فيصبحون فَرْسى ، كموت نفس واحدة.
فيهبط عيسى وأصحابه ، فلا يجدون في الأرض بيتا إلا قد ملأه زَهَمُهم ونَتْنهُم ، فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل عليهم طيرًا كأعناق البُخْت ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله".
قال ابن جابر (3) فحدثني عطاء بن يزيد السَّكْسَكيّ (4) ، عن كعب - أو غيره - قال : فتطرحهم بالمَهْبِل. [قال ابن جابر : فقلت : يا أبا يزيد ، وأين المَهْبِل ؟] (5) ، قال : مطلع الشمس.
قال : "ويرسل الله مطرًا لا يَكُنَّ (6) منه بيت مَدَر ولا وَبَر أربعين يوما ، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزّلَقَةِ ، ويقال للأرض : أنبتي ثمرتك ، ورُدي بركتك". قال : "فيومئذ يأكل النفر من الرمانة ويستظلون بقحْفها ، ويُبَارك في الرَسْل ، حتى إن اللَّقْحَةَ من الإبل لتكفي الفِئَامَ من الناس ، واللقحة من البقر تكفي الفخذ ، والشاة من الغنم تكفي أهل البيت".
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(2) في ت : "المنازل".
(3) في ت : "جرير".
(4) في ت : "السلسلي".
(5) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(6) في ت : "يكون".

(5/374)


قال : "فبينما هم على ذلك (1) ، إذ بعث الله عز وجل ريحا طيبة تحت آباطهم ، فتقبض روح كل مسلم - أو قال : كل مؤمن - ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمير ، وعليهم تقوم الساعة".
انفرد (2) بإخراجه مسلم دون البخاري ، فرواه مع بقية أهل السنن من طرق ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، به (3) وقال الترمذي : حسن صحيح.
الحديث الثالث : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن ابن حَرْمَلَة ، عن خالته قالت : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب أصبعُه من لدغة عَقْرب ، فقال : "إنكم تقولون : "لا عدو (4) ، وإنكم لا تزالون تقاتلون عدوًا ، حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه ، صغار العيون ، صُهْبَ الشّعاف ، من كل حَدَب ينسلون ، كأن وجوههم المَجَانّ المُطرَقة" (5).
وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو ، عن خالد بن عبد الله بن حَرْمَلة المدلجي ، عن خالة له ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله (6).
الحديث الرابع : قد تقدم في تفسير آخر سورة الأعراف من رواية الإمام أحمد ، عن هُشَيْم ، عن العَوَّام ، عن جَبَلَة بن سُحَيْم ، عن مُؤثر بن عَفَازَةَ ، عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى ، عليهم السلام ، قال : فتذاكروا أمر الساعة ، فردوا أمرهم إلى إبراهيم ، فقال : لا علم لي بها (7). فردوا أمرهم إلى موسى ، فقال : لا علم لي بها (8). فردوا أمرهم إلى عيسى ، فقال : أما وَجْبَتها فلا يعلم بها أحد إلا الله ، وفيها عهد إلي ربي أن الدجال خارج".
قال : "ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص" قال : "فيهلكه الله إذا رآني ، حتى إن الحجر والشجر يقول : يا مسلم إن تحتي كافرًا ، فتعال فاقتله". قال : "فيهلكهم الله ، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم". قال : "فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حَدَب يَنسلون ، فيطؤون بلادهم ، لا (9) يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه". قال : "ثم يرجع الناس إليّ يشكونهم ، فأدعو الله عليهم ، فيهلكهم ويميتهم ، حتى تَجوى الأرض من نَتْن ريحهم ، وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم ، حتى يقذفهم في البحر. ففيما عهد إليّ ربي أن ذلك إذا كان كذلك ، أن الساعة كالحامل المُتِمّ ، لا يدري أهلها متى تَفْجُؤهم بولادها ليلا أو نهارا".
ورواه ابن ماجه ، عن محمد بن بشار ، عن يزيد بن هارون ، عن العَوَّام بن حَوْشَب ، به (10)
__________
(1) في ف : "هم كذلك".
(2) في ت : "وانفرد".
(3) المسند (4/181) وصحيح مسلم برقم (2137) وسنن أبي داود برقم (4321) وسنن الترمذي برقم (2240) وسنن النسائي الكبرى برقم (10783) وسنن ابن ماجه برقم (4075).
(4) في ت ، ف ، أ : "لا عدو لكم".
(5) المسند (5/217).
(6) في ت ، أ : "مثله سواء".
(7) في ت : "فيها".
(8) في ت : "فيها".
(9) في ت ، ف : "ولا".
(10) المسند (1/375) وسنن ابن ماجه برقم (4081) وسبق عند تفسير الآية : 187 من سورة الأعراف.

(5/375)


، نحوه وزاد : "قال العَوَّام ، ووجد تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ }.
ورواه ابن جرير هاهنا من حديث جبلة ، به (1).
والأحاديث في هذا كثيرة جدا ، والآثار عن السلف كذلك.
وقد روى ابُن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث مَعْمَر ، عن غير واحد ، عن حميد بن هلال ، عن أبي الصَّيف قال : قال كعب : إذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج ، حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم ، فإذا كان الليل قالوا : نجيء غدا فنخرج ، فيعيده الله كما كان. فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان ، فيحفرونه حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم ، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول : نجيء غدا فنخرج إن شاء الله. فيجيئون من الغد فيجدونه كما تركوه ، فيحفرون حتى يخرجوا. فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة ، فيشربون ماءها ، ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها ، ثم تمر الزمرة الثالثة فيقولون (2) : قد كان هاهنا مرة ماء ، ويفر الناس منهم ، فلا يقوم لهم شيء. ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم مُخَضَّبة بالدماء فيقولون : غلبنا أهل الأرض وأهل السماء. فيدعو عليهم عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، فيقول : "اللهم ، لا طاقة ولا يَدَين لنا بهم ، فاكفناهم بما شئت" ، فيسلط الله عليهم دودا يقال له : النغف ، فيفرس (3) رقابهم ، ويبعث الله عليهم طيرا تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر ، ويبعث الله عينا يقال لها : "الحياة" يطهر الله الأرض وينبتها ، حتى أن الرمانة ليشبع منها السَّكْن". قيل : وما السَّكن يا كعب ؟ قال : أهل البيت - قال : "فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصَّريخ أن ذا السُّويقَتَين يريده. قال : فيبعث (4) عيسى ابن مريم طليعة سبعمائة ، أو بين السبعمائة والثمانمائة ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ريحا يمانية طيبة ، فيقبض فيها روح كل مؤمن ، ثم يبقى عَجَاج (5) الناس ، فيتسافدون كما تَسَافَدُ البهائم ، فَمَثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه ينتظرها متى تضع ؟ قال كعب : فمن تكلف بعد قولي هذا شيئا - أو بعد علمي هذا شيئا - فهو المتكلف (6).
هذا من أحسن سياقات كعب الأحبار ، لما شهد له من صحيح الأخبار.
وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق ، وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن عبد الله بن أبي عُتبَةَ ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليُحَجَّنَّ هذا البيت ، وليُعْتَمَرنّ بعد خروج يأجوج ومأجوج". انفرد بإخراجه البخاري (7).
__________
(1) تفسير الطبري (17/72).
(2) في ت : "فيقول".
(3) في ت : "فيفرش".
(4) في ت : "فيبعث الله عيسى".
(5) في ت ، ف : "عجاج من".
(6) تفسير الطبري (17/71).
(7) المسند (3/27) وصحيح البخاري برقم (1593).

(5/376)


إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آَلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)

وقوله : { وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } يعني : يوم القيامة ، إذا وُجدت هذه الأهوال والزلازل والبلابل ، أزفت الساعة واقتربت ، فإذا كانت ووقعت قال الكافرون : { هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر : 8]. ولهذا قال تعالى : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام : { يَا وَيْلَنَا } أي : يقولون : { يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا } أي : في الدنيا ، { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } ، يعترفون بظلمهم لأنفسهم ، حيث لا ينفعهم ذلك.
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) }.

(5/377)


لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)

{ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) }.
يقول تعالى مخاطبا لأهل مكة من مشركي قريش ، ومن دان بدينهم من عبدة الأصنام والأوثان : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } ، قال ابن عباس : أي وقودها ، يعني كقوله : { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم : 6].
وقال ابن عباس أيضا : { حَصَبُ جَهَنَّمَ } بمعنى : شجر جهنم. وفي رواية قال : { حَصَبُ جَهَنَّمَ } يعني : حطب جهنم ، بالزنجية.
وقال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة : حطبها. وهي كذلك في قراءة علي وعائشة - رضي الله عنهما.
وقال الضحاك : { حَصَبُ جَهَنَّمَ } أي : ما يرمى به فيها.
وكذا قال غيره. والجميع قريب.
وقوله : { أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } أي : داخلون.
{ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا } يعني : لو كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهة صحيحة لما وردوا النار ، ولما دخلوها ، { وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } أي : العابدون ومعبوداتهم ، كلهم فيها خالدون ، { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } ، كَمَا قَالَ : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } [هود : 106] ، والزفير : خروج أنفاسهم ، والشهيق : ولوج أنفاسهم ، { وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ }.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ ، حدثنا ابن فُضَيْل ، حدثنا عبد الرحمن - يعني : المسعودي - عن أبيه قال : قال ابن مسعود : إذا بقي من يخلد في النار ، جُعلوا في توابيت من نار ، فيها مسامير من نار ، فلا يَرَى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره ، ثم تلا

(5/377)


عبد الله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ }.
ورواه ابن جرير ، من حديث حجاج بن محمد ، عن المسعودي ، عن يونس بن خَبّاب (1) ، عن ابن مسعود فذكره.
وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } : قال عكرمة : الرحمة. وقال غيره : السعادة ، { أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله ، عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسُله (2) ، وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة ، وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا ، كما قال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس : 26] : وقال { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } [الرحمن : 60] ، فكما أحسنوا العمل في الدنيا ، أحسن الله مآلهم وثوابهم ، فنجاهم من العذاب ، وحَصَل (3) لهم جزيل الثواب ، فقال : { أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } أي : حريقها في الأجساد.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبيه ، عن الجريري (4) ، عن أبي عثمان : { لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } ، قال : حيات على الصراط (5) تلسعهم ، فإذا لسعتهم قال : حَسَ حَسَ.
وقوله : { وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ } فسلمهم من المحذور والمرهوب ، وحصل لهم المطلوب والمحبوب.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي سُرَيج ، حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني ، عن ليث بن أبي سليم ، عن ابن عم النعمان بن بشير ، عن النعمان بن بشير قال - وسَمَرَ مع علي ذات ليلة ، فقرأ : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } قال : أنا منهم ، وعمر منهم ، وعثمان منهم ، والزبير منهم ، وطلحة منهم ، وعبد الرحمن منهم - أو قال : سعد منهم - قال : وأقيمت الصلاة فقام ، وأظنه يجر ثوبه ، وهو يقول : { لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا }.
وقال شعبة ، عن أبي بشر ، عن يوسف المكي ، عن محمد بن حاطب (6) قال : سمعت عليا يقول في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } قال : عثمان وأصحابه.
ورواه ابن أبي حاتم أيضا ، ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد - وليس بابن ماهك - عن محمد بن حاطب ، عن علي ، فذكره ولفظه : عثمان منهم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } : فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مرًا هو أسرع من البرق ، ويبقى الكفار فيها جِثيًا.
__________
(1) في ت : "ابن حبان".
(2) في ت : "ورسوله".
(3) في ت : "وجعل".
(4) في ت ، ف ، أ : "عن أبي عثمان الجريري".
(5) في ت : "على الصراط المستقيم".
(6) في ت : "خاطب".

(5/378)


فهذا مطابق لما ذكرناه ، وقال آخرون : بل نزلت استثناء من المعبودين ، وخرج منهم عزير والمسيح ، كما قال حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } ، ثم استثنى فقال : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } فيقال (1) : هم الملائكة ، وعيسى ، ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل. وكذا قال عكرمة ، والحسن ، وابن جريج (2).
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } قال : نزلت في عيسى ابن مريم وعُزَير ، عليهما السلام.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن عيسى بن مَيْسَرَة ، حدثنا أبو زُهَير ، حدثنا سعد بن طَرِيف ، عن الأصبغ ، عن عَليّ في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } قال : كل شيء يعبد من دون الله في النار إلا الشمس والقمر وعيسى ابن مريم. إسناده ضعيف.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } ، قال : عيسى ، وعُزَيْر ، والملائكة.
وقال الضحاك : عيسى ، ومريم ، والملائكة ، والشمس ، والقمر. وكذا روي عن سعيد بن جُبَيْر ، وأبي صالح وغير واحد.
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا غريبًا جدا ، فقال : حدثنا الفضل بن يعقوب الرُّخَّاني ، حدثنا سعيد بن مسلمة بن عبد الملك ، حدثنا الليث بن أبي سليم ، عن مُغيث ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } قال : عيسى ، وعُزَير ، والملائكة (3).
وذكر بعضهم قصة ابن الزِّبَعْرَى ومناظرةَ المشركين ، قال أبو بكر بن مَرْدُويه :
حدثنا محمد بن علي بن سهل ، حدثنا محمد بن حسن الأنماطي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرَةَ ، حدثنا يزيد بن أبي حكيم ، حدثنا الحكم - يعني : ابن أبان - عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : جاء عبد الله بن الزبعرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } ، فقال ابن الزبعرى : قد عُبدت الشمس والقمر والملائكة ، وعُزَير وعيسى ابن مريم ، كل هؤلاء في النار مع آلهتنا ؟ فنزلت : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا (4) بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } ، ثم نزلت : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ }. رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه "الأحاديث المختارة".
__________
(1) في ف : "فقال".
(2) في ت : "وابن ماجه وابن جريج".
(3) وفي إسناده سعيد بن مسلمة وشيخه ليث بن أبي سليم وهما ضعيفان.
(4) في ت : "مثلا".

(5/379)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا قَبِيصة بن عقبة ، حدثنا سفيان - يعني : الثوري - عن الأعمش ، عن أصحابه ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } قال المشركون : فالملائكة (1) ، عُزَير ، وعيسى يُعْبَدون من دون الله ؟ فنزلت : { لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا } ، الآلهة التي يعبدون ، { وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ }.
وروي عن أبي كُدَيْنَة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس مثل ذلك ، وقال فنزلت : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ }.
وقال [الإمام] (2) محمد بن إسحاق بن يسار (3) ، رحمه الله ، في كتاب "السيرة" : وجلس رسول الله - فيما بلغني - يومًا مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المسجد (4) غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، وتلا عليه وعليهم { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } إلى قوله : { وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ } (5) ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل عبد الله بن الزبَعْرَى السهمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفًا ولا قعد ، وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد (6) من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن الزبعرى : أما والله لو وجدته لَخَصمته ، فسلوا محمدًا : كل ما يُعْبَد (7) من دون الله في جهنم مع من عَبَده ، فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرًا ، والنصارى تعبد عيسى ابن مريم ؟ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس ، من قول عبد الله بن الزبعرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم.
فَذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "كل مَنْ أحَبَّ أن يُعْبَدَ من دون الله فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشياطين (8) ومن أمَرَتْهُم (9) بعبادته. وأنزل الله : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ } أي : عيسى وعزير ومن عُبدوا من الأحبار والرهبان ، الذين مضوا على طاعة الله ، فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابًا من دون الله. ونزل فيما يذكرون ، أنهم يعبدون الملائكة ، وأنهم بنات الله : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } إلى قوله : { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 26 - 29] ، ونزل فيما ذُكر من أمر عيسى ، وأنه يعبد من دون الله ، وعَجَب الوليد ومن حَضَره من حُجَّته وخصومته : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ. إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ. وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا } [الزخرف : 57 - 61]
__________
(1) في ت : "والملائكة".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ت : "ابن بشار".
(4) في ف : "المجلس".
(5) في ت ، ف : "أنتم لها واردون. لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون. لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون".
(6) في ت : "تعبدون".
(7) في ت : "يعبدون".
(8) في ت ، ف : "الشيطان".
(9) في ف : "أمرهم".

(5/380)


أي : ما وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام ، فكَفى به دليلا على علم الساعة ، يقول : { فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [الزخرف : 61] (1).
وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير ؛ لأن الآية إنما نزلت خطابًا لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل ، ليكون ذلك تقريعًا وتوبيخًا لعابديها ؛ ولهذا قال : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } فكيف يورد على هذا المسيح والعزير (2) ونحوهما ، ممن (3) له عمل صالح ، ولم يَرْضَ بعبادة من عبده. وعَوّل ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن "ما" لما لا يعقل عند العرب.
وقد أسلم عبد الله بن الزبعرى بعد ذلك ، وكان من الشعراء المشهورين. وكان يهاجي المسلمين أولا ثم قال معتذرًا :
يا رَسُولَ المليك ، إنّ لساني... رَاتقٌ مَا فتَقْتُ إذْ أنَا بُورُ...
إذْ أجَاري الشَّيطَانَ في سَنَن الغَي... وَمَنْ مَالَ مَيْلَه مَثْبُور (4)
وقوله : { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ } قيل المراد بذلك الموت. رواه عبد الرزاق ، عن يحيى بن ربيعة عن عطاء.
وقيل : المراد بالفزع الأكبر : النفخة في الصور. قاله العَوْفي عن ابن عباس ، وأبو سِنَان سعيد (5) ابن سنان الشيباني ، واختاره ابن جرير في تفسيره.
وقيل : حين يُؤْمَر بالعبد إلى النار. قاله الحسن البصري.
وقيل : حين تُطبق النار على أهلها. قاله سعيد بن جُبَيْر ، وابن جُرَيج.
وقيل : حين يُذبَح الموت بين الجنة والنار. قاله أبو بكر الهذلي (6) ، فيما رواه ابن أبي حاتم ، عنه.
وقوله : { وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } ، يعني : تقول لهم الملائكة ، تبشرهم يوم معادهم إذا خرجوا من قبورهم : { هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } أي : قابلوا (7) ما يسركم.
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/358) ، ورواه الطبري في تفسيره (17/76).
(2) في ف : "وعزير".
(3) في ت : "وممن".
(4) البيتين في السيرة النبوية لابن هشام (2/419).
(5) في ت ، ف ، أ : "سعد".
(6) في ف ، أ : "الهمداني".
(7) في ت : "فأملوا".

(5/381)


يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)

{ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) }.
يقول تعالى : هذا كائن يوم القيامة ، { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } كما قال تعالى : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الزمر : 67] وقد قال البخاري :
حدثنا مُقَدم بن محمد ، حدثني عمي القاسم بن يحيى ، عن عُبَيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : "إن الله يقبض يوم القيامة الأرضَين ، وتكون السموات بيمينه" (1).
انفرد به من هذا الوجه البخاري ، رحمه الله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرَّقِّي ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن أبي الواصل (2) ، عن أبي المليح الأزدي (3) ، عن أبي الجوزاء الأزدي ، عن ابن عباس قال : يطوي الله (4) السموات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة ، يطوي ذلك كله (5) بيمينه ، يكون ذلك كله في يده بمنزلة خردلة.
وقوله : { كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قيل : المراد بالسجل [الكتاب. وقيل : المراد بالسجل] (6) هاهنا : مَلَك من الملائكة.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا يحيى بن يمان ، حدثنا أبو الوفاء الأشجعي ، عن أبيه ، عن ابن عمر في قوله تعالى : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قال : السجل : مَلَك ، فإذا صعد بالاستغفار قال : اكتبها نورًا.
وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن ابن يمان ، به.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن أبي جعفر (7) محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك.
وقال السدي في هذه الآية : السجل : مَلَك موكل بالصحف ، فإذا مات الإنسان رفع (8) كتابُه إلى السجل فطواه ، ورفعه إلى يوم القيامة.
وقيل : المراد به اسم رجل صحابي ، كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا نصر بن علي الجَهْضَميّ ، حدثنا نوح بن قيس ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس : [ { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ] (9) ، قال : السجل : هو الرجل.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (7412).
(2) في ت : "المواصل".
(3) في ت : "الأودي".
(4) في ت : "إليه".
(5) في ف : "كله ذلك".
(6) زيادة من ف.
(7) في ت : "أبي حفص".
(8) في ت : "دفع".
(9) زيادة من ف.

(5/382)


قال نوح : وأخبرني يزيد بن كعب - هو العَوْذي - عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال : السجل كاتب (1) للنبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا رواه أبو داود والنسائي عن قتيبة بن سعيد (2) ، عن نوح بن قيس ، عن يزيد بن كعب ، عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، قال : السجل كاتب (3) للنبي صلى الله عليه وسلم (4).
ورواه ابن جرير عن نصر بن علي الجهضمي ، كما تقدم. ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النُّكْريّ عن أبيه ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس قال : كان للنبي (5) صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى (6) السجل وهو قوله : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، قال : كما يطوى السجل الكتاب ، كذلك نطوي السماء ، ثم قال : وهو غير محفوظ (7).
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه : أنبأنا أبو بكر البَرْقَاني ، أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي ، أنبأنا أحمد بن الحسن الكرخي ، أن حمدان بن سعيد حدثهم ، عن عبد الله بن نمير ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : السجلّ : كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم (8).
وهذا منكر جدًا من حديث نافع عن ابن عمر ، لا يصح أصلا وكذلك ما تقدم عن ابن عباس ، من رواية أبي داود وغيره ، لا يصح أيضًا. وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه - وإن كان في سنن أبي داود - منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المِزِّي ، فَسَح الله في عمره ، ونَسَأ في أجله ، وختم له بصالح عمله ، وقد أفردت لهذا الحديث جزءًا على حدة (9) ، ولله الحمد. وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث ، ورده أتم رد ، وقال : لا يُعَرف في الصحابة أحد (10) اسمه السجِل ، وكُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون ، وليس فيهم أحد اسمه السجل ، وصَدَق رحمه الله في ذلك ، وهو من أقوى الأدلة على نَكَارة هذا الحديث. وأما مَنْ ذكر في أسماء الصحابة هذا ، فإنما اعتمد على هذا الحديث ، لا على غيره ، والله أعلم. والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة ، قاله علي بن أبي طلحة والعوفي ، عنه. ونص على ذلك مجاهد ، وقتادة ، وغير واحد. واختاره ابن جرير ؛ لأنه المعروف في اللغة ، فعلى هذا يكون معنى الكلام : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } أي : على [هذا] (11) الكتاب ، بمعنى المكتوب ، كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [الصافات : 103] ، أي : على الجبين ، وله نظائر في اللغة ، والله أعلم.
وقوله : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } يعني : هذا كائن لا محالة ، يوم يعيد الله الخلائق خلقًا جديدًا ، كما بدأهم هو القادر على إعادتهم (12) ، وذلك واجب الوقوع ، لأنه من
__________
(1) في ت : "كانت".
(2) في ت : "سعد".
(3) في ت : "كانت".
(4) سنن أبي داود برقم (2935) وسنن النسائي الكبرى برقم (11335).
(5) في ت : "كان لرسول الله".
(6) في ت : "كانت تسمى".
(7) الكامل (7/205).
(8) تاريخ بغداد (8/175).
(9) في أ : "حدته".
(10) في ف : "لا يعرف أحد في الصحابة".
(11) زيادة من ف ، أ.
(12) في ت : "إعادته".

(5/383)


وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)

جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل ، وهو القادر على ذلك. ولهذا قال : { إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ }.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع وابن جعفر المعنى (1) ، قالا (2) : حدثنا شعبة ، عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : "إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غُرْلا كما بدأنا أول خلق نعيده ، وعدًا علينا إنا كنا فاعلين" ؛ وذكر تمام الحديث ، أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة. ورواه (3) البخاري عند هذه الآية في كتابه (4).
وقد روى ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن عائشة عن النبي (5) صلى الله عليه وسلم ، نحو ذلك.
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ } قال : نهلك كل شيء ، كما كان أول مرة.
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) }.
يقول تعالى مخبرا عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين ، من السعادة في الدنيا والآخرة ، ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة ، كقوله تعالى : { إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف : 128]. وقال : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ } [غافر : 51]. وقال : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ [وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ] (6) } ، الآية [النور : 55].وأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية فهو كائن لا محالة ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } ، قال الأعمش : سألت سعيد بن جُبَير عن قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ } فقال الزبور : التوراة ، والإنجيل ، والقرآن (7).
وقال مجاهد : الزبور : الكتاب.
وقال ابن عباس ، والشعبي ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد : الزبور : الذي أنزل على داود ، والذكر : التوراة ، وعن ابن عباس : الزبور : القرآن.
وقال سعيد بن جُبَير : الذكر : الذي في السماء.
__________
(1) في هـ ، ت ، ف ، أ : "وابن جعفر ، وعفان المعنى" والمثبت من المسند.
(2) في ت : "قالوا".
(3) في ت : "وذكره" ، وفي ف ، أ : "ذكره".
(4) المسند (1/235) وصحيح البخاري برقم (4625) ، (4740) وصحيح مسلم برقم (2860).
(5) في ت ، ف : "عن رسول الله".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في أ : "الفرقان".

(5/384)


وقال مجاهد : الزبور : الكتبُ بعد الذكر ، والذكر : أمّ الكتاب عند الله.
واختار ذلك ابن جرير رحمه الله (1) ، وكذا قال زيد بن أسلم : هو الكتاب الأول. وقال الثوري : هو اللوح المحفوظ. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الزبور : الكتب التي نزلت على الأنبياء ، والذكر : أم الكتاب الذي (2) يكتب فيه الأشياء قبل ذلك.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أخبر الله سبحانه (3) في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السموات والأرض ، أن يُورثَ أمةَ محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويدخلهم الجنة ، وهم الصالحون.
وقال مجاهد ، عن ابن عباس : { أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } قال : أرض الجنة. وكذا قال أبو العالية ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، والشعبي ، وقتادة ، والسدي ، وأبو صالح ، والربيع بن أنس ، والثوري [رحمهم الله تعالى] (4).
وقوله : { إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } أي : إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لبَلاغًا : لمَنْفعةَ وكفاية لقوم عابدين ، وهم الذين عبدوا الله بما شرعه وأحبه ورضيه ، وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم.
وقوله [تعالى] (5) : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } : يخبر تعالى أن الله جَعَل محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ، أي : أرسله رحمة لهم كلّهم ، فمن قَبِل هذه الرحمةَ وشكَر هذه النعمةَ ، سَعد في الدنيا والآخرة ، ومن رَدّها وجحدها خسر في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ (6) الْقَرَارُ } [إبراهيم : 28 ، 29] ، وقال الله تعالى في صفة القرآن : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت : 44].
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا مروان الفَزَاريّ ، عن يزيد بن كَيْسَان ، عن ابن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، ادع على المشركين ، قال : "إني لم أبعَثْ لَعَّانًا ، وإنما بُعثْتُ رحمة". انفرد بإخراجه مسلم (7).
وفي الحديث الآخر : "إنما أنا رحمة مهداة". رواه عبد الله بن أبي عرابة ، وغيره ، عن وَكِيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا (8). قال إبراهيم الحربي : وقد رواه غيره عن وكيع ،
__________
(1) تفسير الطبري (17/81).
(2) في ت : "أم الكتاب والذي".
(3) في ف : "الله تعالى".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) زيادة من ت ، وفي ف ، أ : "عز وجل".
(6) في ت ، ف ، أ : "فبئس".
(7) صحيح مسلم برقم (2559).
(8) رواه أبو الحسن السكري في "الفوائد المنتقاة" (157/2). كما في السلسلة الصحيحة (1/803) للألباني - حدثنا عبد الله بن محمد ابن أسد ، حدثنا حاتم بن منصور الشاشي قال : حدثنا عبد الله بن أبي عرابة الشاشي به. ورواه غيره متصلا : فرواه عبد الله بن نصر الأصم عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. خرجه ابن عدي في الكامل (4/231) من طريق عمر بن سنان عن عبد الله بن نصر.
وقال : "هكذا حدثناه عمر بن سنان عن عبد الله بن نصر عن وكيع عن الأعمش ، وهذا غير محفوظ عن وكيع عن الأعمش ، إنما يرويه مالك بن سعيد عن الأعمش ، وعبد الله بن نصر هذا له غير ما ذكرت مما أنكرت عليه".

(5/385)


فلم يذكر أبا هريرة (1). وكذا قال البخاري ، وقد سئل عن هذا الحديث ، فقال : كان عند حفص بن غياث مرسلا.
قال الحافظ ابن عساكر : وقد رواه مالك بن سُعَير بن الْخِمْس ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا (2). ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقرئ وأبي أحمد الحاكم ، كلاهما عن بكر بن محمد بن إبراهيم الصوفي : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، عن أبي أسامة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس (3) بن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما أنا رحمة مهداة".
ثم أورده من طريق الصَّلْت بن مسعود ، عن سفيان بن عيينة ، عن مِسْعَر (4) ، عن سعيد بن خالد ، عن رجل ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله بعثني رحمة مهداة ، بُعثْتُ برفع قوم وخفض آخرين" (5).
قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن نافع الطحان ، حدثنا أحمد بن صالح قال : وجدت كتابًا بالمدينة عن عبد العزيز الدّراوردي وإبراهيم بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمد بن صالح التمار ، عن ابن [شهاب] (6) عن محمد بن جُبَير بن مطعم ، عن أبيه قال : قال أبو جهل حين قدم [مكة] (7) منصرفة عن حَمْزَة : يا معشر قريش ، إن محمدًا نزل يثرب وأرسل طلائعه ، وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا ، فاحذروا أن تمروا طريقَه أو تقاربوه (8) ، فإنه كالأسد الضاري ؛ إنه حَنِق عليكم ؛ لأنكم نفيتموه نفي القِرْدَان عن المناسم (9) ، والله إن له لَسحْرَةً ، ما رأيته قط ولا أحدًا من أصحابه إلا رأيت معهم الشيطان ، وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قَيلَةَ - يعني : الأوس والخزرج - لهو عدو استعان بعدو ، فقال له مطعم بن عدي : يا أبا الحكم ، والله ما رأيتُ أحدًا أصدقَ لسانًا ، ولا أصدق موعدًا ، من أخيكم الذي طردتم ، وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا أكف الناس عنه. قال [أبو سفيان] (10) بن الحارث : كونوا أشدّ ما كنتم عليه ، إن (11) ابني قيلَةَ إن ظفَرُوا بكم لم يرْقُبوا فيكم إلا ولا ذمة ، وإن أطعتموني ألجأتموهم خير كنابة ، أو تخرجوا محمدًا
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/504) عن وكيع مرسلا ، ورواه ابن سعد في الطبقات (1/182) عن وكيع مرسلا ، ورواه البيهقي في دلائل النبوة (1/157) من طريق إبراهيم بن عبد الله عن وكيع مرسلا.
(2) ورواه البزار في مسنده برقم (2369) "كشف الأستار" والبيهقي في دلائل النبوة (1/158) من طريق زياد بن يحيى عن مالك بن سعيد به ، وقال البزار : "لا نعلم أحدا وصله إلا مالك بن سعيد ، وغيره يرسله".
(3) في ت ، أ : "حسن".
(4) في أ : "عن شعبة".
(5) وذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له الألباني بالضعف.
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من أ.
(8) في ت : "أو تحاربوه".
(9) في أ : "الناس".
(10) زيادة من أ.
(11) في ت : "فإن".

(5/386)


من بين ظهرانيهم ، فيكون وحيدا مطرودا ، وأما [ابنا قَيْلة فوالله ما هما] (1) وأهل [دهلك] (2) في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم ، وقال :
سَأمْنَحُ جَانبًا منّي غَليظًا... عَلَى مَا كَانَ مِنْ قُرب وَبُعْد...
رجَالُ الخَزْرَجيَّة أهْلُ ذُل... إذا مَا كَانَ هَزْل بَعْدَ جد...
فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : "والذي نفسي بيده ، لأقتلنهم ولأصلبَنَّهم ولأهدينهم وهم كارهون ، إني رحمة بعثني الله ، ولا يَتَوفَّاني حتى يظهر الله دينه ، لي خمسة أسماء : أنا محمد ، وأحمد ، وأنا الماحي الذي يمحي الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب" (3).
وقال أحمد بن صالح : أرجو أن يكون الحديث صحيحًا.
وقال الإمامُ أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، حدثني عَمْرو بن قَيس ، عن عمرو بن أبي قُرّة الكِنْديّ قال : كان حُذيفةُ بالمدائن ، فكان يذكر أشياء قالها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء حذيفةُ إلى سَلْمان فقال سلمان : يا حذيفةَ ، إنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم [كان يغضب فيقول ، ويرضى فيقول : لقد علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم] (4) خطَب فقال : "أيما رجل من أمتي سَبَبتُه [سَبَّةً] (5) في غَضَبي أو لعنته لعنةً ، فإنما أنا رجل من ولد آدم ، أغضب كما يغضبون ، وإنما بعثني رحمةً للعالمين ، فاجعلها صلاة عليه يوم القيامة".
ورواه أبو داود ، عن أحمد بن يونس ، عن زائدة (6).
فإن قيل : فأيّ رحمة حصلت لمن كَفَر به ؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير : حدثنا إسحاق بن شاهين ، حدثنا إسحاق الأزرق ، عن المسعودي ، عن رجل يقال له : سعيد ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } قال : من آمن بالله واليوم الآخر ، كُتِبَ له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عُوِفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف (7).
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث المسعودي ، عن أبي سعد - وهو سعيد بن المرزبان البقّال - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فذكره بنحوه ، والله أعلم.
وقد رواه أبو القاسمُ الطبراني عن عبدان بن أحمد ، عن عيسى بن يونس الرَمْلِي ، عن أيوب ابن سُوَيد ، عن المسعودي ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } قال : من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يتبعه عُوفِي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والقذف (8).
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) المعجم الكبير (2/123).
(4) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(5) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(6) المسند (5/437) وسنن أبي داود برقم (4659).
(7) تفسير الطبري (17/83).
(8) المعجم الكبير (12/23).

(5/387)


قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)

{ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112) }.
يقول تعالى آمرًا رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، أن يقول للمشركين : { إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } أي : متبعون على ذلك ، مستسلمون منقادون (1) له.
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : تركوا ما دعوتهم إليه ، { فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ } أي : أعلمتكم أني حَرْب لكم ، كما أنكم حَرْبٌ لي ، بريء منكم كما أنكم بُرآء مني ، كقوله : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [يونس : 41]. وقال { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } [الانفال : 58] : ليكن (2) علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء ، وهكذا هاهنا ، { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ } أي : أعلمتكم ببراءتي منكم ، وبراءتكم مني ؛ لعلمي بذلك.
وقوله : { وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ } أي : هو واقع لا محالة ، ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده ، { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } أي : إن الله يعلم الغيب جميعَه ، ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون ، يعلم الظواهر والضمائر ، ويعلم السر وأخفى ، ويعلم ما العباد عاملون في أجهارهم وأسرارهم ، وسيجزيهم على ذلك ، على القليل والجليل.
وقوله : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي : وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين.
قال ابن جرير : لعل تأخير ذلك (3) عنكم فتنة لكم ، ومتاع إلى أجل مسمى (4). وحكاه عون ، عن ابن عباس ، والله أعلم.
{ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ } أي : افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق.
قال قتادة : كان الأنبياء ، عليهم السلام ، يقولون : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [الأعراف : 89] ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك.
وعن مالك ، عن زيد بن أسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد قتالا قال : { رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ }.
وقوله : { وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي : على ما يقولون ويفترون من الكذب ، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك ، والله المستعان عليكم في ذلك (5).
__________
(1) في ت : "متقاربين".
(2) في ت : "لكن".
(3) في أ : "هذا".
(4) تفسير الطبري (17/84).
(5) وقع في ت : "آخر تفسير "سورة الأنبياء" عليهم السلام ، ولله الحمد والمنة ، عفا الله لمن نظر فيه ولكاتبه وللمسلمين أجمعين".

(5/388)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

تفسير سورة الحج
[وهي مكية] (1).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) }.
يقول تعالى آمرا عباده بتقواه ، ومخبرا لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها. وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة : هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عَرصَات القيامة ؟ أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم ؟ كما قال تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا. وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ، 2 ] ، وقال تعالى : { وَحُمِلَتِ الأرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً * وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } [ الحاقة : 14 ، 15 ] ، وقال تعالى : { إِذَا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا. وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا. فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا } [ الواقعة : 4 - 6 ].
فقال قائلون : هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا ، وأول أحوال الساعة.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عَلْقَمَة في قوله : { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } ، قال : قبل الساعة.
ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري ، عن منصور والأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، فذكره. قال : وروي عن الشعبي ، وإبراهيم ، وعُبَيْد بن عُمَيْر ، نحو ذلك.
وقال أبو كُدَيْنَةَ ، عن عطاء ، عن عامر الشعبي : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ } الآية ، قال : هذا في الدنيا قبل يوم القيامة.
وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مُسْتَنَدَ مَنْ قال ذلك في حديث الصُّور ، من رواية إسماعيل ابن رافع قاضي أهل المدينة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصُّور ، فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فِيه ، شاخص ببصره إلى العَرش ، ينتظر متى يؤمر". قال أبو هريرة : يا رسول الله ، وما الصور ؟
قال : "قرن" قال : فكيف هو ؟ قال : "قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات ، الأولى نفخة الفزع ،
__________
(1) زيادة من ت.

(5/389)


والثانية نفخة الصَّعْق ، والثالثة نفخة (1) القيام لرب العالمين ، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع. فيفزعُ أهل السموات وأهل الأرض ، إلا من شاء الله ، ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر ، وهي التي يقول الله تعالى : { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } [ ص : 15 ] فَيُسير الله الجبال ، فتكون سرابا وتُرج الأرض بأهلها رجا ، وهي التي يقول الله تعالى : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } [ النازعات : 6 - 8 ] ، فتكون الأرض ، كالسفينة الموبقة (2) في البحر ، تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها ، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح.
فيمتد الناس على ظهرها ، فتذهل المراضع ، وتضع الحوامل. ويشيب (3) الولدان ، وتطير الشياطين هاربة ، حتى تأتي الأقطار ، فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها ، فترجع ، ويولي (4) الناس مدبرين ، ينادي بعضهم بعضا ، وهو الذي يقول الله تعالى : { يَوْمَ التَّنَادِ (5) * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ غافر : 32 ، 33 ] فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر ، فَرَأوا أمرا عظيما ، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به ، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ، ثم خسف شمسها وخُسفَ قمرها ، وانتثرت نجومها ، ثم كُشِطت عنهم" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك" قال أبو هريرة : فمن استثنى الله حين يقول : { فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ (6) شَاءَ اللَّهُ } [ النمل : 87 ] ؟ قال : أولئك الشهداء ، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ، وقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم ، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه ، وهو الذي يقول الله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } (7).
وهذا الحديث قد رواه الطبراني ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وغير واحد (8) مطولا جدًا.
والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة (9) كائنة قبل يوم الساعة ، وأضيفت إلى الساعة لقربها منها ، كما يقال : أشراط الساعة ، ونحو ذلك ، والله أعلم.
وقال آخرون : بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال ، كائن يوم القيامة في العرصات ، بعد القيامة من القبور. واختار ذلك ابن جرير. واحتجوا بأحاديث :
الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن هشام ، حدثنا (10) قتادة ، عن الحسن ، عن عمران [ابن] (11) حُصَين ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض أسفاره ، وقد تفاوت بين أصحابه السير ، رفع بهاتين الآيتين صوته : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }
__________
(1) في ت : "والنفخة الثالثة".
(2) في ت : "المرسية".
(3) في ت ، أ : "وتشيب".
(4) في ت : "وتولي".
(5) في ت : "التنادي".
(6) في ت : "ما".
(7) تفسير الطبري (17/85).
(8) حديث الصور سبق عند تفسير الآية 73 من سورة الأنعام.
(9) في ت : "الزلزلة له".
(10) في ت : "عن".
(11) زيادة من ت ، أ ، والمسند.

(5/390)


فلما سمع أصحابه بذلك حَثْوا المُطي ، وعرفوا أنه عند قول يقوله ، فلما تأشهوا حوله قال : " أتدرون أي يوم ذاك ؟ يوم ينادى آدم ، عليه السلام ، فيناديه ربه عز وجل ، فيقول : يا آدم ، ابعث بعثك إلى النار فيقول : يا رب ، وما بعث النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار ، وواحد في الجنة". قال فأبلس أصحابه حتى ما أوضحوا بضاحكة ، فلما رأى ذلك قال : "أبشروا واعملوا ، فوالذي نفس محمد بيده ، إنكم لمع (1) خَليقتين ما كانتا مع شيء قط إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج ، ومن هلك من بني آدم وبني إبليس" قال : فسُرّي عنهم ، ثم قال : اعملوا وأبشروا ، فوالذي نفس محمد بيده ، ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير ، أو الرقمة في ذراع الدابة".
وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما ، عن محمد بن بَشَّار ، عن يحيى - وهو القَطَّان - عن هشام - وهو الدستوائي - عن قتادة ، به (2) بنحوه. وقال الترمذي : حسن صحيح.
طريق أخرى لهذا الحديث : قال (3) الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا ابن جُدعان ، عن الحسن ، عن عمران بن حُصَيْن ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما نزلت : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ (4) اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } إلى قوله : { وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } ، قال : أنزلت عليه هذه ، وهو في سفر ، فقال : "أتدرون أي يوم ذلك ؟" فقالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "ذلك يوم يقول الله لآدم : ابعث بعث النار. قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة" فأنشأ المسلمون يبكون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قاربوا وسَدِّدوا ، فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية" قال : "فيؤخذ العدد من الجاهلية ، فإن تمت وإلا كُمّلت من المنافقين ، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرَّقمة في ذراع الدابة ، أو كالشامة (5) في جنب البعير" ثم قال : "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" فكبروا ثم قال : "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" فكبروا ، ثم قال : "إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبروا ، قال : ولا أدري أقال الثلثين أم لا ؟
وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عُيَيْنَةَ (6) ، ثم قال الترمذي أيضا : هذا حديث حسن صحيح.
وقد روي عن سعيد بن أبي عَرُوبة عن الحسن ، عن عمران بن الحصين. وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن الحسن والعلاء بن زياد العدوي ، عن عمران بن الحصين (7) ، فذكره.
__________
(1) في ت : "مع".
(2) المسند (4/435) وسنن الترمذي برقم (3169) وسنن النسائي الكبرى برقم (11340).
(3) في ت : "وقال".
(4) في ت : "يا أيها الذين آمنوا" وهو خطأ.
(5) في ت : "وكالشامة".
(6) سنن الترمذي برقم (3168) والمسند (4/432).
(7) في ت : "ابن حصين".

(5/391)


وهكذا روى ابن جرير عن بُنْدَار ، عن غُنْدَر ، عن عوف ، عن الحسن قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العُسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } وذكر الحديث (1) ، فذكر نحو سياق ابن جُدْعَان ، فالله أعلم.
الحديث الثاني : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن الطَبَّاع ، حدثنا أبو سفيان - [يعني] (2) المعمري - عن مَعْمَر ، عن قتادة ، عن أنس قال : نزلت : { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } وذكر - يعني : نحو سياق الحسن عن عمران - غير أنه قال : "ومن هلك من كفرة الجن والإنس".
رواه ابن جرير بطوله ، من حديث معمر (3).
الحديث الثالث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد - يعني : ابن العوام - حدثنا هلال بن خباب (4) ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : تلا (5) رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فذكر نحوه ، وقال فيه : "إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة" ، ثم قال : "إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة" ثم قال : "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة" ففرحوا ، وزاد أيضًا : "وإنما أنتم جزء من ألف جزء" (6).
الحديث الرابع : قال البخاري عند هذه الآية : حدثنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو صالح ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم ، فيقول : لبيك ربنا وسعديك. فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار. قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين (7). فحينئذ تضع الحامل حملها ، ويشيب الوليد ، { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين (8) ، ومنكم واحد ، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة". فكبرنا ، ثم قال : "ثلث أهل الجنة". فكبرنا ، ثم قال : "شطر أهل الجنة" فكبرنا (9).
وقد رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع ، ومسلم ، والنسائي في تفسيره ، من طرق ، عن الأعمش ، به (10).
__________
(1) تفسير الطبري (17/86).
(2) زيادة من أ.
(3) تفسير الطبري (17/87).
(4) في ت : "ابن حبان".
(5) في ت : "قال".
(6) ورواه البزار في مسنده برقم (2235) "كشف الأستار" حدثنا أبو بكر بن إسحاق عن سعد بن سليمان به ، وقال : "لا نعلمه يروى عن ابن عباس إلا بهذا الإسناد". وقال الهيثمي في المجمع (7/69) : "قلت في الصحيح بعضه ، رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير هلال بن خباب وهو ثقة".
(7) في ت : "وتسعون".
(8) في ت : "وتسعون".
(9) صحيح البخاري برقم (4741).
(10) صحيح البخاري برقم (3348 ، 7483) وصحيح مسلم برقم (222) وسنن النسائي الكبرى برقم (11339).

(5/392)


الحديث الخامس : قال الإمام أحمد : حدثنا عمار (1) بن محمد - ابن أخت سفيان الثوري - وعبيدة المعنى ، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يبعث يوم القيامة مناديا [ينادي] (2) : يا آدم ، إن الله يأمرك أن تبعث بعثًا من ذريتك إلى النار ، فيقول آدم : يا رب ، من هم ؟ فيقال له : من كل مائة تسعة وتسعين". فقال رجل من القوم : من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله ؟ قال (3) : "هل تدرون ما أنتم في الناس إلا كالشامة في صدر البعير" (4).
انفرد بهذا السند وهذا السياق الإمام أحمد.
الحديث السادس : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن حاتم بن أبي صغيرة ، حدثنا ابن أبي مُلَيْكَةَ ؛ أن القاسم بن محمد أخبره ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنكم تحشرون يوم القيامة حُفاة عراة غرلا". قالت عائشة : يا رسول الله ، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : "يا عائشة ، إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك". أخرجاه في الصحيحين (5).
الحديث السابع : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن خالد بن أبي عِمْران ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة ؟ قال : "يا عائشة ، أما عند ثلاث فلا أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف ، فلا. وأما عند تطاير الكتب فإما يعطى بيمينه أو يعطى بشماله ، فلا. وحين يخرج عُنُق من النار فينطوي عليهم ، ويتغيظ عليهم ، ويقول ذلك العنق : وكلت بثلاثة ، وكلت بثلاثة ، وكلت بثلاثة : وكلت بمن ادعى مع الله إلها آخر ، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب ، ووكلت بكل جبار عنيد" قال : "فينطوي (6) عليهم ، ويرميهم في غمرات ، ولجهنم جسر أدق من الشعر وأحد من السيف ، عليه كلاليب وحسك يأخُذْنَ من شاء الله ، والناس عليه كالطرف وكالبرق وكالريح ، وكأجاويد الخيل والركاب ، والملائكة يقولون : رب ، سَلِّم ، سَلِّم. فناج مسلم ، ومخدوش مسلم ، ومكَوّر (7) في النار على وجهه (8) " (9).
والأحاديث في أهوال يوم القيامة والآثار كثيرة جدا ، لها موضع آخر ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } أي : أمر كبير ، وخطب جليل ، وطارق مفظع ، وحادث هائل ، وكائن عجيب.
والزلزال (10) : هو ما يحصل للنفوس من الفزع ، والرعب كما قال تعالى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا } [ الأحزاب : 11 ].
__________
(1) في ت : "عمارة".
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) في ت : "فقال".
(4) المسند (1/388).
(5) المسند (6/53) وصحيح البخاري برقم (6527) وصحيح مسلم برقم (2855).
(6) في ت : "وينطوي".
(7) في أ : "ومكبوب".
(8) في ت : "وجوههم".
(9) المسند (6/110).
(10) في ت : "والزلازل".

(5/393)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)

ثم قال تعالى : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا } : هذا من باب ضمير الشأن ؛ ولهذا قال مفسرًا له : { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } أي : تشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها ، والتي هي أشفق الناس عليه ، تدهش عنه في حال إرضاعها له ؛ ولهذا قال : { كُلُّ مُرْضِعَةٍ } ، ولم يقل : "مرضع" وقال : { عَمَّا أَرْضَعَتْ } أي : عن رضيعها قبل فطامه.
وقوله : { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } أي : قبل تمامه لشدة الهول ، { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى } وقرئ : "سَكْرَى" أي : من شدة الأمر الذي [قد] (1) صاروا فيه قد دهشت عقولهم ، وغابت أذهانهم ، فمن رآهم حسب أنهم سُكارى ، { وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ }.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) }.
يقول تعالى ذامًا لمن كذب بالبعث ، وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى ، معرضا عما أنزل الله على أنبيائه ، متبعًا في قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد ، من الإنس والجن ، وهذا حال أهل الضلال (2) والبدع ، المعرضين عن الحق ، المتبعين للباطل ، يتركون ما أنزله الله على رسوله من الحق المبين ، ويتبعون أقوال رءوس الضلالة ، الدعاة إلى البدع بالأهواء والآراء ، ولهذا قال في شأنهم وأشباههم : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، أي : علم صحيح ، { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ. مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ } قال مجاهد : يعني الشيطان ، يعني : كتب عليه كتابة قدرية { أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ } أي : اتبعه وقلده ، { فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } أي : يضله في الدنيا ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير ، وهو الحار المؤلم المزعج المقلق.
وقد قال السدي ، عن أبي مالك : نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث. وكذلك (3) قال ابن جريج.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن سلم (4) البصري ، حدثنا عمرو بن المحرم أبو قتادة ، حدثنا المعمر (5) ، حدثنا أبو كعب المكي قال : قال خبيث من خُبثاء قريش : أخبرنا (6) عن ربكم ، من ذهب هو ، أو من فضة هو ، أو من نحاس هو ؟ فقعقعت السماء قعقعة - والقعقعة في كلام العرب : الرعد - فإذا قِحْف رأسه ساقط بين يديه.
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : جاء يهودي فقال : يا محمد ، أخبرنا عن ربك : من أي شيء هو ؟ من در أم من ياقوت ؟ قال : فجاءت صاعقة فأخذته.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت : "الضلالة".
(3) في ف : "وكذا".
(4) في ت ، ف : "ابن مسلم".
(5) في ت : "المعتمر".
(6) في ت : "حدثنا".

(5/394)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) }.

(5/395)


ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)

{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) }.
لما ذكر تعالى المخالف للبعث ، المنكر للمعاد ، ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد ، بما يشاهد من بدئه للخلق (1) ، فقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } أي : في شك { مِنَ الْبَعْثِ } وهو المعاد وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } أي : أصل بَرْئه (2) لكم من تراب ، وهو الذي خلق منه آدم ، عليه السلام { ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } أي : ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ } ذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة ، مكثت أربعين يوما كذلك ، يضاف إليه ما يجتمع إليها ، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله ، فتمكث كذلك أربعين يوما ، ثم تستحيل فتصير مضغة - قطعة من لحم لا شكل فيها ولا تخطيط - ثم يشرع في التشكيل والتخطيط ، فيصور منها رأس ويدان ، وصدر وبطن ، وفخذان ورجلان ، وسائر الأعضاء. فتارة تُسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط ، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط ؛ ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي : كما تشاهدونها ، { لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها ، كما قال مجاهد في قوله تعالى : { مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } قال : هو السقط مخلوق وغير مخلوق. فإذا مضى عليها أربعون يوما ، وهي مضغة ، أرسل الله تعالى إليها ملكا فنفخ (3) فيها الروح ، وسواها كما يشاء الله عز وجل (4) ، من حسن وقبيح ، وذكر وأنثى ، وكتب رزقها وأجلها ، وشقي أو سعيد ، كما ثبت في الصحيحين ، من حديث الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - : "إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين ليلة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مُضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات : بكتب عمله وأجله ورزقه ، وشقي أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح" (5).
وروى ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : النطفة إذا استقرت في الرحم ، أخذها (6) ملك بكفه قال (7) : يا رب ، مخلقة أو غير
__________
(1) في ت : "بما شاهد من بين يديه للخلق" ، وفي ف : "بما يشاهده من بين يديه للخلق".
(2) في ت ، ف : "تربه".
(3) في أ : "فينفخ".
(4) في ف ، أ : "الله تعالى".
(5) صحيح البخاري برقم (6594) وصحيح مسلم برقم (2643).
(6) في هـ ، ت ، ف : "جاءها" ، والمثبت من الدر المنثور 3/345.
(7) في ت ، ف : "فقال".

(5/395)


مخلقة ؟ فإن قيل : "غير مخلقة" لم تكن نسمة ، وقذفتها الأرحام دما. وإن قيل : "مخلقة" ، قال : أي رب ، ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ ما الأجل ؟ وما الأثر ؟ وبأي أرض يموت (1) ؟ قال : فيقال للنطفة : من ربك ؟ فتقول : الله. فيقال : من رازقك ؟ فتقول : الله. فيقال له : اذهب إلى الكتاب ، فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة. قال : فتخلق فتعيش في أجلها ، وتأكل رزقها ، وتطأ أثرها ، حتى إذا جاء أجلها ماتت ، فدفنت في ذلك المكان ، ثم تلا عامر الشعبي : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة ، فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما ، وإن كانت مخلقة نكست في الخلق.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسيد - يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم - قال : "يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ، فيقول : أي رب ، أشقي أم سعيد ؟ فيقول الله ، ويكتبان ، فيقول : أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله ويكتبان ، ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله ، ثم تطوى الصحف ، فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص (2).
ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ، ومن طرق أخر ، عن أبي الطُّفَيل ، بنحو معناه (3).
وقوله : { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا } أي : ضعيفا في بدنه ، وسمعه وبصره وحواسه ، وبطشه وعقله. ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئا ، ويلطف (4) به ، ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } أي : يتكامل (5) القوى ويتزايد ، ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المنظر.
{ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى } ، أي : في حال شبابه وقواه ، { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } ، وهو الشيخوخة والهَرَم وضعف القوة والعقل والفهم ، وتناقص الأحوال من الخَرَف (6) وضعف الفكر ؛ ولهذا قال : { لِكَيْلا (7) يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } ، كما قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [ الروم : 54 ].
وقد قال الحافظ أبو يعلى [أحمد] (8) بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده : حدثنا منصور بن أبي مزاحم (9) ، حدثنا خالد الزيات ، حدثني داود أبو سليمان ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر ابن حزم الأنصاري ، عن أنس بن مالك - رفع الحديث - قال : "المولود حتى يبلغ الحنث ، ما عمل من حسنة ، كتبت لوالده أو لوالدته (10) وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه ، فإذا بلغ الحنث جرى الله عليه القلم أمر الملكان اللذان معه أن يحفظا وأن يشددا ، فإذا بلغ أربعين سنة في
__________
(1) في ف : "تموت".
(2) في ف : "ولا ينقص".
(3) صحيح مسلم برقم (2644).
(4) في أ : "ويتلطف".
(5) في ت : "تتكامل".
(6) في ت ، ف ، أ : "من الحزن".
(7) في ت : "لا".
(8) زيادة من ت ، ف ، أ.
(9) في أ : "ابن أبي عاصم".
(10) في ت ، ف : "لوالديه".

(5/396)


الإسلام أمنه الله من البلايا الثلاث : الجنون ، والجذام ، والبرص. فإذا بلغ الخمسين ، خفف الله حسابه. فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب ، فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفعه في أهل بيته ، وكان أسير الله في أرضه ، فإذا بلغ أرذل العمر { لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير ، فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه" (1).
هذا حديث غريب جدا ، وفيه نكارة شديدة. ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده مرفوعا وموقوفا فقال :
حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج ، حدثنا محمد بن عامر ، عن محمد بن عبد الله العامري (2) ، عن عمرو بن جعفر ، عن أنس قال : إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة ، أمنه الله من أنواع البلايا ، من الجنون والجذام والبرص (3) ، فإذا بلغ الخمسين لَيَّن الله حسابه ، وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه عليها ، وإذا بلغ السبعين أحبه الله ، وأحبه أهل السماء ، وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته ، ومحا عنه سيئاته ، وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسمي أسير الله في الأرض ، وشفع في أهله (4).
ثم قال : حدثنا هاشم ، حدثنا الفرج ، حدثني محمد بن عبد الله العامري ، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله (5).
ورواه الإمام أحمد أيضا : حدثنا أنس بن عياض ، حدثني يوسف بن أبي ذرة (6) الأنصاري ، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضَّمْري ، عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة ، إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء : الجنون والجذام والبرص (7)..... وذكر تمام الحديث ، كما تقدم سواء (8).
ورواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن عبد الله بن شبيب ، عن أبي شيبة ، عن عبد الله بن عبد الملك (9) ، عن أبي قتادة العُذْري ، عن ابن أخي الزهري ، عن عمه ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من عبد يعمر في الإسلام أربعين سنة ، إلا صرف الله عنه أنواعا من البلاء : الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب ، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب ، فإذا بلغ سبعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسمي أسير الله ، وأحبه أهل السماء (10) ، فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ التسعين غَفَر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وسُمي أسير الله في أرضه ، وشفع في أهل بيته" (11).
__________
(1) مسند أبي يعلى (6/352).
(2) في ت ، ف : "العاملي".
(3) في ف : "البرص والجذام".
(4) المسند (2/89).
(5) المسند (2/89)
(6) في هـ ، ت ، ف : "أبي بردة" ، والتصويب من كتب الرجال.
(7) في ت : "أو الجذام أو البرص".
(8) المسند (3/217) وفي إسناده يوسف بن أبي ذرة وهو ضعيف.
(9) في ت : "عبد الله بن مالك".
(10) في أ : "السموات".
(11) مسند البزار برقم (3588) "كشف الأستار".

(5/397)


وقوله : { وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً } : هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى ، كما يحيي الأرض الميتة الهامدة ، وهي القحلَة التي لا نبت فيها ولا شيء (1).
وقال قتادة : غبراء متهشمة. وقال السدي : ميتة.
{ فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي : فإذا أنزل الله عليها المطر { اهْتَزَّتْ } أي : تحركت وحييت بعد موتها ، { وَرَبَتْ } أي : ارتفعت لما سكن فيها الثرى ، ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون ، من ثمار وزروع ، وأشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها ، وروائحها وأشكالها ومنافعها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي : حسن المنظر طيب الريح.
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } أي : الخالق المدبر الفعال لما يشاء ، { وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى } [أي : كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع ؛ { إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى } ] (2) ، { إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ فصلت : 39 ] فـ { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ يس : 82].
{ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا } أي : كائنة لا شك فيها ولا مرية ، { وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ } أي : يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمما ، ويوجدهم بعد العدم ، كما قال تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } [ يس : 78 - 80 ] والآيات في هذا كثيرة (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا بَهز (4) ، حدثنا حماد بن سلمة قال : أنبأنا يعلى عن عطاء ، عن وكيع بن حُدُس (5) ، عن عمه أبي رَزين العقيلي - واسمه لَقِيط بن عامر (6) - أنه قال : يا رسول الله ، أكلنا يرى ربه عز وجل يوم القيامة ؟ وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أليس كلكم ينظر إلى القمر مُخْليا به ؟ " قلنا : بلى. قال : "فالله أعظم". قال : قلت : يا رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى ، وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : "أما مررت بوادي أهلك محلا (7) " قال : بلى. قال : "ثم مررت به يهتز خضرا ؟". قال : بلى. قال : "فكذلك يحيي الله الموتى ، وذلك آيته في خلقه".
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث حماد بن سلمة ، به (8).
ثم رواه الإمام أحمد أيضا : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن سليمان بن موسى ، عن أبي رَزين العُقَيْلي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى ؟ قال : "أمررت بأرض من أرضك مُجْدبةً ، ثم مررت بها
__________
(1) في ت : "التي لا ينبت فيهات شيئا".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ت : "لكثيرة".
(4) في ت : "يزيد".
(5) في ت : "عدس" ، وفي ف ، أ : "عدي".
(6) في ت : "ليث بن أبي عامر".
(7) في أ : "ممحلا".
(8) المسند (4/11) وسنن أبي داود برقم (4731) وسنن ابن ماجه برقم (180).

(5/398)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)

مخصبة ؟" قال : نعم. قال : "كذلك النشور" (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عُبَيس (2) بن مرحوم ، حدثنا بُكَيْر بن أبي السُّمَيْط ، عن قتادة ، عن أبي الحجاج ، عن معاذ بن جبل قال : من علم أن الله هو الحق المبين ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور - دخل الجنة. [والله أعلم] (3).
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (10) }.
لما ذكر تعالى حال الضلال الجهال المقلّدين في قوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ } ، ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلال من رءوس الكفر والبدع ، فقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ } أي : بلا عقل صحيح ، ولا نقل صحيح صريح ، بل بمجرد الرأي والهوى.
وقوله : { ثَانِيَ عِطْفِهِ } قال ابن عباس وغيره : مستكبرًا عن الحق إذا دعي إليه. وقال مجاهد ، وقتادة ، ومالك عن زيد بن أسلم : { ثَانِيَ عِطْفِهِ } أي : لاوي عنقه ، وهي رقبته ، يعني : يعرض عما يدعى إليه من الحق رقَبَته استكبارًا ، كقوله تعالى : { وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 38 ، 39 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } [ النساء : 61 ] ، وقال : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } [ المنافقون : 5 ] : وقال لقمان لابنه : { وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } [ لقمان : 18 ] أي : تميله عنهم استكبارًا عليهم ، وقال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ لقمان : 7 ].
وقوله : { لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } : قال بعضهم : هذه لام العاقبة ؛ لأنه قد لا يقصد ذلك ، ويحتمل أن تكون لام التعليل. ثم إما أن يكون المراد بها المعاندين (4) ، أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الذي يجعله ممن يضل عن سبيل الله.
ثم قال تعالى : { لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } وهو الإهانة والذل ، كما أنه لما استكبر عن آيات الله لَقَّاه الله المذلة في الدنيا ، وعاقبه فيها قبل الآخرة ؛ لأنها أكبر هَمّه ومبلغ علمه ، { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ }
__________
(1) المسند (4/11)
(2) في ف ، أ : "عيسى".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ت ، ف : "المعاندون".

(5/399)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)

أي : يقال له هذا تقريعًا وتوبيخا ، { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِِ } كقوله تعالى : { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ. إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } [ الدخان : 47 - 50 ].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن الصبّاح ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا هشام ، عن الحسن قال : بلغني أن أحدهم يُحرق في اليوم سبعين ألف مرة.
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) }.
قال مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : { عَلَى حَرْفٍ } : على شك (1).
وقال غيرهم : على طرف. ومنه حرف الجبل ، أي : طرفه ، أي : دخل في الدين على طرف ، فإن وجد ما يحبه استقر ، وإلا انشمر.
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن الحارث ، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر (2) ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي حَصِين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } قال : كان الرجل يَقدم المدينة ، فإن ولدت امرأته غلاما ، ونُتِجَت خيلُه ، قال : هذا دين صالح. وإن لم تلد امرأته ، ولم تُنتَج (3) خيله قال : هذا دين سوء (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن أشعث بن إسحاق القُمِّي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيُسْلِمون ، فإذا رجعوا إلى بلادهم ، فإن وجدوا عام غَيث وعام خصب وعام ولاد حسن ، قالوا : "إن ديننا هذا لصالح ، فتمَسَّكُوا به". وإن وجدوا عام جُدوبة وعام ولاد سَوء وعام قحط ، قالوا : "ما في ديننا هذا خير". فأنزل الله على نبيه : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ }.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : كان أحدهم إذا قَدم المدينة ، وهي أرض وبيئة (5) ، فإن صح بها جسمه ، ونُتِجت فرسه مهرًا حسنا ، وولدت امرأته غلامًا ، رضي به واطمأن إليه ، وقال : "ما أصبت منذ كنتُ على ديني هذا إلا خيرا". وإن أصابته فتنة - والفتنة : البلاء - أي : وإن أصابه وجع المدينة ،
__________
(1) في ت : "على شدة".
(2) في ف : "ابن أبي بكر".
(3) في ت ، ف : "ينتج".
(4) صحيح البخاري برقم (4742).
(5) في هـ ، ت : "وهم أرض دونه" والمثبت من ف ، أ.

(5/400)


إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)

وولدت امرأته جارية ، وتأخرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت منذ كنت على دينك هذا إلا شرًا. وذلك الفتنة.
وهكذا ذكر قتادة ، والضحاك ، وابن جُريج ، وغير واحد من السلف ، في تفسير هذه الآية.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو المنافق ، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة ، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت ، انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لِمَا صلح من دنياه ، فإن (1) أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ، ترك دينه ورجع إلى الكفر.
وقال مجاهد في قوله : { انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } أي : ارتد كافرًا.
وقوله : { خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ } أي : فلا هو حَصَل من الدنيا على شيء ، وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم ، فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } أي : هذه هي الخسارة العظيمة ، والصفقة الخاسرة.
وقوله : { يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ } أي : من الأصنام والأنداد ، يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها ، وهي لا تنفعه ولا تضره ، { ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ. يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ } أي : ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها ، وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن.
وقوله : { لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } : قال مجاهد : يعني الوثن ، يعني : بئس هذا الذي دعا به من دون الله مولى ، يعني : وليًا وناصرًا ، { وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } وهو المخالط والمعاشر.
واختار ابن جرير أن المراد : لبئس ابن العم والصاحب من يعبد [الله] (2) على حرف ، { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ }
وقول مجاهد : إن المراد به الوثن ، أولى وأقرب إلى سياق الكلام ، والله أعلم.
{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) }.
لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء ، عطف بذكر الأبرار السعداء ، من الذين آمنوا بقلوبهم ، وصدّقوا إيمانهم بأفعالهم ، فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات ، [وتركوا المنكرات] (3) فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات ، في روضات الجنات.
ولما ذكر أنه أضل أولئك ، وهدى هؤلاء ، قال : { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "فإذا".
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ.

(5/401)


مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)

{ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) }

(5/402)


وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)

{ وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) }.
قال ابن عباس : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ } أي : بحبل { إِلَى السَّمَاءِ } أي : سماء بيته ، { ثُمَّ ليَقْطَعْ } يقول : ثم ليختنق به. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، وأبو الجوزاء ، وقتادة ، وغيرهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَلْيَمْدُدْ (1) بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ } أي : ليتوصل إلى بلوغ السماء ، فإن النصر إنما يأتي محمدًا من السماء ، { ثُمَّ لِيَقْطَعْ } ذلك عنه ، إن قدر على ذلك.
وقول ابن عباس وأصحابه أولى وأظهر في المعنى ، وأبلغ في التهكم ؛ فإن المعنى : من ظن أن الله ليس بناصر محمدًا وكتابه ودينه ، فليذهب فليقتل نفسه ، إن كان ذلك غائظه ، فإن الله ناصره لا محالة ، قال الله تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 51 ، 52] ؛ ولهذا قال : { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }
قال السدي : يعني : مِنْ شأن محمد (2) صلى الله عليه وسلم.
وقال عطاء الخراساني : فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ.
وقوله : { وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ } أي : القرآن { آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي : واضحات في لفظها ومعناها ، حجةً من الله على الناس { وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ } أي : يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة (3) القاطعة في ذلك ، { لا (4) يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ، أما هو فلحكمته ورحمته وعدله ، وعلمه وقهره وعظمته ، لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) }.
يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة من المؤمنين ، ومن سواهم من اليهود والصابئين - وقد قدمنا في سورة "البقرة" التعريف بهم ، واختلافَ الناس فيهم - والنصارى والمجوس ، والذين أشركوا فعبدوا غير الله معه ؛ فإنه تعالى { يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، ويحكم بينهم بالعدل (5) ، فيدخل من آمن به الجنة ، ومن كفر به (6) النار ، فإنه تعالى شهيد على أفعالهم ، حفيظ لأقوالهم ، عليم بسرائرهم ، وما تُكِن ضمائرهم.
__________
(1) في ت : "وليمدد".
(2) في ت : "محمدا".
(3) في ت : "وله الحجة".
(4) في ت : "ولا".
(5) في ت : "بالعذاب".
(6) في ت ، أ : "إلى".

(5/402)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) }.
يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، فإنه يسجد (1) لعظمته كل شيء طوعا وكرها وسجود [كل شيء مما] (2) يختص به ، كما قال : { أَوَلَمْ يَرَوْا (3) إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ النحل : 48 ]. وقال هاهنا : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ } أي : من الملائكة في أقطار السموات ، والحيوانات في جميع الجهات ، من الإنس والجن والدواب والطير ، { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ].
وقوله : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ } : إنما ذكر هذه على التنصيص ؛ لأنها قد عُبدت من دون الله ، فبين أنها تسجد لخالقها ، وأنها مربوبة مسخرة { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ].
وفي الصحيحين عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتدري أين تذهب هذه الشمس ؟". قلت : الله ورسوله أعلم. قال : "فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ، ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها : ارجعي من حيث جئت" (4).
وفي المسند وسنن أبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، في حديث الكسوف : "إن الشمس والقمر خَلْقان من خَلْق الله ، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، ولكن الله عز وجل إذا تَجَلى لشيء من خلقه خشع (5) له" (6).
وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر ، إلا يقع لله ساجدًا حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له ، فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه.
وأما الجبال والشجر فسجودهما بفَيء ظلالهما (7) عن اليمين والشمائل : وعن ابن عباس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رأيتني الليلة وأنا نائم ، كأني أصلي خلف شجرة ، فسجدتُ فسجَدَت الشجرة لسجودي ، فسمعتُها وهي تقول : اللهم ، اكتب لي بها عندك أجرًا ، وضع عني بها وزرًا ، واجعلها لي عندك ذخرًا ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس : فقرأ
__________
(1) في ت : "سجد".
(2) زيادة من ف.
(3) في ت : "يرى".
(4) صحيح البخاري برقم (4803) وصحيح مسلم برقم (159).
(5) في ف ، أ : "خضع".
(6) المسند (4/267) وسنن أبي داود برقم (1177) وسنن النسائي (14113) وسنن ابن ماجه برقم (1262).
(7) في ت : "فسجودها على ظلالها".

(5/403)


النبي (1) صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سَجَد ، فسمعته وهو يقولُ مثلَ ما أخبره الرجل عن قول الشجرة.
رواه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبّان في صحيحه (2).
وقوله : { وَالدَّوَابُّ } أي : الحيوانات كلها.
وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ ظهور الدواب (3) منابر (4) فرب مركوبة خير (5) وأكثر ذكرًا لله من راكبها.
وقوله : { وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ } أي : يسجد لله طوعا مختارًا متعبدًا بذلك ، { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } أي : ممن امتنع وأبى واستكبر ، { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ }.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن شيبان الرملي ، حدثنا القداح ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي قال : قيل لعلي : إن هاهنا رجلا يتكلم في المشيئة. فقال له علي : يا عبد الله ، خلقك الله كما يشاء أو كما شئت (6) ؟ قال : بل كما شاء. قال : فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء. قال : فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال : بل إذا شاء. قال : فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء ؟ قال : بل حيث يشاء. قال : والله لو قلت غير ذلك لضربتُ الذي فيه عيناك بالسيف.
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا قرأ ابنُ آدم السجدة اعتزل (7) الشيطان يبكي يقول : يا ويله. أمر ابن آدم بالسجود فسجد ، فله الجنة ، وأمِرتُ بالسجود فأبيتُ ، فلي النار" رواه مسلم (8).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقرئ قالا حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا مَشْرَح بن هاعان (9) أبو مُصعب المعافري قال : سمعت عقبة بن عامر يقول : قلت يا رسول الله ، أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين ؟ قال : "نعم ، فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما".
ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث عبد الله بن لهيعة ، به (10). وقال الترمذي : "ليس بقوي (11) " وفي هذا نظر ؛ فإن ابن لَهِيعة قد صَرح فيه بالسماع ، وأكثر ما نَقَموا عليه تدليسه.
__________
(1) في ت : "رسول الله".
(2) سنن الترمذي برقم (579) وسنن ابن ماجه برقم (1053) وقال الترمذي : "هذا حديث غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
(3) في ف ، أ : "الحيوانات".
(4) ورواه أبو داود في السنن برقم (2567) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) في ف : "خيرا".
(6) في ت ، ف : "لما يشاء أو لما شئت".
(7) في ف : "فاعتزل".
(8) صحيح مسلم برقم (81).
(9) في أ : "عاهان".
(10) المسند (4/151) وسنن أبي داود برقم (1402) وسنن الترمذي برقم (578).
(11) في ف : "ليس هو بقوي".

(5/404)


هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)

وقد قال أبو داود في المراسيل : حدثنا أحمد بن عمرو بن السَّرح ، أنبأنا ابن وَهْب ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن عامر بن جَشِب (1) ، عن خالد بن مَعْدان ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "فُضِّلت سورة الحج على القرآن بسجدتين".
ثم قال أبو داود : وقد أسندَ هذا ، يعني : من غير هذا الوجه ، ولا يصح (2).
وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي : حدثنا ابن أبي داود ، حدثنا يزيد بن عبد الله ، حدثنا الوليد ، حدثنا أبو عمرو ، حدثنا حفص بن عنان ، حدثني نافع ، حدثني أبو الجهم : أن عمر سجد سجدتين في الحج ، وهو بالجابية ، وقال : إن هذه فضلت بسجدتين (3).
وروى أبو داود وابن ماجه ، من حديث الحارث بن سعيد العُتَقيّ ، عن عبد الله بن مُنَين ، عن عمرو بن العاص ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المُفَصّل ، وفي سورة الحج سجدتان (4). فهذه (5) شواهد يَشُدّ بعضها بعضا.
{ هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) }.
ثبت في الصحيحين ، من (6) حديث أبي مِجْلَز ، عن قيس بن عُبَاد ، عن أبي ذر ؛ أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } نزلت في حمزة وصاحِبَيه ، وعتبةَ وصاحبيه ، يوم برزوا في بدر (7).
لفظ البخاري عند تفسيرها ، ثم قال البخاري :
حدثنا الحجاج بن مِنْهَال ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا أبو مِجْلز عن قيس بن عُبَاد ، عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يَجثُو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة. قال قيس : وفيهم نزلت : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } ، قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : عليّ وحمزة وعبيدة ، وشيبة ابن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. انفرد به البخاري (8).
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : اختصم المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم. فنحن أولى بالله
__________
(1) في ف ، أ : "جيب".
(2) المراسيل برقم (78).
(3) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (2/317) من طريق نافع عن رجل من أهل مصر أنه صلى مع عمر بن الخطاب فذكر مثله.
(4) سنن أبي داود برقم (1401) وسنن ابن ماجه برقم (1057).
(5) في ف : "فهو".
(6) في ت : "عن".
(7) صحيح البخاري برقم (4743) وصحيح مسلم برقم (3033).
(8) صحيح البخاري برقم (4744).

(5/405)


منكم. وقال المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلها ، ونبينا خاتم الأنبياء ، فنحن أولى بالله منكم. فأفلج الله الإسلامَ على من ناوأه ، وأنزل : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ }. وكذا روى العَوفي ، عن ابن عباس.
وقال شعبة ، عن قتادة في قوله : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : مُصدق ومكذب.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في هذه الآية : مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث. وقال - في رواية : هو وعطاء في هذه الآية - : هم المؤمنون والكافرون.
وقال عكرمة : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } قال : هي الجنة والنار ، قالت النار : اجعلني للعقوبة ، وقالت الجنة : اجعلني للرحمة.
وقولُ مجاهد وعطاء : إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون ، يشمل الأقوال كلها ، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها ؛ فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله ، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلانَ الحق وظهور الباطل. وهذا اختيار ابن جرير ، وهو حَسَن ؛ ولهذا قال : { فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ } أي : فصلت لهم مقطعات من نار.
قال سعيد بن جبير : من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي.
{ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ } أي : إذا صب على رءوسهم الحميم ، وهو الماء الحار في غاية الحرارة.
وقال سعيد [بن جبير] (1) هو النحاس المذاب ، أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم. وكذلك تذوب (2) جلودهم ، وقال ابن عباس وسعيد : تساقط.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالَقاني ، حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن زيد (3) ، عن أبي السَّمْح ، عن ابن (4) حُجَيرة ، عن أبي هُرَيرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الحميم ليُصَب على رءوسهم ، فينفُد الجمجمةَ حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت (5) ما في جوفه ، حتى يبلغ قدميه ، وهو الصهر ، ثم يعاد كما كان".
ورواه الترمذي من حديث ابن المبارك (6) ، وقال : حسن صحيح. وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي نعيم ، عن ابن المبارك ، به ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن أبي الحَوَاريّ ، سمعت عبد الله ابن السُّرِّيّ قال : يأتيه الملك يحمل الإناء بِكَلْبتين من حرارته ، فإذا أدناه من وجهه تكرهه ، قال : فيرفع مِقْمَعَة معه فيضرب
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "يذوب".
(3) في ت ، ف : "زيد".
(4) في ت : "أبي".
(5) في أ : "فيسلت".
(6) تفسير الطبري (17/100) وسنن الترمذي برقم (2582).

(5/406)


إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)

بها رأسه ، فَيُفرغ (1) دماغه ، ثم يُفرغ (2) الإناء من دماغه ، فيصل إلى جوفه من دماغه ، فذلك قوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ }
وقوله : { وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } ، قال الإمام أحمد :
حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو أن مِقْمَعا مِن حَديد وُضِع في (3) الأرض ، فاجتمع له الثقلان ما أقَلُّوه من الأرض" (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا (5) دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو ضُرب الجبلُ بمِقْمَع من حديد ، لتفتت ثم عاد كما كان ، ولو أن دلوا من غَسَّاق يُهَرَاق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا" (6).
وقال ابن عباس في قوله : { وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } قال : يضربون بها ، فيقع كل عضو على حياله ، فيدعون (7) بالثبور.
وقوله : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } : قال الأعمش ، عن أبي ظِبْيان ، عن سلمان قال : النار سوداء مظلمة ، لا يضيء لهبها ولا جمرها ، ثم قرأ : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا }
وقال زيد بن أسلم في هذه الآية : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } قال : بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون.
وقال الفُضيل (8) بن عياض : والله ما طمعوا في الخروج ، إن الأرجل لمقيدة ، وإن الأيدي لموثقة ، ولكن يرفعهم لهبها ، وتردهم (9) مقامعها.
وقوله : { وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } كقوله { وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [ السجدة : 20 ] ومعنى الكلام : أنهم يهانون بالعذاب قولا وفعلا.
{ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) }.
__________
(1) في ت ، ف : "فيقرع".
(2) في ت : "يقرع".
(3) في ت : "على".
(4) المسند (3/29).
(5) في ت ، ف : "عن".
(6) المسند (3/83) ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(7) في ت ، ف : "فيدعو".
(8) في ت : "الفضل".
(9) في ف : "ويردهم".

(5/407)


وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)

{ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) }.
لما أخبر تعالى عن حال أهل النار ، عياذًا بالله من حالهم ، وما هم فيه من العذاب والنَّكال

(5/407)


والحريق والأغلال ، وما أعد لهم من الثياب من النار ، ذكر حال أهل الجنة - نسأل الله من فضله وكرمه أن يدخلنا الجنة - فقال : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : تتخَرّق في أكنافها وأرجائها وجوانبها ، وتحت أشجارها وقصورها ، يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا } من الحلية ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا } أي : في أيديهم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : "تبلغ الحِلْيَة من المؤمن حيث يبلغ الوُضُوء" (1).
وقال كعب الأحبار : إن في الجنة ملكًا لو شئت أن أسميه لسميتُه ، يصوغ لأهل الجنة الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة ، لو أبرز قُلْب منها - أي : سوار منها - لرد شعاع الشمس ، كما ترد (2) الشمس نور القمر.
وقوله : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } : في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم ، لباس هؤلاء من الحرير ، إستبرقه وسُنْدُسه ، كما قال : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا. إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا } [ الإنسان : 21 ، 22 ] ، وفي الصحيح : "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا ، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" (3).
قال عبد الله بن الزبير : ومن لم يلبس الحرير في الآخرة ، لم يدخل الجنة ، قال الله تعالى : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }
وقوله : { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } كقوله { وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } [ إبراهيم : 23] ، وقوله : { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [ الرعد : 23 ، 24 ] ، وقوله : { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا } [ الواقعة : 25 ، 26 ] ، فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب ، { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا } [ الفرقان : 75 ] ، لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يُرَوّعون به (4) ويقرعون به ، يقال لهم : { وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ }
وقوله : { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } أي : إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم ، على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم ، كما جاء في الصحيح : "إنهم يلهمون التسبيح والتحميد ، كما يلهمون النَّفَسَ".
وقد قال بعض المفسرين في قوله : { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } أي : القرآن. وقيل : لا إله إلا الله. وقيل : الأذكار المشروعة ، { وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } أي : الطريق المستقيم في الدنيا. وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه ، والله أعلم.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (246) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) في ف : "يرد".
(3) الحديث في صحيح البخاري برقم (5426) وصحيح مسلم برقم (2067) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(4) في ت : "يوبخون فيه" ، وفي ف ، أ : "يوبخون به".

(5/408)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)

{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) }.
يقول تعالى منكرًا على الكفار في صَدّهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام ، وقضاء مناسكهم فيه ، ودعواهم أنهم أولياؤه : { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ الأنفال : 34 ].
وفي هذه الآية دليل [على] (1) أنها مدنية ، كما قال في سورة "البقرة" : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ } [ البقرة : 217 ] ، وقال : هاهنا : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي : ومن صفتهم مع كفرهم أنهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ، أي : ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر ، وهذا التركيب في هذه الآية كقوله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] أي : ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله.
وقوله : { الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } [أي : يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وقد جعله الله شرعا سواء ، لا فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه ، { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } ] (2) ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } قال : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام.
وقال مجاهد [في قوله] (3) : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } : أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل. وكذا قال أبو صالح ، وعبد الرحمن بن سابط ، وعبد الرحمن بن زيد [بن أسلم] (4).
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : سواء فيه أهله وغير أهله.
وهذه المسألة اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهَويه بمسجد الخِيف ، وأحمد بن حنبل حاضر (5) أيضًا ، فذهب الشافعي ، رحمه الله (6) إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر ، واحتج بحديث الزهري ، عن علي بن الحُسَين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة بن زيد قال : قلت : يا رسول الله ، أتنزل غدًا في دارك (7) بمكة ؟ فقال : "وهل ترك لنا عَقيل من رباع". ثم قال : "لا يرث الكافر المسلم ، ولا المسلم الكافر". وهذا الحديث مُخَرّج في الصحيحين (8) [وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة ، فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم. وبه قال طاوس ، وعمرو بن دينار.
وذهب إسحاق بن راهَويه إلا أنها تورث ولا تؤجر. وهو مذهب طائفة من السلف ، ونص عليه
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من ف.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ت : "حاضرا".
(6) في ف : "رضي الله عنه" ، وفي أ : "رضي الله تعالى عنه".
(7) في ف : "بدارك".
(8) صحيح البخاري برقم (6764) وصحيح مسلم برقم (1614) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.

(5/409)


مجاهد وعطاء ، واحتج إسحاق بن راهَويه بما رواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عيسى ابن يونس ، عن عُمَر بن سعيد بن أبي حُسَين (1) ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن علقمة بن نَضْلة قال : تُوُفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ، وما تدعى رباع مكة إلا] (2) السوائب ، من احتاج سكن ، ومن استغنى أسكن (3).
وقال عبد الرزاق ابن مجاهد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها.
وقال أيضًا عن ابن جريج : كان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم ، وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهي عن تُبوّب دور مكة ؛ لأن ينزل الحاج في عَرَصاتها ، فكان أول من بَوّب داره سُهَيل بن عمرو ، فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك ، فقال : أنظرني يا أمير المؤمنين ، إني كنت امرأ تاجرا ، فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري قال : فذلك إذًا.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن منصور ، عن مجاهد ؛ أن عمر بن الخطاب قال : يا أهل مكة ، لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء (4).
قال : وأخبرنا مَعْمر ، عمن سمع عطاء يقول [في قوله] (5) : { سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } ، قال : ينزلون حيث شاءوا.
وروى الدارقطني من حديث ابن أبي نَجِيح ، عن عبد الله بن عمرو موقوفا (6) من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا (7).
"وتوسط الإمام أحمد [فيما نقله صالح ابنه] (8) فقال : تملك وتورث ولا تؤجر ، جمعا بين الأدلة ، والله أعلم.
وقوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } قال بعض المفسرين من أهل العربية : الباء هاهنا زائدة ، كقوله : { تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } [ المؤمنون : 20 ] أي : تُنْبِتُ الدهن ، وكذا قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ (9) } تقديره إلحادًا ، وكما قال الأعشى :
ضَمنَتْ برزق عيالنا أرْماحُنا... بين المَرَاجِل ، والصّريحَ الأجرد (10)
وقال الآخر :
بوَاد يَمانِ يُنْبتُ الشَّثّ صَدْرُهُ... وَأسْفَله بالمَرْخ والشَّبَهَان...
__________
(1) في ت : "جبير" ، وفي ف ، أ : "حيوة".
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) سنن ابن ماجه برقم (3107) وهو مرسل.
(4) في ت ، ف : "شاء".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف ، أ : "مرفوعا".
(7) سنن الدارقطني (2/300)
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ف ، أ : "بإلحاد بظلم".
(10) البيت في تفسير الطبري (17/103) غير منسوب.

(5/410)


والأجود أنه ضمن الفعل هاهنا معنى "يَهُمّ" ، ولهذا (1) عداه بالباء ، فقال : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } أي : يَهُمّ فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار.
وقوله : { بِظُلْمٍ } أي : عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول ، كما قال ابن جريج (2) ، عن ابن عباس : هو [التعمد] (3).
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { بِظُلْمٍ } بشرك.
وقال مجاهد : أن يعبد فيه غير الله. وكذا قال قتادة ، وغير واحد.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : { بِظُلْمٍ } هو أن تَستحلَ من الحرم ما حَرّم الله عليك من لسان أو قتل ، فتظلم من لا يظلمك ، وتقتل من لا يقتلك ، فإذا فَعَلَ ذلك فقد وجب [له] (4) العذاب الأليم.
وقال مجاهد : { بِظُلْمٍ } : يعمل فيه عملا سيئا.
وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقَب البادي فيه الشر ، إذا كان عازما عليه ، وإن لم يوقعه ، كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره :
حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شعبة ، عن السُّدِّي : أنه سمع مُرَّة يحدث عن عبد الله - يعني ابن مسعود - في قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : لو أن رَجُلا أراد فيه بإلحاد بظلم ، وهو بعَدَن أبينَ ، أذاقه (5) الله من العذاب الأليم.
قال شعبة : هو رفعه لنا ، وأنا لا أرفعه لكم. قال يزيد : هو قد رفعه ، ورواه أحمد ، عن يزيد بن هارون ، به (6).
[قلت : هذا الإسناد] (7) صحيح على شرط البخاري ، ووقفه أشبه من رفعه ؛ ولهذا صَمم شعبة على وَقْفه من كلام ابن مسعود. وكذلك رواه أسباط ، وسفيان الثوري ، عن السدي ، عن مُرة ، عن ابن مسعود موقوفا ، والله أعلم.
وقال الثوري ، عن السدي ، عن مُرَّة ، عن عبد الله قال : ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ، ولو أن رجلا بعَدَن أبينَ هَمّ أن يقتل رجلا بهذا البيت ، لأذاقه الله من العذاب الأليم. وكذا قال الضحاك بن مُزاحم.
وقال سفيان [الثوري] (8) ، عن منصور ، عن مجاهد "إلحاد فيه" ، لا والله ، وبلى والله. وروي عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، مثله.
__________
(1) في ف : "ولذا".
(2) في ت : "جرير".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ت ، ف ، أ : "لأذاقه".
(6) المسند (1/428)
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) زيادة من ف.

(5/411)


وقال سعيد بن جُبَير : شتم الخادم ظلم فما فوقَه.
وقال سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عطاء ، عن ميمون بن مِهْرَان ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : تجارة الأمير فيه.
وعن ابن عمر : بيع الطعام [بمكة] (1) إلحاد.
وقال حبيب (2) بن أبي ثابت : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : المحتكر بمكة. وكذا قال غير واحد.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري ، أنبأنا أبو عاصم ، عن جعفر بن يحيى ، عن عمه عمارة بن ثوبان ، حدثني موسى بن باذان ، عن يعلى بن أمية ؛ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : "احتكار الطعام بمكة إلحاد" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر (4) ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، حدثني سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قول الله : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : نزلت في عبد الله بن أنيس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين ، أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار ، فافتخروا في الأنساب ، فغضب عبد الله بن أنيس ، فقتل الأنصاريّ ، ثم ارتد عن الإسلام ، وهَرَب إلى مكة ، فنزلت فيه : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } يعني : من لجأ إلى الحرم بإلحاد يعني بميل عن الإسلام.
وهذه الآثار ، وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد ، ولكنْ هُو أعم من ذلك ، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها ، ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل { تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } [ الفيل : 4 ، 5 ] ، أي : دمَّرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء ؛ ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يغزو هذا البيت جيش ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خُسِف بأولهم وآخرهم" الحديث (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كُنَاسة ، حدثنا إسحاق بن سعيد ، عن أبيه قال : أتى عبدُ الله بن عمر عبدَ الله بن الزبير ، فقال : يا ابن الزبير ، إياك والإلحاد في حَرَم الله ، فإني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنه سيلحدُ فيه رجل من قريش ، لو تُوزَن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت" ، فانظر لا تكن هو (6).
وقال أيضا [في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص] (7) : حدثنا هاشم ، حدثنا إسحاق بن سعيد ،
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) في ت : "جندب".
(3) ورواه أبو داود في السنن برقم (2020) ، والفاكهي في تاريخ مكة برقم (1771) من طريق أبي عاصم به.
(4) في ت ، ف : "بكر".
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (2118) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6) المسند (2/136)
(7) زيادة من ف ، أ.

(5/412)


وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)

حدثنا سعيد بن عمرو قال : أتى عبدُ الله بن عمرو ابنَ الزبير ، وهو جالس في الحِجْر فقال : يا بن الزبير ، إياك والإلحادَ في الحرم ، فإني أشهد لسَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يحلها ويحل به رجل من قريش ، ولو وُزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها". قال : فانظر لا تكن (1) هو (2).
ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين.
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) }.
هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله ، وأشرك به من قريش ، في البقعة التي أسسّتْ من أول يوم على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له ، فذكر تعالى أنه بَوأ إبراهيم مكانَ البيت ، أي : أرشده إليه ، وسلمه له ، وأذن له في بنائه.
واستدل به كثير ممن قال : "إن إبراهيم ، عليه السلام ، هو أول من بنى البيت العتيق ، وأنه لم يبن قبله" ، كما ثبت في الصحيح (3) عن أبي ذر قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وُضعَ أول ؟ قال : "المسجد الحرام". قلت : ثم أي ؟ قال : "بيت المقدس". قلت كم بينهما ؟ قال : "أربعون سنة" (4).
وقد قال الله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيم } الآية [ آل عمران : 96 ، 97 ] ، وقال تعالى : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [ البقرة : 125 ].
وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار ، بما أغنى عن إعادته هاهنا (5).
وقال تعالى هاهنا : { أَنْ لا تُشْرِكْ بِي } أي : ابْنه على اسمي وحدي ، { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } قال مجاهد وقتادة : من الشرك ، { لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي : اجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له.
فالطائف به معروف ، وهو أخص العبادات عند البيت ، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها ، { وَالْقَائِمِينَ } أي : في الصلاة ؛ ولهذا قال : { وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } فقرن الطواف بالصلاة ؛ لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت ، فالطواف عنده ، والصلاة إليه في غالب الأحوال ، إلا ما استثني من الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب ، وفي النافلة في السفر ، والله أعلم.
__________
(1) في ت : "لا يكون" وفي ف : "لا تكون".
(2) المسند (21912).
(3) في ف : "الصحيحين".
(4) صحيح البخاري برقم (3366) وصحيح مسلم برقم (520)
(5) انظر تفسير الآية : 125 من سورة البقرة.

(5/413)


لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)

وقوله : { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } أي : ناد في الناس داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه. فَذُكر أنه قال : يا رب ، وكيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ فقيل : ناد وعلينا البلاغ.
فقام على مقامه ، وقيل : على الحجر ، وقيل : على الصفا ، وقيل : على أبي قُبَيس ، وقال : يا أيها الناس ، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه ، فيقال : إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمَعَ مَن في الأرحام والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حَجَر ومَدَر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : "لبيك اللهم لبيك".
هذا مضمون ما روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، وغير واحد من السلف ، والله أعلم.
أوردها ابن جَرير ، وابن أبي حاتم مُطَوّلة (1) (2).
وقوله : { يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } قد يَستدلّ بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيا ، لمن قدر عليه ، أفضلُ من الحج راكبا ؛ لأنه قدمهم في الذكر ، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم ، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكبا أفضل ؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه حج راكبا مع كمال قوته ، عليه السلام.
وقوله : { يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ } يعني : طريق ، كما قال : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا } [ الأنبياء : 31 ].
وقوله : { عَمِيقٍ } أي : بعيد. قاله مجاهد ، وعطاء ، والسدي ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، والثوري ، وغير واحد.
وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم ، حيث قال في دعائه : { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف ، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار.
{ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) }.
قال ابن عباس : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ } قال : منافع الدنيا والآخرة ؛ أما منافع الآخرة فرضوان الله ، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البُدْن والربح (3) والتجارات. وكذا قال مجاهد ، وغير واحد : إنها منافع الدنيا والآخرة ، كقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ].
__________
(1) في ف : "بطوله".
(2) تفسير الطبري (17/106).
(3) في ت ، ف ، أ : "والذبائح".

(5/414)


وقوله : { وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ] (1) عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ } قال شعبة [وهُشَيْم] (2) عن [أبي بشر عن سعيد] (3) عن ابن عباس : الأيام المعلومات : أيام العشر ، وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به (4). ويروى مثله عن أبي موسى الأشعري ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وإبراهيم النَّخعي. وهو مذهب الشافعي ، والمشهور عن أحمد بن حنبل.
وقال البخاري : حدثنا محمد بن عَرْعَرَة ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن مسلم البَطِين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما العمل في أيام أفضل منها في هذه" قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : "ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل ، يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء".
ورواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه (5). وقال الترمذي : حديث حسن غريب صحيح. وفي الباب عن ابن عمر ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر.
قلت : وقد تقصيت هذه الطرق ، وأفردت لها جزءًا على حدته (6) ، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد : حدثنا عَفَّان ، أنبأنا أبو عَوَانة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العملُ فيهن ، من هذه الأيام العشر ، فأكثروا فيهم من التهليل والتكبير والتحميد" (7) وروي من وجه آخر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، بنحوه (8). وقال البخاري : وكان ابن عمر ، وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر ، فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما (9).
وقد روى أحمد عن جابر مرفوعا : أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في قوله : { وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ } [ الفجر : 1 ، 2 ] (10).
وقال بعض السلف : إنه المراد بقوله : { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } [ الأعراف : 142 ].
وفي سنن أبي داود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذا العشر (11).
وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة ، فقال : "أحتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والآتية" (12).
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) صحيح البخاري (2/457) "فتح".
(5) صحيح البخاري برقم (969) وسنن أبي داود برقم (2438) وسنن الترمذي برقم (757) وسنن ابن ماجه برقم (1727).
(6) سماه : "الأحاديث الواردة في فضل الأيام العشرة من ذي الحجة".
(7) المسند (2/75).
(8) رواه أبو عوانة - كما في إرواء الغليل (39813) عن الحافظ ابن حجر - من طريق موسى بن أبي عائشة عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(9) صحيح البخاري (2/457) "فتح".
(10) المسند (3/327).
(11) سنن أبي داود برقم (2437).
(12) صحيح مسلم برقم (1162) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

(5/415)


ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر ، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله (1).
وبالجملة ، فهذا العشر قد قيل : إنه أفضل أيام السنة ، كما نطق به الحديث ، ففضله كثير على عشر رمضان الأخير ؛ لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك ، من صيام وصلاة وصدقة وغيره ، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه.
وقيل : ذاك أفضل لاشتماله على ليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر.
وتوسط آخرون فقالوا : أيام هذا أفضل ، وليالي ذاك أفضل. وبهذا يجتمع شمل الأدلة ، والله أعلم.
قول ثان في الأيام المعلومات : قال الحكم ، عن مِقْسَم ، عن ابن عباس : الأيام المعلومات : يوم النحر وثلاثة أيام بعده. ويروى هذا عن ابن عمر ، وإبراهيم النَّخَعي ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه.
قول ثالث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا ابن عَجْلان ، حدثني نافع ؛ أن ابن عمر كان يقول : الأيام المعلومات والمعدودات هن جميعهن أربعة أيام ، فالأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده ، والأيام المعدودات ثلاثة أيام يوم النحر.
هذا إسناد صحيح إليه ، وقاله (2) السدي : وهو مذهب الإمام مالك بن أنس ، ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى : { عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ } يعني به : ذكر الله عند ذبحها.
قول رابع : إنها يوم عرفة ، ويوم النحر ، ويوم آخر بعده. وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال ابن وهب : حدثني (3) ابن زيد بن أسلم ، عن أبيه أنه قال : المعلومات يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق.
وقوله : { عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ } يعني : الإبل والبقر والغنم ، كما فصلها تعالى في سورة الأنعام وأنها { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } الآية [ الأنعام : 143 ].
وقوله { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } استدل بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي وهو قول غريب ، والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب ، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ ، فأكل من لحمها ، وحسا من مرقها (4).
وقال عبد الله بن وهب : [قال لي مالك : أحب أن يأكل من أضحيته ؛ لأن الله يقول : { فَكُلُوا مِنْهَا } : قال ابن وهب] (5) وسألت الليث ، فقال لي مثل ذلك.
__________
(1) رواه أحمد في المسند (4/350) وأبو داود في السنن برقم (1765) من حديث عبد الله بن قرط رضي الله عنه.
(2) في ت : "وقال".
(3) في ت ، ف : "وقال ابن وهب وحدثني".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (1218) من حديث جابر رضي الله عنه.
(5) زيادة من ف ، أ.

(5/416)


وقال سفيان الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم : { فَكُلُوا مِنْهَا } قال : كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين ، فمن شاء أكل ، ومن شاء لم يأكل. وروي عن مجاهد ، وعطاء نحو ذلك.
قال هُشَيْم ، عن حُصَين ، عن مجاهد في قوله { فَكُلُوا مِنْهَا } : هي كقوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } [ المائدة : 2 ] ، { فَإِذَا قُضِيَتِ (1) الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ } [ الجمعة : 10 ].
وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره ، واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق منها بالنصف بقوله في هذه الآية : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } ، فجزأها نصفين : نصف للمضحي ، ونصف للفقراء.
والقول الآخر : أنها تجزأ ثلاثة أجزاء : ثلث له ، وثلث يهديه ، وثلث يتصدق به ؛ لقوله في الآية الأخرى : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } [ الحج : 36 ] وسيأتي الكلام عليها عندها ، إن شاء الله ، وبه الثقة.
وقوله : { الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } ، قال عكرمة : هو المضطر الذي عليه البؤس ، [والفقير] (2) المتعفف.
وقال مجاهد : هو الذي لا يبسط يده. وقال قتادة : هو الزّمِن. وقال مقاتل بن حيان : هو الضرير.
وقوله : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو وضع [الإحرام] (3) من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار ، ونحو ذلك. وهكذا روى عطاء ومجاهد ، عنه. وكذا قال عكرمة ، ومحمد بن كعب القُرَظي.
وقال عكرمة ، عن ابن عباس : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } قال : التفث : المناسك.
وقوله : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني : نحر ما نذر من أمر البُدن.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } : (4) نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج.
وقال إبراهيم بن مَيْسَرَة ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } قال : الذبائح.
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } كل نذر إلى أجل.
وقال عكرمة : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } ، قال : [ حجهم.
وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان في قوله : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } قال : ] (5) نذر الحج ، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه : الطواف بالبيت
__________
(1) في ت : "قضيتم".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) زيادة من ت ، ف ، أ".

(5/417)


وبين الصفا والمروة ، وعرفة ، والمزدلفة ، ورمي الجمار ، على ما أمروا به. وروي عن مالك نحو هذا.
وقوله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : قال مجاهد : يعني : الطواف الواجب يوم النحر.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن أبي حمزة قال : قال لي ابن عباس : أتقرأ سورة الحج ؟ يقول (1) الله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت.
قلت : وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ يرمي الجمرة ، فرماها بسبع حصيات ، ثم نحر هديه ، وحلق رأسه ، ثم أفاض فطاف بالبيت. وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف ، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2).
وقوله : { بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر ؛ لأنه من أصل (3) البيت الذي بناه إبراهيم ، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت ، حين قصرت بهم النفقة ؛ ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحِجْر ، وأخبر أن الحجر من البيت ، ولم يستلم الركنين الشاميين ؛ لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة ؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني ، حدثنا سفيان ، عن هشام بن حُجْر ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه (4).
وقال قتادة ، عن الحسن البصري في قوله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [قال] (5) : لأنه أول بيت وضع للناس. وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وعن عكرمة أنه قال : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح.
وقال خَصِيف : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط.
وقال ابن أبي نَجِيح وليث عن مجاهد : أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه. وكذا قال قتادة.
وقال حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد : لأنه لم يُرِده أحد بسوء إلا هلك.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن الزبير قال : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة (6).
وقال الترمذي : حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد ، حدثنا عبد الله بن صالح ، أخبرني
__________
(1) في ت : "فيقول".
(2) صحيح البخاري برقم (329) وصحيح مسلم برقم (1328) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) في أ : "داخل".
(4) ورواه ابن مردوية في تفسيره كما في الدر المنثور (6/41).
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) تفسير عبد الرزاق (2/32).

(5/418)


ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)

الليث ، عن عبد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن عروة ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه لم يظهر عليه جبار".
وكذا رواه ابن جرير ، عن محمد بن سهل النجاري (1) ، عن عبد الله بن صالح ، به (2). وقال : إن كان صحيحًا وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري ، مرسلا (3).
{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) }
__________
(1) في ف : "المحاربي".
(2) سنن الترمذي برقم (3170) وفيه "هذا حديث حسن صحيح" وأظنه خطأ.
(3) صحيح البخاري برقم (2654) وصحيح مسلم برقم (87).

(5/419)


حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)

{ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) }.
يقول تعالى : هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك ، وما لفاعلها من الثواب الجزيل.
{ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ } أي : ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في نفسه ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } أي : فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل ، فكما على فعل الطاعات ثواب جزيل وأجر كبير ، وكذلك على ترك المحرمات و[اجتناب] (1) المحظورات.
قال ابن جريج : قال مجاهد في قوله : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ } قال : الحرمة : مكة والحج والعمرة ، وما نهى الله عنه من معاصيه كلها. وكذا قال ابن زيد.
وقوله : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } أي : أحللنا (2) لكم جميع الأنعام ، وما جعل الله من بحيرة ، ولا سائبة ، ولا وصيلة ، ولا حام.
وقوله : { إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } أي : من تحريم { الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ [إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ] (3) } الآية [ المائدة : 3 ] ، قال ذلك ابن جرير ، وحكاه عن قتادة.
وقوله : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } : "من" هاهنا لبيان الجنس ، أي : اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. وقرن الشرك بالله (4) بقول الزور ، كقوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] ، ومنه شهادة الزور. وفي الصحيحين عن أبي بَكْرَة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟" قلنا : بلى ، يا رسول الله. قال : "الإشراك بالله وعقوق الوالدين - وكان متكئا فجلس ، فقال : - ألا وقول الزور ، ألا وشهادة الزور". فما زال يكررها ، حتى قلنا : ليته سكت (5).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "أحلت".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) في أ : "به".
(5) صحيح البخاري برقم (2654) وصحيح مسلم برقم (87).

(5/419)


ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)

وقال الإمام أحمد : حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، أنبأنا سفيان بن زياد ، عن فاتك بن فضالة ، عن أيمن بن خريم قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا فقال : "يا أيها الناس ، عدلت شهادة الزور إشراكا بالله" ثلاثا ، ثم قرأ : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ }
وهكذا رواه الترمذي ، عن أحمد بن منيع ، عن مروان بن معاوية ، به (1) ثم قال : "غريب ، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد. وقد اختلف عنه في رواية هذا الحديث ، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم".
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا سفيان العُصْفُرِيّ ، عن أبيه ، عن حبيب ابن النعمان الأسدي ، عن خريم بن فاتك (2) الأسدي قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ، فلما انصرف قام قائما فقال : "عدلت شهادة الزور الإشراك بالله ، عز وجل" ، ثم تلا هذه الآية : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } (3).
وقال سفيان الثوري ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن وائل بن ربيعة ، عن ابن مسعود أنه قال : تعدل شهادة الزور بالشرك بالله ، ثم قرأ هذه الآية (4).
وقوله : { حُنَفَاءَ لِلَّهِ } أي : مخلصين له الدين ، منحرفين عن الباطل قصدا إلى الحق ؛ ولهذا قال { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ }
ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى فقال : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ } أي : سقط منها ، { فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } ، أي : تقطعه الطيور في الهواء ، { أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } أي : بعيد مهلك لمن هوى فيه ؛ ولهذا جاء في حديث البراء : "إن الكافر إذا توفته ملائكة الموت ، وصعدوا بروحه إلى السماء ، فلا تفتح له أبواب السماء ، بل تطرح روحه طرحا من هناك". ثم قرأ هذه الآية ، وقد تقدم الحديث في سورة "إبراهيم" (5) بحروفه وألفاظه وطرقه.
وقد ضرب [الله] (6) تعالى للمشرك مثلا آخر في سورة "الأنعام" ، وهو قوله : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ] (7) } [ الأنعام : 71 ].
{ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) }.
__________
(1) المسند (4/178) وسنن الترمذي برقم (2299).
(2) في ت : "مقاتل".
(3) المسند (4/321).
(4) تفسير الطبري (17/112).
(5) انظر تفسير الآية : 27
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من ف ، أ ، وفي الأصل : "الآية".

(5/420)


يقول تعالى : هذا { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } أي : أوامره ، { فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن ، كما قال الحكم ، عن مقْسَم ، عن ابن عباس : تعظيمها : استسمانها واستحسانها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشجّ ، حدثنا حفص بن غياث ، عن ابن أبي ليلى ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } قال : الاستسمان والاستحسان والاستعظام.
وقال أبو أمامة بن سهل : كنا نسمن الأضحية بالمدينة ، وكان المسلمون يُسمّنون. رواه البخاري (1).
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "دم عفراءَ أحبّ إلى الله من دم سَوداوين". رواه أحمد ، وابن ماجه (2).
قالوا : والعفراء هي البيضاء بياضًا ليس بناصع ، فالبيضاء أفضل من غيرها ، وغيرها يجزئ أيضا ؛ لما ثبت في صحيح البخاري ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين (3).
وعن أبي سعيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن فَحيل (4) يأكل في سواد ، وينظر في سواد ، ويمشي في سواد.
رواه أهل السنن ، وصححه الترمذي (5) ، أي : بكبش أسود (6) في هذه الأماكن.
وفي سنن ابن ماجه ، عن أبي رافع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين (7). قيل : هما الخَصِيَان. وقيل : اللذان رُضَّ خُصْياهما ، ولم يقطعهما (8) ، والله أعلم.
وكذا روى أبو داود وابن ماجه عن جابر : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين موجوءين [والموجوءين قيل : هما الخصيين] (9) (10).
وعن علي رضي الله عنه ، قال : أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ، وألا نضحي بمقابَلَة ، ولا مدابَرَة ، ولا شَرْقاء ، ولا خَرْقاء.
رواه أحمد ، وأهل السنن ، وصححه الترمذي (11).
ولهم عنه ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نُضحي (12) بأعضب القرن والأذن (13).
__________
(1) صحيح البخاري (10/9) "فتح" معلقا.
(2) المسند (2/417) ولم يقع لي في سنن ابن ماجه.
(3) صحيح البخاري برقم (5558).
(4) في ف : "فحل".
(5) سنن أبي داود برقم (2796) وسنن الترمذي برقم (1496) وسنن النسائي (7/221) وسنن ابن ماجه برقم (3128).
(6) في أ : "فيه نكتة سوداء".
(7) لم يقع في سنن ابن ماجه من حديث أبي رافع وإنما من حديث عائشة وأبي هريرة برقم (3122) وحديث أبي رافع رواه أحمد في المسند (6/8).
(8) في ت : "ولم يقطعها"
(9) زيادة من من ت ، ف ، أ.
(10) سنن أبي داود برقم (2795).
(11) المسند (1/80) ، وسنن أبي داود برقم (2804) وسنن الترمذي برقم (1498) وسنن النسائي (7/217) وسنن ابن ماجه برقم (3142).
(12) في ت : "يضحي".
(13) المسند (1/83) وسنن أبي داود برقم (2805) وسنن الترمذي برقم (1504) وسنن النسائي (7/217) وسنن ابن ماجه برقم (3145).

(5/421)


وقال سعيد بن المسيب : العضب : النصْف فأكثر.
وقال بعض أهل اللغة : إن كُسر قرنها الأعلى فهي قصماء ، فأما العَضْب فهو كسر الأسفل ، وعضب الأذن قطع بعضها.
وعند الشافعي أن التضحية بذلك مجزئة ، لكن تكره.
وقال [الإمام] (1) أحمد : لا تجزئ الأضحية بأعضب القرن والأذن ؛ لهذا الحديث.
وقال مالك : إن كان الدم يسيل من القرن لم يجزئ ، وإلا أجزأ ، والله أعلم.
وأما المقابلة : فهي التي قطع مقدم أذنها ، والمدابرة : من مؤخر أذنها. والشرقاء : هي التي قطعت أذنها طولا قاله الشافعي. والخرقاء : هي التي خَرَقت السّمَةُ أذنها خرقا مُدَوّرًا ، والله أعلم.
وعن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أربع لا تجوز في الأضاحي : العوراء البيّن عَوَرها ، والمريضة البين مَرَضها ، والعرجاء البين ظَلَعها (2) ، والكسيرة التي لا تُنقِي".
رواه أحمد ، وأهل السنن ، وصححه الترمذي (3).
وهذه العيوب تنقص اللحم ، لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي ؛ لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى ، فلهذا لا تجزئ التضحية (4) بها عند الشافعي وغيره من الأئمة ، كما هو ظاهر الحديث.
واختلف قول الشافعي في المريضة مرضًا يسيرًا ، على قولين.
وروى أبو داود ، عن عُتبة بن عبد السّلَمي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المُصْفَرَةِ ، والمستأصَلَة ، والبَخْقاء ، والمشيَّعة ، والكسراء (5) (6).
فالمصفرة قيل : الهزيلة. وقيل : المستأصلة الأذنُ. والمستأصلة : المكسورة القرن. والبخقاء : هي العوراء. والمشيعة : هي التي لا تزال تُشَيَّع خَلفَ الغنم ، ولا تَتْبَع لضعفها. والكسراء : العرجاء.
فهذه العيوب كلها مانعة [من الإجزاء ، فإن طرأ العيب] (7) بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عيبه عند الشافعي خلافا لأبي حنيفة.
وقد روى الإمامُ أحمد ، عن أبي سعيد قال : اشتريت كبشا أضحي به ، فعدا الذئب فأخذ الألية. فسألت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : "ضَحِّ به" (8) ولهذا [جاء] (9) في الحديث : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن. أي : أن تكون
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت ، أ : "عرجها".
(3) المسند (4/284) وسنن أبي داود برقم (2802) وسنن الترمذي برقم (1497) وسنن النسائي (7/215) وسنن ابن ماجه برقم (3144).
(4) في أ : "الأضحية".
(5) في أ : "الكسرة".
(6) سنن أبي داود برقم (2803).
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) المسند (3/32).
(9) زيادة من أ.

(5/422)


الهدية أو الأضحية سمينة حسنة ثمينة ، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود ، عن عبد الله بن عمر قال : أهدى عمر نَجيبًا ، فأعطى بها ثلاثمائة دينار ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني أهديت نجيبًا ، فأعطِيتُ بها ثلاثمائة دينار ، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدْنًا ؟ قال : "لا انحرها إياها" (1).
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : البدن من شعائر الله.
وقال محمد بن أبي موسى : الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي والبدن والحلق : من شعائر الله.
وقال ابن عمر : أعظم الشعائر البيت.
قوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي : لكم في البدن منافع ، من لبنها ، وصوفها وأوبارها وأشعارها ، وركوبها.
{ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } : قال مِقْسَم ، عن ابن عباس [في قوله] (2) : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } قال : ما لم يسم بدنا.
وقال مجاهد في قوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } ، قال : الركوب واللبن والولد ، فإذا سُمّيت بَدنَةً أو هَديًا ، ذهب ذلك كله. وكذا قال عطاء ، والضحاك ، وقتادة ، [ومقاتل] (3) وعطاء الخراساني ، وغيرهم.
وقال آخرون : بل له أن ينتفع بها وإن كانت هديا ، إذا احتاج إلى ذلك ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدَنَةً ، قال : "اركبها". قال : إنها بَدنَة. قال : "اركبها ، ويحك" ، في الثانية أو الثالثة (4).
وفي رواية لمسلم ، عن جابر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "اركبها بالمعروف إذا ألجئتَ إليها" (5).
وقال شعبة ، عن زهير بن أبي ثابت الأعمى ، عن المغيرة بن حَذْف ، عن علي ؛ أنه رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها ، فقال : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها ، فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدَها.
وقوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } أي : مَحِل الهدي وانتهاؤه إلى البيت العتيق ، وهو الكعبة ، كما قال تعالى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] ، وقال { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25].
وقد تقدم الكلام على معنى "البيت العتيق" قريبا ، ولله الحمد (6).
وقال ابن جُرَيْج ، عن عطاء : كان ابن عباس يقول : كل من طاف بالبيت ، فقد حل ، قال الله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ }
__________
(1) المسند (2/145) وسنن أبي داود برقم (1756).
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (1690) وصحيح مسلم برقم (1323).
(5) صحيح مسلم برقم (1323).
(6) في ت : "والله أعلم".

(5/423)


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) }.
يخبر تعالى أنه لم يَزَل ذبحُ المناسك وإراقةُ الدماء على اسم الله مشروعًا في جميع الملل.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا } قال : عيدًا.
وقال عكرمة : ذبحا. وقال زيد بن أسلم في قوله : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا } ، إنها مكة ، لم يجعل الله لأمة قط منسكا غيرها.
[وقوله] (1) : { لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ } ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ، فسمَّى وكبر ، ووضع رجله على صِفَاحهما (2).
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا سَلام بن مسكين ، عن عائذ الله المجاشعي ، عن أبي داود - وهو نُفَيْع بن الحارث - عن زيد بن أرقم قال : قلت - أو : قالوا - : يا رسول الله ، ما هذه الأضاحي ؟ قال : "سنة أبيكم إبراهيم". قالوا : ما لنا منها ؟ قال : "بكل شعرة حسنة" قالوا : فالصوف ؟ قال : "بكل شعرة من الصوف حسنة".
وأخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجه في سننه ، من حديث سلام بن مسكين ، به (3).
وقوله : { فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا } أي : معبودكم واحد ، وإن تَنوّعَت شرائع الأنبياء ونَسخَ بعضها بعضًا ، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده ، لا شريك له ، { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي (4) إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } (5) [ الأنبياء : 25]. ولهذا قال : { فَلَهُ أَسْلِمُوا } أي : أخلصوا واستسلموا لحُكْمه وطاعته.
{ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } : قال مجاهد : المطمئنين ، وقال الضحاك ، وقتادة : المتواضعين. وقال السدي : الوجلين. وقال عمرو بن أوس (6) : المخبتون (7) : الذين لا يَظلمون ، وإذا ظُلموا لم ينتصروا.
وقال الثوري : { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } قال : المطمئنين الراضين بقضاء الله ، المستسلمين له.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (5558) وصحيح مسلم برقم (1966).
(3) المسند (4/368).
(4) في ت ، أ : "يوحى".
(5) في ت : "فاعبدوني".
(6) في ت ، ف ، أ : "إدريس".
(7) في ت : "المختبتين".

(5/424)


وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)

وأحسن ما يفسّر بما بعده وهو قوله : { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : خافت منه قلوبُهم ، { وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ } أي : من المصائب.
قال الحسن البصري : والله لتصبرنّ أو لتهلكنّ.
{ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ } : قرأ الجمهور بالإضافة. السبعةَ ، وبقيةَ العشرة أيضا. وقرأ ابن (1) السَّمَيْقَع : "والمقيمينَ الصلاة" بالنصب.
وقال الحسن البصري : { وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ } ، وإنما حذفت النون هاهنا تخفيفا ، ولو حذفت للإضافة لوجب خفض الصلاة ، ولكن على سبيل التخفيف فنصبت.
أي : المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فرائضه ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أي : وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأرقائهم وقراباتهم ، وفقرائهم ومحاويجهم ، ويحسنون إلى خلق الله مع محافظتهم على حدود الله. وهذه بخلاف صفات المنافقين ، فإنهم بالعكس من هذا كله ، كما تقدم تفسيره في سورة "براءة" [فلله الحمد والمنة] (2) (3).
{ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) }.
يقول تعالى ممتنا على عباده فيما خلق لهم من البدن ، وجعلها من شعائره ، وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام ، بل هي أفضل ما يهدى [إلى بيته الحرام] (4) ، كما قال تعالى : { لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ [وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا] (5) } الآية : [ المائدة : 2 ].
قال ابن جُرَيج : قال عطاء في قوله : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } ، قال : البقرة ، والبعير. وكذا رُوي عن ابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، والحسن البصري. وقال مجاهد : إنما البدن من الإبل.
قلت : أما إطلاق البَدَنة على البعير فمتفق عليه ، واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة ، على قولين ، أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعا كما صح في الحديث.
ثم جمهور العلماء على أنه تُجزئ البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة ، كما ثبت به الحديث عند مسلم ، من رواية جابر بن عبد الله [وغيره] (6) ، قال : أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نشتركَ في الأضاحي ،
__________
(1) في ت : "أبو".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) انظر تفسير الآية : 67.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.

(5/425)


البدنةُ عن سبعة ، والبقرة عن سبعة (1).
[وقال إسحاق بنُ رَاهَويه وغيره : بل تُجزئ البقرة عن سبعة ، والبعير عن عشرة] (2). وقد ورد به حديث في مسند الإمام أحمد ، وسنن النسائي ، وغيرهما (3) ، فالله أعلم.
وقوله : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } ، أي : ثواب في الدار الآخرة.
وعن سليمان بن يزيد الكعبي ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما عَمِل ابن آدم يوم النحر عملا أحبّ إلى الله من هِرَاقه دم ، وإنه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان ، قبل أن يقع على الأرض ، فطِيبُوا بها نفسا". رواه ابن ماجه ، والترمذي وحَسنه (4).
وقال سفيان الثوري : كان أبو حاتم (5) يستدين ويسوق البُدْن ، فقيل له : تستدين وتسوق البدن ؟ فقال : إني سمعت الله يقول : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ }
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أنفقت الوَرقَ في شيء أفضلَ من نحيرة في يوم عيد". رواه الدارقطني في سننه (6).
وقال مجاهد : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } قال : أجر ومنافع.
وقال إبراهيم النَّخَعِيّ : يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها.
وقوله : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } وعن [المطلب بن عبد الله بن حنطب ، عن] (7) جابر ابن عبد الله قال : صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدَ الأضحى ، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه ، فقال : "بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعمن لم يُضَحِّ من أمتي".
رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي (8).
وقال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن عباس ، عن جابر قال : ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد ، فقال حين وجههما : "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا مسلمًا ، وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له ، وبذلك أمرت ، وأنا أول المسلمين ، اللهم منك ولك ، وعن محمد وأمته". ثم سمى الله وكبر
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1318).
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) المسند (1/275) وسنن النسائي (7/222) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال : "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فحضر النحر فاشتركنا في البعير عن عشرة والبقرة عن سبعة".
(4) سنن الترمذي برقم (1493) وسنن ابن ماجه برقم (3126).
(5) في أ : "أبو حازم".
(6) سنن الدارقطني (4/282) من طريق إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس.
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) المسند (3/356) وسنن أبي داود برقم (2810) وسنن الترمذي برقم (1521) وقال الترمذي : "هذا حديث غريب من هذا الوجه".

(5/426)


وذبح (1).
وعن علي بن الحسين ، عن أبي رافع ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين ، فإذا صلى وخطب الناس أتى (2) بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية (3) ، ثم يقول : "اللهم هذا عن أمتي جميعها ، مَنْ شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ". ثم يُؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ، ثم يقول : "هذا عن محمد وآل محمد" فيُطعمها جميعًا المساكين ، [ويأكل] (4) هو وأهله منهما.
رواه أحمد ، وابن ماجه (5).
وقال الأعمش ، عن أبي ظِبْيَان ، عن ابن عباس في قوله : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } ، قال : قيام على ثلاث قوائم ، معقولة يدُها اليسرى ، يقول : "بسم الله والله أكبر (6) ، اللهم منك ولك". وكذلك روى مجاهد ، وعلي بن أبي طلحة ، والعَوْفي ، عن ابن عباس ، نحو هذا.
وقال ليث. عن مجاهد : إذا عُقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث. ورَوَى ابن أبي نَجِيح ، عنه ، نحوه (7).
وقال الضحاك : تُعقل رجل (8) واحدة فتكون على ثلاث.
وفي الصحيحين عن ابن عمر : أنه أتى على رجل قد أناخ بَدَنته وهو ينحرها ، فقال : ابعثها قيامًا مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم (9).
وعن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه كانوا ينحَرون البُدْن معقولةَ اليسرى ، قائمة على ما بقي من قوائمها. رواه أبو داود (10).
وقال ابن لَهِيعة : حدثني عطاء بن دينار ، أن سالم بن عبد الله قال لسليمان بن عبد الملك : قفْ من شقها الأيمن ، وانْحَر من شقها الأيسر.
وفي صحيح مسلم ، عن جابر ، في صفة حجة الوَدَاع ، قال فيه : فنحر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثًا وستين بَدَنة ، جعل (11) يَطعَنُها بحَربة في يده (12).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة قال : في حرف ابن مسعود : "صوافن" ، أي : مُعقَّلة (13) قياما (14).
__________
(1) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية : 162 من سورة "الأنعام".
(2) في ت : "أمر".
(3) في ت ، أ : "بالمدينة".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) المسند (6/8) وتقدم الحديث في هذه السورة.
(6) في ف ، أ : "والله أكبر ، لا إله إلا الله".
(7) في أ : "نحو هذا".
(8) في ت ، ف : "يعقل يدا".
(9) صحيح البخاري برقم (1713) وصحيح مسلم برقم (1320).
(10) سنن أبي داود برقم (1767).
(11) في ت : "وجعل".
(12) صحيح مسلم برقم (1218).
(13) في ت ، أ : "معلقة".
(14) تفسير عبد الرزاق (2/33).

(5/427)


وقال سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : مَن قرأها "صوافن" قال : معقولة. ومن قرأها { صَوَافَّ } قال : تصف بين يديها.
وقال طاوس ، والحسن ، وغيرهما : "فاذكروا اسم الله عليها صوافي" يعني : خالصة لله عز وجل. وكذا رواه مالك ، عن الزهري.
وقال عبد الرحمن بن زيد : "صوافيَ" : ليس فيها شرك كشرك الجاهلية لأصنامهم.
وقوله : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } قال : ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : يعني : سقطت إلى الأرض.
وهو رواية عن ابن عباس ، وكذا قال مقاتل بن حيان.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } يعني : نحرت.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } يعني : ماتت.
وهذا القول هو مُرَادُ ابن عباس ومجاهد ، فإنه لا يجوز الأكل من البَدَنة (1) إذا نُحرت حتى تموت وتَبْرد حركتها. وقد جاء في حديث مرفوع : "ولا تُعجِلُوا النفوسَ أن تَزْهَق" (2). وقد رواه الثوري في جامعه ، عن أيوب ، عن يحيى ابن أبي كثير ، عن فَرافصَة الحنفي ، عن عمر بن الخطاب ؛ أنه قال ذلك (3) ويؤيده حديث شَدّاد بن أوس في صحيح مسلم : "إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح (4) ولْيُحدَّ أحدكم شَفْرَته ، ولْيُرِحْ ذَبِيحته" (5).
وعن أبي واقد الليثي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما قُطع من البهيمة وهي حية ، فهو ميتة".
رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه (6).
وقوله : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ َ } قال بعض السلف (7) : قوله : { فَكُلُوا مِنْهَا } أمر إباحة.
وقال مالك : يستحب ذلك. وقال غيره : يَجِبُ. وهو وَجْه لبعض الشافعية. واختلف في المراد بالقانع والمعتر ، فقال العوفي ، عن ابن عباس : القانع : المستغني بما أعطيته ، وهو في بيته. والمعترّ : الذي يتعرض لك ، ويُلمّ بك أن تعطيه من اللحم ، ولا يسأل. وكذا قال مجاهد ، ومحمد بن كعب القُرَظِيّ.
__________
(1) في ت : "البدن".
(2) رواه الدارقطني في السنن (4/283) من طريق سعيد بن سلام العطار عن عبد الله بن بديل عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا وسعيد بن سلام العطار كذبه أحمد وابن نمير ، وضعف البيهقي هذا الحديث في السنن الكبرى (9/278).
(3) ومن طريقه رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/278).
(4) في ت : "الذبحة".
(5) صحيح مسلم برقم (1955).
(6) المسند (5/218) وسنن أبي داود برقم (2858) وسنن الترمذي برقم (1480).
(7) في أ : "الناس".

(5/428)


وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : القانع : المتعفف. والمعتر : السائل. وهذا قولُ قتادة ، وإبراهيم النَّخَعي ، ومجاهد في رواية عنه.
وقال ابن عباس ، وزيد بن أسلم وعِكْرِمَة (1) ، والحسن البصري ، وابن الكلبي ، ومُقَاتِل بن حَيَّان ، ومالك بن أنس : القانع : هو الذي يَقْنع إليك ويسألك. والمعتر : الذي يعتريك ، يتضرع ولا يسألك. وهذا لفظ الحسن.
وقال سعيد بن جبير : القانع : هو السائل ، ثم قال : أما سمعت قول الشَّمَّاخ. لَمَالُ المَرْءِ يُصْلِحُه فَيُغْني... مَفَاقِرَه (2) ، أَعَفُّ مِنَ القُنُوع (3)
قال : يعني من السؤال ، وبه قال ابن زيد.
وقال زيد بن أسلم : القانع : المسكين الذي يطوف. والمعتر : الصديق والضعيف (4) الذي يزور. وهو رواية عن عبد الله (5) بن زيد أيضا.
وعن مجاهد أيضا : القانع : جارك الغني [الذي يبصر ما يدخل بيتك] (6) والمعتر : الذي يعتريك (7) من الناس.
وعنه : أن القانع : هو الطامع. والمعتر : هو الذي يَعْتَر بالبُدْن من غني أو فقير.
وعن عكرمة نحوه ، وعنه القانع : أهل مكة.
واختار ابنُ جرير أنّ القانع : هو السائل ؛ لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال ، والمعتر من الاعترار ، وهو : الذي يتعرض لأكل اللحم.
وقد احتج بهذه الآية الكريمة مَن ذهب من العلماء إلى أن الأضحية تُجزَّأ ثلاثة أجزاء : فثلث لصاحبها يأكله [منها] (8) ، وثلث يهديه لأصحابه ، وثلث يتصدق به على الفقراء ؛ لأنه تعالى قال : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ }. وفي الحديث الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس : "إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، فكلوا وادخروا ما بدا لكم" (9) وفي رواية : "فكلوا وادخروا وتصدقوا". وفي رواية : "فكلوا وأطعموا وتصدقوا" (10).
والقول الثاني : إن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف ، لقوله في الآية المتقدمة : { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } [الحج : 28] ، ولقوله في الحديث : "فكلوا وادخروا وتصدقوا".
فإن أكل الكل فقيل (11) : لا يضمن شيئا. وبه قال ابن سُرَيج من الشافعية.
__________
(1) في ف ، أ : "وعكرمة وزيد بن أسلم".
(2) في ت : "مفاقه".
(3) البيت في ديوانه (ص221) أ.هـ مستفادا من حاشية الشعب.
(4) في ت : "والضيف".
(5) في أ : "عن أبيه عبد الرحمن".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في أ : "يعتزل".
(8) زيادة من ت ، ف ، أ.
(9) صحيح مسلم برقم (977) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه
(10) رواه مالك في الموطأ (2/484) من حديث جابر رضي الله عنه.
(11) في ت ، ف ، أ. "فقد فقيل".

(5/429)


وقال بعضهم : يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها. وقيل : يضمن نصفها. وقيل : ثلثها. وقيل : أدنى جزء منها. وهو المشهور من مذهب الشافعي.
وأما الجلود ، ففي مسند أحمد عن قتادة ابن النعمان في حديث الأضاحي : "فكلوا وتصدقوا ، واستمتعوا بجلودها ، ولا تبيعوها" (1).
ومن العلماء من رخص [في ذلك] (2) ، ومنهم من قال : يقاسم الفقراء ثمنها ، والله أعلم.
[مسألة] (3).
عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أول ما نبدأ (4) به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر. فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم [عجله] (5) لأهله ، ليس من النسك في شيء" أخرجاه (6).
فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء : إن أول وقت الأضحى إذا طلعت الشمس يوم النحر ، ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين. زاد أحمد : وأن يذبح الإمام بعد ذلك ، لما جاء في صحيح مسلم : وألا تذبحوا حتى يذبح الإمام" (7).
وقال أبو حنيفة : أما أهل السواد من القرى ونحوهم (8) ، فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر ، إذ لا صلاة عيد (9) عنده لهم. وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام ، والله أعلم.
ثم قيل : لا يشرع الذبح إلا يوم النحر وحده. وقيل : يوم النحر لأهل الأمصار ، لتيسر (10) الأضاحي عندهم ، وأما أهل القرى فيوم النحر وأيام التشريق بعده ، وبه قال سعيد بن جبير. وقيل : يوم النحر ، ويوم بعده للجميع. وقيل : ويومان بعده ، وبه قال أحمد. وقيل : يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده ، وبه قال الشافعي ؛ لحديث جبير بن مطعم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "وأيام التشريق كلها ذبح". رواه أحمد وابن حبان (11).
وقيل : إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة ، وبه قال إبراهيم النَّخَعِيّ ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن. وهو قول غريب.
وقوله : { كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } : يقول تعالى : من أجل هذا { سَخَّرْنَاهَا لَكُم } أي : ذللناها لكم ، أي : جعلناها منقادة لكم خاضعة ، إن شئتم ركبتم ، وإن شئتم حلبتم ، وإن شئتم ذبحتم ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ } [ يس : 71 - 73 ] ،
__________
(1) المسند (4/15).
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ت : "يبدأ
(5) زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري ، وفي هـ : "يبديه".
(6) صحيح البخاري برقم (5545) وصحيح مسلم برقم (1961).
(7) لم يقع لي في مسلم هذا اللفظ وينظر صحيح مسلم (3/1551).
(8) في ف : "وغيرها".
(9) في أ : "عيد تشرع".
(10) في ف : "لتيسر".
(11) المسند (4/82).

(5/430)


لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

وقال في هذه الآية الكريمة : { كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
{ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) }.
يقول تعالى : إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا والضحايا ، لتذكروه عند ذبحها ، فإنه الخالق الرازق (1) لا أنه يناله شيء من لحومها ولا دمائها ، فإنه تعالى هو الغني عما سواه.
وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم قرابتنهم ، ونضحوا عليها من دمائها ، فقال تعالى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن أبي حماد ، حدثنا إبراهيم بن المختار ، عن ابن جريج قال : كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنحن أحق أن ننضح ، فأنزل الله : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } أي : يتقبل ذلك ويجزي عليه.
كما جاء في الصحيح : "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم (2) ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (3) وما جاء في الحديث : "إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض" كما تقدم الحديث. رواه (4) ابن ماجه ، والترمذي وحَسّنه عن عائشة مرفوعا. فمعناه : أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله ، وليس له معنى يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا ، والله أعلم.
وقال وَكِيع ، عن [يحيى] (5) بن مسلم أبي الضحاك : سألت عامرًا الشعبي عن جلود الأضاحي ، فقال : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا } ، إن شئت فبع ، وإن شئت فأمسك ، وإن شئت فتصدق.
وقوله : { كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ } أي : من أجل ذلك سخر (6) لكم البُدن ، { لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } أي : لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ، وما يرضاه ، ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه.
وقوله : { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } أي : وبشر يا محمد المحسنين ، أي : في عملهم ، القائمين بحدود الله ، المتبعين ما شَرَع لهم ، المصدقين الرسولَ فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عز وجل.
[مسألة] (7).
وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول (8) بوجوب الأضحية على من ملك نصابا ، وزاد
__________
(1) في ت ، ف : "الرزاق".
(2) في ت ، ف : "ألوانكم".
(3) صحيح مسلم برقم (2564).
(4) في ت : "ورواه".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت ، ف : "سخرناها".
(7) زيادة من ف.
(8) في ت : "بالقول".

(5/431)


أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضًا. واحتج لهم بما رواه أحمد وابن ماجه بإسناد رجاله كلهم ثقات ، عن أبي هريرة مرفوعا : "من وجد سَعَة فلم يُضَحِّ ، فلا يقربن مُصَلانا" (1) على أن فيه غرابة ، واستنكره أحمد بن حنبل (2).
وقال ابن عمر : أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي. رواه الترمذي (3).
وقال الشافعي ، وأحمد : لا تجب الأضحية ، بل هي مستحبة ؛ لما جاء في الحديث : "ليس في المال حق سوى الزكاة" (4). وقد تقدم أنه ، عليه السلام (5) ضحى عن أمته فأسقط ذلك وجوبها عنهم.
وقال أبو سَريحةَ : كنت جارًا لأبي بكر وعمر ، فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما.
وقال بعض الناس : الأضحية سنة كفاية ، إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة ، سقطت عن الباقين ؛ لأن المقصود إظهار الشعار.
وقد روى الإمام أحمد ، وأهل السنن - وحسنه الترمذي - عن مِخْنَف بن سليم ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات : "على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعَتِيرة ، هل تدرون ما العتيرة ؟ هي (6) التي تدعونها الرَّجبية". وقد تكلم في إسناده (7).
وقال أبو أيوب : كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة الواحدة عنه وعن أهل بيته ، يأكلون ويطعمون [حتى تباهي] (8) الناس فصار كما ترى.
رواه الترمذي وصححه ، وابن ماجه (9).
وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله. رواه البخاري.
وأما مقدار سِنّ الأضحية ، فقد روى مسلم عن جابر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تذبحوا إلا مُسِنَّة ، إلا أن يعسر عليكم ، فتذبحوا جذعة من الضأن" (10).
__________
(1) المسند (2/321) وسنن ابن ماجه برقم (3123).
(2) في إسناده عبد الله بن عياش ، قال البوصيري في الزوائد (3/50) : "وإن روى له مسلم فإنما روى له في المتابعات والشواهد فقد ضعفه أبو داود والنسائي ، وقال أبو حاتم ، وابن يونس : منكر الحديث وذكره ابن حبان في الثقات". ثم نقل عن البيهقي أنه بلغه عن الترمذي : أن الصحيح عن أبي هريرة موقوف أ. هـ.
ويمكن أن يجاب بأن هذا الحديث لا يدل على الوجوب ، كما في حديث : "من أكل الثوم فلا يقربن مصلانا" ذكر ذلك ابن الجوزي وهناك لا يلزم استنكاره.
(3) سنن الترمذي برقم (1507) وحسنه.
(4) رواه ابن ماجه في السنن برقم (1789) من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
(5) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(6) في ف ، أ : "قال : هي".
(7) المسند (4/125) وسنن أبي داود برقم (2788) وسنن الترمذي برقم (1518) وسنن النسائي (7/167) وسنن ابن ماجه برقم (3125).
(8) زيادة من ت ، ف.
(9) سنن الترمذي برقم (1505) وسنن ابن ماجه برقم (3147).
(10) صحيح مسلم برقم (1963).

(5/432)


إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)

ومن هاهنا ذهب الزهري إلى أن الجذَعَ لا يجزئ. وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجَذَع يجزئ من كل جنس ، وهما غريبان. وقال الجمهور : إنما يجزئ الثَّني من الإبل والبقر والمعز ، والجذع من الضأن ، فأما الثني من الإبل : فهو الذي له خمس سنين ، ودخل في السادسة. ومن البقر : ما له [سنتان] (1) ودخل في [الثالثة] (2) ، وقيل : [ما له] (3) ثلاث [ودخل في] (4) الرابعة. ومن المعز : ما له سنتان. وأما الجذع من الضأن فقيل : ما له سنة ، وقيل : عشرة أشهر ، وقيل : ثمانية أشهر ، وقيل : ستة أشهر ، وهو أقل ما قيل في سِنِّه ، وما دونه فهو حَمَل ، والفرق بينهما : أن الحمل شعر ظهره قائم ، والجذَع شعر ظهره نائم ، قد انعدل صدْعين ، والله أعلم.
{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) }.
يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار ، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ، كما قال تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] وقال : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [ الطلاق : 3 ].
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } أي : لا يحب من عباده من اتصف بهذا ، وهو الخيانة في العهود والمواثيق ، لا يفي بما قال. والكفر (5) : الجحد للنعم ، فلا يعترف بها.
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.
(3) زيادة من ف.
(4) زيادة من ف.
(5) في ت : "والكفور".

(5/433)


أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)

{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) }.
قال العَوفي ، عن ابن عباس : نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة.
وقال غير واحد من السلف (1) هذه أول آية نزلت في الجهاد ، واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية ، وقاله مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وغير واحد.
وقال ابن جرير : حدثني يحيى بن داود الواسطي : حدثنا إسحاق بن يوسف ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم - هو البَطِين - عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس قال : لما أخرج (2) النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم. إنا لله وإنا إليه راجعون ، ليهلكُن. قال ابن عباس : فأنزل الله عز وجل : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } ، قال أبو بكر ، رضي الله تعالى عنه : فعرفت أنه سيكون قتال.
__________
(1) في ف ، أ : "وقال مجاهد والضحاك وقتادة".
(2) في ت ، ف : "خرج".

(5/433)


ورواه الإمام أحمد ، عن إسحاق بن يوسف الأزرق ، به (1) وزاد : قال ابن عباس : وهي أول آية نزلت في القتال.
ورواه الترمذي ، والنسائي في التفسير من سننيهما ، وابن أبي حاتم (2) من حديث إسحاق بن يوسف - زاد الترمذي : ووَكِيع ، كلاهما عن سفيان الثوري ، به. وقال الترمذي : حديث حسن ، وقد رواه غير واحد ، عن الثوري ، وليس فيه ابن عباس (3).
وقوله : { وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } أي : هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال ، ولكن هو يريد من عباده أن يبلوا (4) جهدهم في طاعته ، كما قال : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [ محمد : 4 - 6 ] ، وقال تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ (5) وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 14 ، 15 ] ، وقال : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [ التوبة : 16 ] ، { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ [ اللَّهُ ] (6) الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [ آل عمران : 142 ] ، وقال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ].
والآيات في هذا كثيرة ؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله : { وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } وقد فعل.
وإنما شرع [الله] (7) تعالى الجهاد في الوقت الأليق به ؛ لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددًا ، فلو أمرَ المسلمين ، وهم أقل من العشر ، بقتال الباقين (8) لشَقَّ عليهم ؛ ولهذا لما بايع أهلُ يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا نيفا وثمانين ، قالوا : يا رسول الله ، ألا نميل على أهل الوادي - يعنون أهل مِنَى - ليالي مِنى فنقتلهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إني لم أومر بهذا". فلما بَغَى المشركون ، وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم ، وهموا بقتله ، وشردوا أصحابه شَذرَ مَذَر ، فذهب (9) منهم طائفة إلى الحبشة ، وآخرون إلى المدينة. فلما استقروا بالمدينة ، ووافاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، واجتمعوا عليه ، وقاموا بنصره وصارت لهم دار إسلام ومَعْقلا يلجؤون إليه - شرع الله جهاد الأعداء ، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك ، فقال تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقّ }
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ت : "ماجه".
(3) سنن الترمذي برقم (3171) وسنن النسائي الكبرى برقم (11345).
(4) في ت ، أ : "يبذلوا".
(5) في ت : "بأيديهم".
(6) زيادة من ت ، ف ، أ.
(7) تفسير الطبري (17/123) والمسند (1/216).
(8) في ت : "المنافقين".
(9) في ف : "فذهبت".

(5/434)


قال العَوْفي ، عن ابن عباس : أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق ، يعني : محمدًا وأصحابه.
{ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } أي : ما كان لهم إلى قومهم إساءة ، ولا كان لهم ذنب إلا أنهم عبدوا الله (1) وحده لا شريك له. وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في نفس الأمر ، وأما عند المشركين فهو أكبر الذنوب ، كما قال تعالى : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] ، وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ]. ولهذا لما كان المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ، ويقولون : لا هُمّ (2) لَولا أنتَ ما اهتَدَينا... وَلا تَصَدّقَْنا وَلا صَلَّينَا...
فَأنزلَنْ سَكينَةً عَلَينَا... وَثَبّت الأقْدَامَ إنْ لاقَينَا...
إنّ الألَى قد بَغَوا عَلَينَا... إذَا أرَادوا فتْنَةً أبَيْنَا (3)
فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول معهم آخر كل قافية ، فإذا قالوا : "إذا أرادوا فتنة أبينا" ، يقول : "أبينا" ، يمد بها صوته.
ثم قال تعالى : { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي : لولا أنه يدفع عن قوم بقوم ، ويكشفُ شَرّ أناس عن غيرهم ، بما يخلقه ويقدره من الأسباب ، لفسدت الأرض ، وأهلك القوي الضعيف.
{ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ } وهي المعابد الصغار للرهبان ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والضحاك ، وغيرهم.
وقال قتادة : هي معابد الصابئين. وفي رواية عنه : صوامع المجوس.
وقال مقاتل بن حَيَّان : هي البيوت التي على الطرق.
{ وَبِيَعٌ } : وهي أوسع منها ، وأكثر عابدين فيها. وهي للنصارى أيضًا. قاله أبو العالية ، وقتادة ، والضحاك ، وابن (4) صخر ، ومقاتل بن حيان ، وخُصَيف ، وغيرهم.
وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره : أنها كنائس اليهود. وحكى السدي ، عمن حَدّثه ، عن ابن عباس : أنها كنائس اليهود ، ومجاهد إنما قال : هي الكنائس ، والله أعلم.
وقوله : { وَصَلَوَاتٌ } : قال العوفي ، عن ابن عباس : الصلوات : الكنائس. وكذا قال عكرمة ، والضحاك ، وقتادة : إنها كنائس اليهود. وهم يسمونها صَلُوتا.
وحكى السدي ، عمن حدثه ، عن ابن عباس : أنها كنائس النصارى.
__________
(1) في ف ، أ : "وحد الله".
(2) في أ : "والله".
(3) الأبيات لعامر بن الأكوع كما في صحيح مسلم برقم (1803).
(4) في أ : "أبو".

(5/435)


الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

وقال أبو العالية ، وغيره : الصلوات : معابد الصابئين.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : الصلوات : مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطرق. وأما المساجد فهي للمسلمين.
وقوله : { يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } فقد قيل : الضمير في قوله : { يُذْكَرَ فِيهَا } عائد إلى المساجد ؛ لأنها أقرب المذكورات.
وقال الضحاك : الجميع يذكر فيها اسم الله كثيرا.
وقال ابن جرير : الصوابُ : لهدمت صوامع الرهبان وبِيعُ النصارى وصلوات اليهود ، وهي كنائسهم ، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا ؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب.
وقال بعض العلماء : هذا تَرَقٍّ من الأقل إلى الأكثر إلى أن ينتهي إلى المساجد ، وهي أكثر عُمَّارا وأكثر عبادا ، وهم ذوو القصد الصحيح.
وقوله : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ } كقوله (1) تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 7 ، 8 ].
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } وَصَف نفسه بالقوة والعزة ، فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا ، وبعزته لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب ، بل كل شيء ذليل لديه ، فقير إليه. ومن كان القويّ العزيز ناصرَه فهو المنصور ، وعدوه هو المقهور ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [ الصافات : 171 - 173 ] وقال [الله] (2) تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ].
{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ (41) }.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الربيع الزَّهْرَاني ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب وهشام ، عن محمد قال : قال عثمان بن عفان : فينا نزلت : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ } ، فأخرجنا من ديارنا بغير حق ، إلا أن قلنا : "ربنا الله" ، ثم مُكنّا في الأرض ، فأقمنا الصلاة ، وآتينا الزكاة ، وأمرنا بالمعروف ، ونهينا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور ، فهي لي ولأصحابي.
__________
(1) في ت : "لقوله".
(2) زيادة من ت.

(5/436)


وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)

وقال أبو العالية : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الصباح بن سوادة الكندي : سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ } الآية ، ثم قال : إلا أنها ليست على الوالي وحده ، ولكنها على الوالي والمولى عليه ، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذَلكم ، وبما للوالي عليكم منه ؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم ، وأن يأخذ لبعضكم من بعض ، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع ، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكرهة ، ولا المخالف سرها علانيتها.
وقال عطية العوفي : هذه الآية كقوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ [ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ] (1) } [ النور : 55 ].
وقوله : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ } ، كقوله تعالى { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ].
وقال زيد بن أسلم : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ } : وعند الله ثواب ما صنعوا.
{ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) }.
يقول تعالى مسليا نبيَّه محمدا صلى الله عليه وسلم في تكذيب من خالفه من قومه : { وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } إلى أن قال (2) : { وَكُذِّبَ مُوسَى } أي : مع ما جاء به من الآيات البينات والدلائل الواضحات.
{ فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } أي : أنظرتهم وأخرتهم ، { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : فكيف كان إنكاري عليهم ، ومعاقبتي لهم ؟!
ذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه : { أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى } [ النازعات : 24 ] ، وبين إهلاك الله له أربعون سنة.
وفي الصحيحين عن أبي موسى ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه ، ثم قرأ : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] (3).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ف ، أ : "وعاد وثمود. وقوم إبراهيم وقوم لوط. وأصحاب مدين".
(3) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583).

(5/437)


ثم قال تعالى : { فَكَأَيِّنْ (1) مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي : كم من قرية أهلكتها { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } ] (2) أي : مكذبة لرسولها ، { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } قال الضحاك : سقوفها ، أي : قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها.
{ وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ } أي : لا يستقى منها ، ولا يَرِدُها أحد بعد كثرة وارديها والازدحام عليها.
{ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } قال عكرمة : يعني المُبَيّض بالجص.
وروي عن علي بن أبي طالب ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وأبي المَلِيح ، والضحاك ، نحو ذلك.
وقال آخرون : هو المُنيف المرتفع.
وقال آخرون : الشديد المنيع الحصين.
وكل هذه الأقوال متقاربة ، ولا منافاة بينها ، فإنه لم يَحْمِ أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ، ولا إحكامه ولا حصانته ، عن حلول بأس الله بهم ، كما قال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ].
وقوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ } أي : بأبدانهم وبفكرهم أيضا ، وذلك كاف ، كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب "التفكر والاعتبار" :
حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا سَيَّار ، حدثنا (3) جعفر ، حدثنا مالك بن دينار قال : أوحى الله تعالى إلى موسى ، عليه السلام ، أن يا موسى ، اتخذ نعلين من حديد وعصا ، ثم سِحْ في الأرض ، واطلب الآثار والعبر ، حتى تتخرق النعلان (4) وتكسر العصا.
وقال ابن أبي الدنيا : قال بعض الحكماء : أحْيِ قلبك بالمواعظ ، ونَوِّره بالفِكْر ، ومَوِّته بالزهد ، وقَوِّه باليقين ، وذَلِّلْهُ بالموت (5) ، وقرِّره بالفناء (6) ، وبَصِّره فجائع (7) الدنيا ، وحَذِّره صولةَ (8) الدهر وفحش تَقَلُّب الأيام ، واعرض عليه أخبار الماضين ، وذكره ما أصاب (9) من كان قبله ، وسِرْ في ديارهم وآثارهم ، وانظر ما فعلوا ، وأين حَلُّوا ، وعَمَّ انقلبوا.
أي : فانظروا (10) ما حل بالأمم المكذبة من النقم والنكال (11) { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي : فيعتبرون بها ، { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } أي : ليس العمى عمى البصر ، وإنما العمى عمى البصيرة ، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ، ولا تدري ما الخبر. وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا المعنى - وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن سارة (12) الأندلسي الشَّنْتَريني ، وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة :
__________
(1) في ت ، ف : "وكأين".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ت ، ف : "ابن".
(4) في ت ، ف : "تخرق النعال".
(5) في ت ، ف : "بالقرب".
(6) في ت ، ف : "وتدبره بالثناء".
(7) في ت ، ف ، أ : "بمجامع".
(8) في ف : "بصولة".
(9) في ت ، أ : "وذكره بأم كتاب".
(10) في ت ، ف : "فينظروا".
(11) زيادة من ت ، ف ، أ.
(12) في ت ، ف ، أ : "ابن حبان".

(5/438)


يا مَن يُصيخُ إلى دَاعي الشَقَاء ، وقَد... نَادَى به الناعيَان : الشيبُ والكبَرُ...
إن كُنتَ لا تَسْمَع الذكْرَى ، ففيم تُرَى... في رَأسك الوَاعيان : السمعُ والبَصَرُ?...
ليسَ الأصَمّ ولا الأعمَى سوَى رَجُل... لم يَهْده الهَاديان : العَينُ والأثَرُ...
لا الدّهر يَبْقَى وَلا الدنيا ، وَلا الفَلَك الـ... أعلى ولا النَّيّران : الشَّمْسُ وَالقَمَرُ...
لَيَرْحَلَنّ عَن الدنيا ، وَإن كَرِها (1) فرَاقها ، الثاويان : البَدْو والحَضَرُ...
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "كرهن".

(5/439)


وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)

{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) }.
يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه (1) : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } أي : هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون (2) بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر ، كما قال [الله] (3) تعالى : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } [ ص : 16 ].
وقوله : { وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي : الذي قد وَعَد ، من إقامة الساعة والانتقام من أعدائه ، والإكرام لأوليائه.
قال الأصمعي : كنت عند أبي عمرو بن العلاء ، فجاء عمرو بن عبيد ، فقال : يا أبا عمرو ، وهل يخلف الله الميعاد ؟ فقال : لا. فذكر آية وعيد ، فقال له : أمن (4) العجم أنت ؟ إن العرب تَعدُ الرجوع عن الوعد لؤما ، وعن الإيعاد كرما ، أومَا سمعتَ قول الشاعر (5) :
لا يُرْهِبُ ابنَ العم منى (6) سَطْوَتي... ولا أخْتَتِي (7) من سَطْوة المُتَهَدّد...
فإنّي وَإن أوْعَدْتُه أوْ وَعَدْتُه... لَمُخْلِفُ إيعَادي ومُنْجزُ مَوْعدي...
وقوله : { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } أي : هو تعالى لا يَعجَل ، فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه ، لعلمه بأنه على الانتقام قادر ، وأنه لا يفوته شيء ، وإن أجَّلَ وأنظَر وأملى ؛ ولهذا قال بعد هذا : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عَرَفة ، حدثني عبدة بن سليمان ، عن محمد بن عمرو ، عن
__________
(1) في ف ، أ : "عليه وسلامه".
(2) في ت ، ف : "الملحدين المكذبين".
(3) زيادة من ف.
(4) في ت ، ف ، أ : "من".
(5) هو عامر بن الطفيل والبيت في اللسان مادة (ختأ) ، (وعد).
(6) في ت ، ف ، أ : "والجار".
(7) في ت ، ف ، أ : "ينثني".

(5/439)


أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ، خمسمائة عام".
ورواه الترمذي والنسائي ، من حديث الثوري ، عن محمد بن عمرو ، به (1). وقال الترمذي : حسن صحيح. وقد رواه ابن جرير ، عن أبي هريرة موقوفا (2) ، فقال :
حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، حدثنا سعيد الجُرَيري ، عن أبي نَضْرَة ، عن سُمَيْر بن نهار قال : قال أبو هريرة : يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم. قلت : وما نصف يوم ؟ قال : أوَما تقرأ القرآن ؟. قلت : بلى. قال : { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } (3).
وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه : حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان ، عن شُرَيح بن (4) عُبَيد ، عن سعد بن أبي وَقاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إني لأرجو ألا تَعْجِزَ أمتي عند ربها ، أن يؤخرهم نصف يوم". قيل لسعد : وما نصف يوم ؟ قال : خمسمائة سنة (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنَان (6) ، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، عن إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } قال : من الأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض.
رواه ابن جرير ، عن ابن بَشّار (7) ، عن ابن مهدي (8). وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب "الردّ على الجهمية".
وقال مجاهد : هذه الآية كقوله : { يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } [ السجدة : 5 ].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عارم - محمد بن الفضل - حدثنا حماد بن زيد ، عن يحيى بن عَتِيق ، عن محمد بن سيرين ، عن رجل من أهل الكتاب أسلمَ قال : إن الله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام ، { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } وجعل أجل الدنيا ستة أيام ، وجعل الساعة في اليوم السابع ، { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } ، فقد مضت الستة الأيام ، وأنتم في اليوم السابع. فمثل ذلك كمثل الحامل إذا دخلت شهرها ، في أية لحظة ولدت كان تماما.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2354) وسنن النسائي الكبرى برقم (11348) أي أن النصف يوم خمسمائه عام.
(2) في ت : "مرفوعا".
(3) تفسير الطبري (17/129).
(4) في ت : "عن".
(5) سنن أبي داود برقم (4350).
(6) في ف ، أ : "شيبان".
(7) في ت : "يسار".
(8) تفسير الطبري (17/129).

(5/440)


قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)

{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) }.
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين طلب منه الكفار وُقُوعَ العذاب ، واستعجلوه به : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي : إنما أرسلني الله إليكم نذيرًا لكم بين يدي عذاب شديد ، وليس إلي من حسابكم من شيء ، أمركم إلى الله ، إن شاء عجل لكم العذاب ، وإن شاء أخره عنكم ، وإن شاء تاب على من يتوب إليه ، وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة ، وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار ، [و] (1) { لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [ الرعد : 41 ] و { إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ. فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم ، { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي : مغفرة لما سلف من سيئاتهم ، ومجازاة حَسَنةٌ على القليل من حسناتهم.
[و] (2) قال محمد بن كعب القُرَظِيّ : إذا سمعتَ الله تعالى يقول : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } فهو الجنة.
وقوله : { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } : قال مجاهد : يُثَبّطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه وسلم. وكذا قال عبد الله بن الزبير : مثبطين.
وقال ابن عباس : { مُعَاجِزِينَ } : مراغمين.
{ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } : وهي النار الحارة الموجعة الشديد عذابها ونكالها ، أجارنا الله منها.
قال الله تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ].
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) }.
قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغَرَانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ، ظَنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا. ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، والله أعلم.
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ت.

(5/441)


قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شعبة ، عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جُبَيْر ، قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة "النجم" فلما بلغ هذا الموضع : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى } قال : فألقى الشيطان على لسانه : "تلك الغَرَانيق العلى. وإن شفاعتهن (1) ترتجى". قالوا : ما ذكر آلهَتنا بخير قبل اليوم. فسجَدَ وسجدوا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ] (2) }
رواه ابن جرير ، عن بُنْدَار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، به نحوه (3) ، وهو مرسل ، وقد رواه البزار في مسنده ، عن يوسف بن حماد ، عن أمية بن خالد ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - فيما أحسب ، الشك في الحديث - أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة "النجم" ، حتى انتهى إلى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى } ، وذكر بقيته. ثم قال البزار : لا (4) يروى متصلا إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور. وإنما يُروى هذا من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس (5).
ثم رواه ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية ، وعن السدي ، مرسلا. وكذا رواه ابن جرير ، عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس ، مرسلا أيضا (6).
وقال قتادة : كان النبي صلى الله عليه وسلم [يصلي] (7) عند المقام إذ نَعَس ، فألقى الشيطان على لسانه "وإن شفاعتها لترتجى. وإنها لمع الغرانيق العلى" ، فحفظها المشركون. وأجرى الشيطان أن نبي الله قد قرأها ، فزَلَّت بها ألسنتهم ، فأنزل الله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ [ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى ] (8) } الآية ، فدَحَرَ الله الشيطان.
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي ، حدثنا محمد بن إسحاق المُسَيَّبِي ، حدثنا محمد بن فُلَيْح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال : أنزلت سورة النجم ، وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم ، وأحزنه ضلالهم ، فكان (9) يتمنى هُداهم ، فلما أنزل الله سورة
__________
(1) في ت ، ف : "شفاعتهم".
(2) زيادة من ف ، أ وفي ت : "الآية".
(3) تفسير الطبري (17/133).
(4) في ف ، أ : "لا نعلمه".
(5) مسند البزار برقم (2263) "كشف الأستار".
(6) تفسير الطبري (17/131).
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ف : "وكان".

(5/442)


"النجم" قال : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى } ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت ، فقال : "وإنهن لهن الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى (1) ". وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة ، وزلت بها ألسنتهم ، وتباشروا بها ، وقالوا : إن محمدا ، قد رجع إلى دينه الأول ، ودين قومه. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم [آخر النجم] (2) ، سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك. غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا كبيرا ، فرفع على (3) كفه ترابا فسجد عليه. فعجب الفريقان كلاهما (4) من جماعتهم في السجود ، لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين - ولم يكن المسلمون سمعوا الآية التي (5) ألقى الشيطان في مسامع المشركين - فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطانُ في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحدثهم به الشيطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم. ففشت تلك الكلمة في الناس ، وأظهرها الشيطان ، حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين ، عثمان بن مظعون وأصحابه ، وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، وصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه ، وحُدِّثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم الله آياته ، وحفظه (6) من الفرية ، وقال [تعالى] (7) : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } ، فلما بين الله قضاءه ، وبرأه من سجع الشيطان ، انقلب المشركون بضلالهم (8) وعداوتهم المسلمين ، واشتدوا عليهم. وهذا أيضًا مرسل.
وفي تفسير ابن جرير عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، نحوه (9). وقد رواه الإمام (10) أبو بكر البيهقي في كتابه "دلائل النبوة" فلم يَجُزْ به موسى بن عقبة ، ساقه في مغازيه بنحوه ، قال : وقد روينا عن ابن إسحاق هذه القصة.
قلت : وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا ، وكلها مرسلات ومنقطعات ، فالله أعلم. وقد ساقها البغوي في تفسيره مجموعة من كلام ابن عباس ، ومحمد بن كعب القُرَظِيّ ، وغيرهما بنحو من ذلك ، ثم سأل هاهنا سؤالا كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ؟ ثم حكى أجوبة عن الناس ، من ألطفها : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك ، فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس كذلك في نفس الأمر ، بل إنما
__________
(1) في أ : "ترجى".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ت ، أ : "ملء".
(4) في ت : "الفريقان منهما كلاهما".
(5) في أ : "الذي".
(6) في ت ، أ : "وحفظه الله".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف : "بضلالتهم".
(9) تفسير الطبري (17/133).
(10) في أ : "الحافظ".

(5/443)


كان من صنيع الشيطان لا من رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم (1).
وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته. وقد تعرض القاضي عياض ، رحمه الله ، في كتاب "الشفاء" لهذا ، وأجاب بما حاصله (2).
__________
(1) معالم التنزيل للبغوي (5/394).
(2) كذا في جميع النسخ وكلام القاضي عياض في الشفاء (2/107) أذكره مختصرا له ، قال رحمه الله :
"فاعلم ، أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين : أحدهما : في توهين أصله. والثانى : على تسليمه.
أما المأخذ الأول : فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل.. وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم.
وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال : لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير ، وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلته ، واضطراب رواياته ، وانقطاع إسناده ، واختلاف كلماته ، فقائل يقول : إنه فى الصلاة ، وآخر يقول : قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة ، وآخر يقول : قالها وقد أصابته سنة ، وآخر بقول : بل حدث نفسه فسها ، وآخر يقول : إن الشيطان قالها على لسانه وإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرضها على جبريل قال : ما هكذا أقرأتك ، وآخر يقول : بل أعلمهم الشيطان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأها فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال : "والله ما هكذا أنزلت".
إلى غير ذلك من اختلاف الرواة.
ومن حكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب ، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية.
والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : فيما أحسب - الشك في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بمكة وذكر القصة.
قال أبو بكر البزار : هذا لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا ، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد ، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير ، وإنما يعرف عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس.
فقد بين لك أبو بكر ، رحمه الله ، أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا ، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه كما ذكرناه الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه.
أما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه ، كما أشار إليه البزار ، رحمه الله.
والذي منه في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ "والنجم" وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس هذا توهينه من طريق النقل.
أما من جهة المعنى ، فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ، ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة ، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهة غير الله وهو كفر أو يتسور عليه الشيطان ويشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي صلى الله عليه وسلم أن من القرأن ما ليس منه حتى ينبهه جبريل - عليه السلام - ، وذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم.
أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من قبل نفسه عمدا وذلك كفر ، أو سهوا وهو معصوم من هذا كله.
ووجه ثان : هو استحالة هذه القصة نظرا وعرفا ، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روى لكان بعيد الالتئام ، متناقض الأقسام ، ممتزج المدح بالذم ، متخاذل التأليف والنظم ، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك.
وهذا لا يخفى على أدنى متأمل فكيف بمن رجح حلمه ، واتسع في باب البيان ومعرفة فصيح الكلام علمه!!
ووجه ثالث : أنه قد علم من عادة المنافقين ، ومعاندي المشركين ، وضعفة القلوب ، والجهلة من المسلمين ، نفورهم لأول وهلة ، وتخليط العدو على النبي صلى الله عليه وسلم لأقل فتنة ، وتعيرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شبهة...
ولم يحك أحد في هذه القصة شيئا سوى هذه الرواية الضعيفة.
ووجه رابع : ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت " وإن كادوا ليفتنونك.. " الآيتين.
وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه ؛ لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا يفتنونه ، حتى يفتري وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم.
فمضمون هذا ومفهومه : أن الله تعالى عصمه من أن يفتري ، وثبته حتى لم يركن اليهم قليلا فكيف كثيرا وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء بمدح آلهتهم وأنه قال صلى الله عليه وسلم : افتريت على الله وقلت ما لم يقل وهذا ضد مفهوم الآية وهي تضعف الحديث لو صح ، فكيف ولا صحة له ، وهذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى : " ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء ".
وأما المأخذ الثاني : فهو مبني على تسليم الحديث لو صح. وقد أعاذنا الله من صحته ، ولكن على كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة المسلمين بأجوبة منها الغث والسمين.
ثم ذكر الأجوبة على ذلك (2/111 - 114) وممن أنكرها الإمام ابن خزيمة وقال : "هذا من وضع الزنادقة" وهذا هو الصواب.
للاستزادة : انظر : الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ص - 314 لمحمد أبي شهبة ، ونصب المجانيق لإبطال قصة الغرانيق لمحمد ناصر الدين الألباني.

(5/444)


وقوله : { إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } ، هذا فيه تسلية له ، صلوات الله وسلامه عليه (1) ، أي : لا يَهيدنّك ذلك ، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء.
قال البخاري : قال ابن عباس : { فِي أُمْنِيَّتِهِ } إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِذَا تَمَنَّى [ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } ، يقول : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه.
وقال مجاهد : { إِذَا تَمَنَّى } (2) ] يعني : إذا قال.
ويقال : { أُمْنِيَّتِهِ } : قراءته ، { إِلا أَمَانِيَّ } [ البقرة : 78 ] ، يقولون ولا يكتبون.
قال البغوي : وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله : { تَمَنَّى } أي : تلا وقرأ كتاب الله ، { أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } أي : في تلاوته ، قال الشاعر في عثمان حين قتل :
تَمَنّى كتَابَ الله أوّل لَيْلة... وآخرَها لاقَى حمَامَ المَقَادرِ (3)
وقال الضحاك : { إِذَا تَمَنَّى } : إذا تلا.
قال ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام.
وقوله : { فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ } ، حقيقة النسخ لغة : الإزالة والرفع.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي فيبطل الله - سبحانه وتعالى - ما ألقى الشيطان.
وقال الضحاك : نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان ، وأحكم الله آياته.
وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ (4) } ، [أي : بما يكون من الأمور والحوادث ، لا تخفى عليه خافية] (5) ، { حَكِيمٌ } أي : في تقديره وخلقه وأمره ، له الحكمة التامة والحجة البالغة ؛ ولهذا قال : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : شك وشرك وكفر ونفاق ، كالمشركين حين فرحوا بذلك ، واعتقدوا أنه صحيح ، وإنما كان من الشيطان.
__________
(1) في ف ، أ : "عليه وسلامه".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) البيت في اللسان ، مادة (منى) غير منسوب.
(4) في ف ، أ : "عليم حكيم".
(5) زيادة من ت.

(5/445)


وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)

قال ابن جريج : { لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } هم : المنافقون { وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } : المشركون.
وقال مقاتل بن حيان : هم [الكافرون] (1) اليهود.
{ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي : في ضلال ومخالفة وعناد بعيد ، أي : من الحق والصواب.
{ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ } أي : وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل ، المؤمنون بالله ورسوله ، أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك ، الذي أنزله بعلمه وحفظه وحرسه أن يختلط به غيره ، بل هو كتاب حكيم ، { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ].
وقوله : { فَيُؤْمِنُوا بِهِ } أي : يصدقوه وينقادوا له ، { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } أي : تخضع وتذل ، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه ، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه ، وفي الآخرة يهديهم [إلى] (2) الصراط المستقيم ، الموصل إلى درجات الجنات ، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات.
{ وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) }
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من أ.

(5/446)


الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)

{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) }.
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار : أنهم لا يزالون في مرية ، أي : في شك وريب من هذا القرآن ، قاله ابن جريج ، واختاره ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير ، وابن زيد : { مِنْهُ } أي : مما ألقى الشيطان.
{ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } : قال مجاهد : فجأة. وقال قتادة : { بَغْتَةً } ، بغت [القوم] (1) أمر الله ، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم ، فلا تغتروا بالله ، إنه لا يغتر بالله (2) إلا القوم الفاسقون.
وقوله : { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } : قال مجاهد : قال أبي بن كعب : هو يوم بدر ، وكذا قال عكرمة ، وسعيد بن جبير ، وقتادة وغير واحد. واختاره ابن جرير.
وقال عكرمة ، ومجاهد [في رواية عنهما] (3) : هو يوم القيامة لا ليلة له. وكذا قال الضحاك ، والحسن البصري.
وهذا القول هو الصحيح ، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به ، لكن هذا هو المراد ؛ ولهذا
__________
(1) في ت : "اليوم" والمثبت من ف ، أ.
(2) في أ : "فلا يغتر به".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.

(5/446)


وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)

قال : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } ، كقوله { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [ الفاتحة : 4 ] وقوله : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [ الفرقان : 26 ].
{ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ، أي : آمنت قلوبهم ، وصدقوا بالله ورسوله ، وعملوا بمقتضى ما علموا ، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم (1).
{ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }. أي : لهم النعيم المقيم ، الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد.
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي : كفرت قلوبهم بالحق ، وجحدوا به (2) وكذبوا به ، وخالفوا الرسل ، واستكبروا عن اتباعهم { فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي : مقابلة استكبارهم وإعراضهم (3) عن الحق ، كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] أي : صاغرين.
{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) }.
يخبر تعالى عمن خرج مهاجرًا في سبيل الله ابتغاء مرضاته ، وطلبا لما عنده ، وترك الأوطان والأهلين والخِلان ، وفارق بلاده في الله ورسوله ، ونصرة لدين الله { ثُمَّ قُتِلُوا } أي : في الجهاد { أَوْ مَاتُوا } أي : حتف أنفهم (4) ، أي : من غير قتال على فرشهم ، فقد حصلوا على الأجر الجزيل ، والثناء الجميل ، كما قال تعالى { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [ النساء : 100 ].
وقوله : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } أي : ليُجْريَن عليهم (5) من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم ، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ } أي : الجنة. كما قال تعالى : { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } [ الواقعة : 88 ، 89 ] فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة نعيم ، كما قال هاهنا : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا } ، ثم قال : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ } أي : بمن يهاجر ويجاهد في سبيله ، وبمن يستحق ذلك ، { حَلِيمٌ } أي : يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه ، وتوكلهم عليه. فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر ، فإنه حي عند ربه يرزق ، كما قال تعالى : { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] ، والأحاديث في هذا كثيرة ، كما تقدم (6) وأما من تُوُفي
__________
(1) في أ : "وأفعالهم".
(2) في أ : "وجحدته".
(3) في أ : "وإبائهم".
(4) في أ : "أنفسهم".
(5) في أ : "ليجزيهم عليه".
(6) في أ : "مر".

(5/447)


في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر ، فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه ، وعظيم إحسان الله إليه.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المسيَّب بن واضح ، حدثنا ابن المبارك ، عن عبد الرحمن بن شُرَيْح ، عن ابن (1) الحارث - يعني : عبد الكريم - عن ابن عقبة - يعني : أبا عبيدة بن عقبة - قال : حدثنا (2) شُرَحْبِيل بن السِّمْط : طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم ، فمر بي سلمان - يعني : الفارسي - رضي الله عنه ، فقال : إني سمعت رسول الله يقول : "من مات مرابطًا ، أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر ، وأجرى عليه الرزق ، وأمن (3) من الفَتَّانين" واقرءوا إن شئتم : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ }
وقال أيضا : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا زيد بن بشر ، أخبرني همام ، أنه سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان : كنا برودس ، ومعنا فَضَالة بن عبيد الأنصاري - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فمر بجنازتين ، إحداهما قتيل والأخرى متوفى ، فمال الناس على القتيل ، فقال فضالة : ما لي (4) أرى الناس مالوا مع هذا ، وتركوا هذا ؟! فقالوا : هذا قتيل في سبيل الله تعالى. فقال : والله ما أبالي من أي حُفرتيهما بُعثت ، اسمعوا كتاب الله : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ] (5) }
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا ابن لَهِيعة ، حدثنا سلامان بن عامر الشعباني ، أن عبد الرحمن بن جَحْدَم الخولاني حدثه : أنه حضر فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين ، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي ، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى ، فقيل له : تركت الشهيد فلم تجلس عنده ؟ فقال : ما أبالي من أي حفرتيهما بعثتُ ، إن الله يقول : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ. لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا ] (6) يَرْضَوْنَهُ } فما تبتغي (7) أيها العبد إذا أدخلت مدخلا ترضاه ورزقت رزقًا حسنًا ، والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت.
ورواه ابن جرير ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، أخبرني عبد الرحمن بن شُرَيْح ، عن سلامان بن عامر قال : كان فضالة برودس أميرًا على الأرباع ، فخرج بجنازتي رجلين ، أحدهما قتيل (8) والآخر متوفى... فذكر نحو ما تقدم (9).
__________
(1) في أ : "أبي".
(2) في أ : "قال".
(3) في أ : "وأومن".
(4) في أ : "ما".
(5) زيادة من ف ، أ وفي هـ ، ت : "حتى آخر الآية".
(6) زيادة من ف ، وفي ت : "إلى قوله".
(7) في أ : "ينبغي".
(8) في أ : "قتل".
(9) تفسير الطبري (17/136).

(5/448)


ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)

وقوله : { ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ } ، ذكر (1) مقاتل بن حيان وابن جريج أنها نزلت في سرية من الصحابة ، لقوا جمعًا من المشركين في شهر محرم ، فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام ، فأبى المشركون إلا قتالهم وبغوا عليهم ، فقاتلهم المسلمون ، فنصرهم الله عليهم ، [و] (2) { إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) }.
يقول تعالى منبها على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء ، كما قال : { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ] (3) } [ آل عمران : 26 ، 27 ] ومعنى إيلاجه الليل في النهار ، والنهار في الليل : إدخاله من هذا في هذا ، ومن هذا في هذا ، فتارة يطول الليل ويقصر النهار ، كما في الشتاء ، وتارة يطول النهار ويقصر الليل ، كما في الصيف.
وقوله : { وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أي : سميع بأقوال عباده ، بصير بهم ، لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم.
ولما بين أنه المتصرف في الوجود ، الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، قال : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } أي : الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له ؛ لأنه ذو السلطان العظيم ، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وكل شيء فقير إليه ، ذليل لديه ، { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } أي : من الأصنام والأنداد والأوثان ، وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل ؛ لأنه لا يملك ضرًا ولا نفعًا.
وقوله : { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } ، كما قال : { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة : 255 ] ، وقال : { الْكَبِيرُ (4) الْمُتَعَالِ } [ الرعد : 9 ] فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه ؛ لأنه العظيم الذي لا أعظم منه ، العلي الذي لا أعلى منه ، الكبير الذي لا أكبر منه ، تعالى وتقدس وتنزه ، وعز وجل عما يقول الظالمون [المعتدون] (5) علوا كبيرا.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) }
__________
(1) في أ : "قال".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ف ، أ : وفي ت : "الآية".
(4) في ت ، ف : "وهو الكبير".
(5) زيادة من أ.

(5/449)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) }.

(5/449)


وهذا أيضا من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه ، فإنه يرسل (1) الرياح ، فتثير سحابا ، فيمطر على الأرض الجُرُز التي (2) لا نبات فيها ، وهي هامدة يابسة سوداء قحلة ، { فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } [ الحج : 5].
وقوله : { فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً } ، الفاء هاهنا للتعقيب ، وتعقيب كل شيء بحسبه ، كما قال : { خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } [ المؤمنون : 14 ] ، وقد ثبت في الصحيحين : "أن بين كل شيئين أربعين يوما" ومع هذا هو معقب (3) بالفاء ، وهكذا هاهنا قال : { فَتُصْبِحُ الأرْضُ مُخْضَرَّةً } أي : خضراء بعد يبسها ومُحُولها (4).
وقد ذكر عن بعض أهل (5) الحجاز : أنها تصبح عقب المطر خضراء ، فالله أعلم.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي : عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب وإن صغر ، لا يخفى عليه خافية ، فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به ، كما قال لقمان : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] ، وقال : { أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [ النمل : 25 ] ، وقال تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] ، وقال { وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ } الآية [ يونس : 61 ] ؛ ولهذا قال أمية بن [أبي] (6) الصلت - أو : زيد بن عمرو بن نُفيل - في قصيدته :
وَقُولا لَه : مَن يُنْبِتُ الحبَّ في الثَّرَى... فَيُصبحَ منْهُ البَقْلُ يَهْتَزُّ رَابيَا?...
ويُخْرجُ منْهُ حَبَّه في رُؤُوسه... فَفي ذَاك آيات لمَنْ كَانَ وَاعيا (7)
وقوله : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } أي : ملكه جميع الأشياء ، وهو غني عما سواه ، وكل شيء فقير إليه ، عبد لديه.
وقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ } أي : من حيوان ، وجماد ، وزروع ، وثمار. كما قال : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } [ الجاثية : 13 ] أي : من إحسانه وفضله وامتنانه ، { وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } أي : بتسخيره وتسييره ، أي : في البحر العَجَاج ، وتلاطم الأمواج ، تجري الفلك بأهلها (8) بريح طيبة ، ورفق وتؤدة ، فيحملون فيها ما شاءوا من تجائر وبضائع
__________
(1) في أ : "وأنه مرسل".
(2) في أ : "الذي".
(3) في أ : "تعقيب".
(4) في أ : "وقحوطا".
(5) في هـ ت : "أرض" والمثبت من ف ، أ.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
(8) في أ : "بأمرها".

(5/450)


لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)

ومنافع ، من بلد إلى بلد ، وقطر إلى قطر ، ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء ، كما ذهبوا بما عند هؤلاء إلى أولئك ، مما يحتاجون إليه ، ويطلبونه ويريدونه ، { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ } أي : لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض ، فهلك من فيها ، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي : مع ظلمهم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الرعد : 6 ].
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ } ، كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] ، وقوله : { قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } [ الجاثية : 26 ] ، وقوله : { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } [ غافر : 11 ] ومعنى الكلام : كيف تجعلون [مع] (1) الله أندادا وتعبدون معه غيره ، وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف ، { وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ } أي : خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئًا يذكر ، فأوجدكم { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } أي : يوم القيامة ، { إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ } أي : جحود.
{ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) }.
يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم (2) منسكا.
قال ابن جرير : يعني : لكل أمة نبي منسكا. قال : وأصل المنسك في كلام العرب : هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ، ويتردد إليه ، إما لخير أو شر. قال : ولهذا سميت مناسك الحج بذلك ، لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها (3).
فإن كان كما قال من أن المراد : { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا } فيكون المراد بقوله : { فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمْرِ } أي : هؤلاء المشركون. وإن كان المراد : "لكل أمة جعلنا منسكا جعلا قدريا - كما قال : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [ البقرة : 148 ] ولهذا قال هاهنا : { هُمْ نَاسِكُوهُ } أي : فاعلوه - فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق ، أي : هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته ، فلا تتأثر بمنازعتهم لك ، ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق ؛ ولهذا قال : { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ } أي : طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود.
وهذه كقوله : { وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } [ القصص : 87 ].
__________
(1) زيادة من ت ، ف.
(2) في ت : "أمة".
(3) تفسير الطبري (17/138).

(5/451)


أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)

وقوله : { وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } ، كقوله : { وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ].
وقوله : { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، كقوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأحقاف : 8 ] ؛ ولهذا قال : { اللَّهُ (1) يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }
وهذه كقوله : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ الشورى : 15 ].
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) }.
يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه ، وأنه محيط بما في السموات وما في الأرض ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها ، وكتب ذلك في كتابه اللوح المحفوظ ، كما ثبت في صحيح مسلم ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء" (2).
وفي السنن ، من حديث جماعة من الصحابة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أول ما خلق الله القلم ، قال له : اكتب ، قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن. فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا ابن بُكَيْر ، حدثني ابن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، حدثني سعيد بن جُبَيْر قال : قال ابن عباس : خلق الله اللوح المحفوظ مَسِيرَة مائة عام ، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق - وهو على العرش تبارك وتعالى - : اكتب. قال القلم : وما أكتب ؟ قال : علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة. فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة. فذلك قوله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ }
وهذا من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها ، وقدرها وكتبها أيضًا ، فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك ، على الوجه الذي يفعلونه ، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره ، وهذا يعصي باختياره ، وكتب ذلك عنده ، وأحاط بكل شيء علما ، وهو سهل عليه ، يسير لديه ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ }
__________
(1) في ت : "والله" وهو خطأ.
(2) صحيح مسلم برقم (2653) بلفظ "كتب الله مقادير الخلائق".
(3) جاء من حديث عبادة بن الصامت : أخرجه أبو داود في السنن برقم (4700) والترمذي في السنن برقم (3319) وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب". وجاء من حديث ابن عباس : رواه البيهقي في الأسماء والصفات (ص 378).

(5/452)


وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)

{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) }.
يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما جهلوا وكفروا ، وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطانا ، يعني : حجة وبرهانا ، كقوله : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [ المؤمنون : 117 ]. ولهذا قال هاهنا : { مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي : ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه ، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم ، بلا دليل ولا حجة ، وأصله مما سول لهم الشيطان وزينه لهم ؛ ولهذا توعدهم تعالى بقوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } أي : من ناصر ينصرهم من الله ، فيما يحل بهم من العذاب والنكال.
ثم قال : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي : وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله ، وأنه لا إله إلا هو ، وأن رسله الكرام حق وصدق ، { يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي : يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن ، ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء! { قُلْ } أي : يا محمد لهؤلاء. { أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا (1) } أي : النار وعذابها ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا ، وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم ، إن نلتم بزعمكم وإرادتكم.
وقوله : { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : وبئس النار منزلا ومقيلا ومرجعا وموئلا ومقاما ، { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 66 ].
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "كفروا وبئس المصير".

(5/453)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) }.
يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ } أي : لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به ، { فَاسْتَمِعُوا لَهُ } أي : أنصتوا وتفهموا ، { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ } أي : لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا

(5/453)


اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)

على خلق ذباب واحد ما قدروا على ذلك. كما قال الإمام أحمد.
حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شَرِيك ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعة ، عن أبي هريرة - رفع الحديث - قال : "ومن أظلم ممن خلق [خلقا] (1) كخلقي ؟ فليخلقوا مثل خلقي ذَرّة ، أو ذبابة ، أو حَبَّة" (2).
وأخرجه صاحبا الصحيح ، من طريق عُمَارة ، عن أبي زُرْعةَ ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل : "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ؟ فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة" (3).
ثم قال تعالى أيضا : { وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ } أي : هم عاجزون عن خلق ذباب واحد ، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه ، لو سلبها شيئًا من الذي عليها من الطيب ، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك. هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ولهذا [قال : { ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } ] (4).
قال ابن عباس : الطالب : الصنم ، والمطلوب : الذباب. واختاره ابن جرير ، وهو ظاهر السياق. وقال السدي وغيره : الطالب : العابد ، والمطلوب : الصنم.
ثم قال : { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي : ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره ، من هذه (5) التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها ، { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي : هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء ، { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ } [ البروج : 12 ، 13 ] ، { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [ الذاريات : 58 ].
وقوله : { عَزِيزٌ } أي : قد عز (6) كل شيء فقهره وغلبه ، فلا يمانع ولا يغالب ، لعظمته وسلطانه ، وهو الواحد القهار.
{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76) }.
يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلا فيما يشاء من شرعه وقَدَره ، ومن الناس لإبلاغ رسالاته ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أي : سميع لأقوال عباده ، بصير بهم ، عليم بمن يستحق ذلك منهم ، كما قال : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ].
وقوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } أي : يعلم ما يفعل برسله فيما
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، والمسند.
(2) المسند (2/391)
(3) صحيح البخاري برقم (5953) وصحيح مسلم برقم (2111).
(4) زيادة ، ت ، ف.
(5) في أ : "هذا الذي".
(6) في ف : "قدر".

(5/454)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)

أرسلهم به ، فلا يخفى عليه من أمورهم شيء ، كما قال : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ ] (1) وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } [ الجن : 26 - 28 ] ، فهو سبحانه رقيب عليهم ، شهيد على ما يقال لهم ، حافظ لهم ، ناصر لجنابهم ؛ { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } الآية [ المائدة : 67 ].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) }.
اختلف الأئمة ، رحمهم الله ، في هذه السجدة الثانية من سورة الحج : هل هي مشروع السجودُ فيها أم لا ؟ على قولين. وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فُضلت سورة الحج بسجدتين ، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما".
وقوله : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } أي : بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم ، كما قال تعالى : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ].
وقوله : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ } أي : يا هذه الأمة ، الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم ، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول ، وأكمل شرع.
{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي : ما كلفكم ما لا تطيقون ، وما ألزمكم بشيء فَشَقَ عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا ، فالصلاة - التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين - تجب في الحَضَر أربعًا وفي السفر تُقْصَر إلى ثِنْتَين ، وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة ، كما ورد به الحديث ، وتُصَلى رجالا وركبانا ، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. وكذا في النافلة في السفر إلى القبلة وغيرها ، والقيام فيها يسقط بعذر المرض ، فيصليها المريض جالسا ، فإن لم يستطع فعلى جنبه ، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات ، في سائر الفرائض والواجبات ؛ ولهذا قال ، عليه السلام (2) : "بُعِثْتُ بالحنِيفيَّة السَّمحة" (3) وقال لمعاذ وأبي موسى ، حين بعثهما أميرَين إلى اليمن : "بَشِّرا ولا
__________
(1) زيادة من ف ، أ. وفي ت : "إلى قوله".
(2) في ت : "عليه الصلاة والسلام" ، وفي ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(3) رواه أحمد في مسنده (5/266) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.

(5/455)


تنفرا ، ويَسِّرا ولا تُعسِّرَا" (1). والأحاديث في هذا كثيرة ؛ ولهذا قال ابن عباس في قوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } يعني : من ضيق.
وقوله : { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } : قال ابن جرير : نصب على تقدير : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي : من ضيق ، بل وَسَّعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم. [قال : ويحتمل أنه منصوب على تقدير : الزموا ملة أبيكم إبراهيم] (2).
قلت : وهذا المعنى في هذه الآية كقوله : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } الآية [ الأنعام : 161 ].
وقوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } قال الإمام عبد الله بن المبارك ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس في قوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } قال : الله عز وجل. وكذا قال مجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، والسدي ، وقتادة ، ومقاتل بن حَيَّان.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } يعني : إبراهيم ، وذلك لقوله : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكََ } [ البقرة : 128 ].
قال ابن جرير : وهذا لا وجه له ؛ لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسمّ هذه الأمة في القرآن مسلمين ، وقد قال الله تعالى : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا } قال مجاهد : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر ، { وَفِي هَذَا } يعني : القرآن. وكذا قال غيره.
قلت : وهذا هو الصواب ؛ لأنه تعالى قال : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ، ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بأنه ملة أبيهم إبراهيم الخليل ، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نَوّه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان ، في كتب الأنبياء ، يتلى على الأحبار والرهبان ، فقال : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل هذا القرآن { وَفِي هَذَا } ، وقد قال النسائي عند تفسير هذه الآية :
أنبأنا هشام بن عمار ، حدثنا محمد بن شُعَيب ، أنبأنا معاوية بن سلام (3) أن أخاه زيد بن سلام أخبره ، عن أبي سلام أنه أخبره قال : أخبرني الحارث الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جِثيّ جهنم". قال رجل : يا رسول الله ، وإن صام وصلى ؟ قال : "نعم ، وإن صام وصلى ، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله" (4).
وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } من سورة البقرة [ الآية : 21] ؛ ولهذا قال : { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (3038) ومسلم في صحيحه برقم (1732).
(2) زيادة من ت ، ف.
(3) في ت : "سالم".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11349).

(5/456)


أي : إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عُدولا (1) خيارا ، مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم ، لتكونوا يوم القيامة { شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } لأن جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها (2) على كل أمة سواها ؛ فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة ، في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم ، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك. وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 143 ] ، وذكرنا حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته.
وقوله : { فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } أي : قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها ، وأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض ، وطاعة ما أوجب ، وترك ما حرم. ومن أهم ذلك إقامُ الصلاة وإيتاءُ الزكاة ، وهو الإحسان إلى خلق الله ، بما أوجب ، للفقير على الغني ، من إخراج جزء نزر من ماله في السَّنة للضعفاء والمحاويج ، كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة "التوبة" (3).
وقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ } أي : اعتضدوا بالله (4) ، واستعينوا به ، وتوكلوا (5) عليه ، وتَأيَّدوا به ، { هُوَ مَوْلاكُمْ } أي : حافظكم وناصركم ومُظفركُم على أعدائكم ، { فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } يعني : [نعم] (6) الولي ونعم الناصر من الأعداء.
قال وُهَيْب بن الورد : يقول الله تعالى : ابن آدم ، اذكرني إذا غضبتَ أذكرك إذا غضبتُ ، فلا أمحقك فيمن أمحق ، وإذا ظُلمتَ فاصبر ، وارض بنصرتي ، فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. رواه ابن أبي حاتم.
والله تعالى أعلم وله الحمد والمنة ، والثناء الحسن والنعمة ، وأسأله التوفيق والعصمة ، في سائر الأفعال والأقوال.
هذا آخر تفسير سورة "الحج" ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وشرف وكرم ، ورضي الله تعالى عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين (7).
__________
(1) في أ : "عدلا".
(2) في أ : "بسيادتهم وفضلهم".
(3) انظر تفسير الآية : 60 من سورة التوبة.
(4) في أ : "به".
(5) في أ : "اتكلوا".
(6) زيادة من ت.
(7) في ت : "وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل".

(5/457)


قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)

تفسير سورة المؤمنون (1)
مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) }.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرني يونس بن سُلَيْم قال : أملى عليَّ يونس بن يزيد (2) الأيلي ، عن ابن شهاب ، عن عُرْوَة بن الزبير ، عن عبد الرحمن بن عَبْدٍ القاريّ قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيُ ، يسمع عند وجهه كدَوِيّ النحل فَمَكثنا ساعة ، فاستقبل القبلة ورفع يديه ، فقال : "اللهم ، زدنا ولا تَنْقُصْنا ، وأكرمنا ولا تُهِنَّا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثِرْنا ولا تؤثر [علينا ، وارض عنا] (3) وأرضِنا" ، ثم قال : "لقد أنزلت علي عشر آيات ، من أقامهن دخل الجنة" ، ثم قرأ : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } حتى ختم العَشْر.
وكذا روى (4) الترمذي في تفسيره ، والنسائي في الصلاة ، من حديث عبد الرزاق ، به (5).
وقال الترمذي : منكر ، لا نعرف أحدا رواه غير يونس بن سليم ، ويونس لا نعرفه.
وقال النسائي في تفسيره : أنبأنا قُتَيْبَةَ بن سعيد ، حدثنا جعفر ، عن أبي عمران عن يزيد بن بابَنُوس قال : قلنا لعائشة : يا أم المؤمنين ، كيف كان (6) خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، فقرأت : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } حتى انتهت إلى : { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } ، قالت : هكذا كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم. (7)
وقد رُوي عن كعب الأحبار ، ومجاهد ، وأبي العالية ، وغيرهم : لَمَّا خلق الله جنة عدن ،
__________
(1) في ف : "المؤمنين".
(2) في أ : "زيد".
(3) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(4) في أ : "رواه".
(5) المسند (1/34) وسنن الترمذي برقم (3173) وسنن النسائي الكبرى برقم (1439).
(6) في أ : "حال".
(7) سنن النسائي الكبرى برقم (11350).

(5/359)


وغرسها بيده ، نظر إليها وقال لها. تكلمي. فقالت : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } ، قال كعب الأحبار : لِمَا أعدَّ لهم فيها من الكرامة. وقال أبو العالية : فأنزل الله ذلك في كتابه.
وقد رُوي ذلك عن أبي سعيد الخدري مرفوعا ، فقال أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المُثَنَّى ، حدثنا المغيرة بن سلمة ، حدثنا وُهَيْب ، عن الجُرَيْري ، عن أبي نَضْرَة ، عن أبي سعيد قال : خلق الله الجنة ، لَبِنَةً من ذهب ولبنة من فضة ، وغرسها ، وقال لها : تكلمي. فقالت : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } ، فدخلتها الملائكة فقالت : طوبى لك ، منزلَ الملوك!. (1)
ثم قال (2) : وحدثنا بِشْر بن آدم ، وحدثنا يونس بن عبيد الله العُمَري ، حدثنا عَدِي بن الفضل ، حدثنا الجُرَيْرِي ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "خلق الله الجنة ، لَبِنَةً من ذهب ولبنة من فضة ، وملاطها (3) المسك". قال أبو بكر : ورأيت في موضع آخر في (4) هذا الحديث : "حائط الجنة ، لبنة ذهب ولبنة فضة ، ومِلاطُها المسك. فقال لها : تكلمي. فقالت : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } فقالت الملائكة : طوبى لك ، منزل الملوك!".
ثم قال البزار : لا نعلم أحدًا رفعه إلا عَدِيّ بن الفضل ، وليس هو بالحافظ ، وهو شيخ متقدم الموت (5).
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن علي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا بَقِيَّة ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لمّا خلق الله جنة عَدْن ، خلق فيها ما لا عين رأت ، [ولا أذن سمعت] (6) ، ولا خطر على قلب بشر. ثم قال لها : تكلمي. فقالت : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } (7).
بَقِيًّة : عن الحجازيين ضعيف.
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا مِنْجَابُ بن الحارث ، حدثنا حماد ابن عيسى العبسي ، عن إسماعيل السُّدِّيّ ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس - يرفعه - : "لما خلق الله جنة عَدْن ببيده ، ودَلَّى فيها ثمارها ، وشق فيها أنهارها ، ثم نظر إليها فقال : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ }. قال : وعزتي (8) لا يجاورني فيك بخيل" (9).
__________
(1) مسند البزار برقم (3507) "كشف الأستار". تنبيه : وقع في مسند البزار سنده هكذا : "حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا حجاج بن المنهال ، حدثنا حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد.
(2) في أ : "وقال".
(3) في أ : "بلاطها".
(4) في أ : "من".
(5) مسند البزار برقم (3508) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (10/397) : "رجال الموقوف رجال الصحيح".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) المعجم الكبير (11/184).
(8) في أ : "وعزتي وجلالي".
(9) المعجم الأوسط برقم (4861) "مجمع البحرين" ، وأبي صالح ضعيف.

(5/460)


وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن المثنى البَزَّار ، حدثنا محمد بن زياد الكلبي ، حدثنا يعيش بن حسين ، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قَتادة ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خلق الله جنة عدن بيده ، لبنة من دُرَّة بيضاء ، ولبنة من ياقوتة حمراء ، ولبنة من زَبَرْجَدَةَ خضراء ، ملاطُها المسك ، وحَصْباؤها اللؤلؤ ، وحَشِيشها الزعفران ، ثم قال لها : انطقي. قالت : (1) { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } فقال الله : وعزتي ، وجلالي لا يجاورني فيك بخيل". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (2) [الحشر : 9] فقوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } أي : قد فازوا وسُعِدُوا وحَصَلوا على الفلاح ، وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف.
{ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } " قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { خَاشِعُونَ } : خائفون ساكنون. وكذا روي عن مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والزهري (3).
وعن علي بن أبي طالب ، رَضِي الله عنه : الخشوعُ : خشوعُ القلبِ. وكذا قال إبراهيم النخعي.
وقال الحسن البصري : كان خشوعهم في قلوبهم ، فغضوا بذلك أبصارهم ، وخفضوا الجناح.
وقال محمد بن سيرين : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة ، فلما نزلت هذه الآية : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم.
[و] (4) قال ابن سيرين : وكانوا يقولون : لا يجاوز بصره مُصَلاه ، فإن كان قد اعتاد النظر فَلْيُغْمِضْ. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ثم رَوَى (5) ابن جرير عنه ، وعن عطاء بن أبي رَبَاح أيضًا مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، حتى نزلت هذه الآية.
والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فَرَّغ قلبه لها ، واشتغل بها عما عداها ، وآثرها على غيرها ، وحينئذ تكون راحة له وقُرَّة عين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي ، عن أنس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "حُبِّبَ إليَّ الطِّيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة" (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا مِسْعَر ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن سالم بن أبي الجَعْد ،
__________
(1) في أ : "فقالت".
(2) صفة الجنة لابن أبي الدنيا برقم (20) وفي إسناده محمد بن زياد الكلبي ، قال ابن معين : لا شيء.
تنبيه : وقع في صفة الجنة : "حدثنا محمد بن زياد الكلبي حدثنا بشر بن الحسين" وفي النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير (2/279) "نفيس بن ضين ".
(3) في ف ، أ : "والزهري وقتادة".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "ورواه".
(6) المسند (3/128) وسنن النسائي (6117).

(5/461)


عن رجل من أسلَم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا بلال ، أرحنا بالصلاة" (1).
وقال الإمام أحمد أيضًا ؛ حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا إسرائيل ، عن عثمان بن المغيرة ، عن سالم ابن أبي الجعد ، أن محمد بن الحنفية قال : دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار ، فحَضَرت الصلاة ، فقال : يا جارية ، ائتني بوَضُوء لعلي أصلي فأستريح. فرآنا (2) أنكرنا عليه ذلك (3) ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "قم يا بلال ، فأرحنا بالصلاة" (4).
وقال (5) : { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } أي : عن الباطل ، وهو يشمل : الشرك - كما قاله بعضهم - والمعاصي - كما قاله آخرون - وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } [الفرقان : 72].
قال قتادة : أتاهم والله من أمر الله ما وقَذَهم عن ذلك.
وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } : الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال ، مع أن هذه [الآية] (6) مكية ، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة. والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النَّصَب والمقادير الخاصة ، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبًا بمكة ، كما قال تعالى في سورة الأنعام ، وهي مكية : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام : 141].
وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا : زكاة النفس من الشرك والدنس ، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس : 9 ، 10] ، وكقوله : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [فصلت : 6 ، 7] ، على أحد القولين في تفسيرها.
وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا ، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال ؛ فإنه من جملة زكاة النفوس ، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا وهذا ، والله أعلم.
وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } أي : والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام ، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط ، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم ، وما ملكت أيمانهم من السراري ، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج ؛ ولهذا (7) قال : { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ } أي : غير الأزواج والإماء ، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } أي : المعتدون.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أن امرأة
__________
(1) المسند (5/364).
(2) في ف ، أ : "فرأى أنا".
(3) في ف : "ذلك عليه".
(4) المسند (5/371).
(5) في أ : "وقوله".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ف : "فلهذا".

(5/462)


اتخذت مملوكها ، وقالت : تأَوّلْت آية من كتاب الله : { أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [قال] (1) : فأُتي بها عمر ابن الخطاب ، فقال له ناس من أصحاب النبي (2) صلى الله عليه وسلم : تأولت آية من كتاب الله على غير وجهها. قال : فَغرب (3) العبد وجزّ رأسه : وقال : أنت بعده حرام على كل مسلم. هذا أثر غريب منقطع ، ذكره (4) ابن جرير في أول تفسير سورة المائدة (5) ، وهو هاهنا أليق ، وإنما حرمها على الرجال معاملة لها بنقيض قصدها ، والله أعلم.
وقد استدل الإمام الشافعي ، رحمه الله ، ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } قال : فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين ، وقد قال : { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عَرَفَةَ في جزئه المشهور حيث قال :
حدثني علي بن ثابت الجَزَريّ ، عن مسلمة بن جعفر ، عن حسان بن حميد (6) ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولا يجمعهم مع العاملين ، ويدخلهم النار أول الداخلين ، إلا أن يتوبوا ، فمن تاب تاب الله عليه : ناكح يده (7) ، والفاعل ، والمفعول به ، ومدمن (8) الخمر ، والضارب والديه حتى يستغيثا ، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه ، والناكح حليلة جاره" (9).
هذا حديث غريب ، وإسناده فيه من لا يعرف ؛ لجهالته ، والله أعلم.
وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي : إذا اؤتمنوا لم يخونوا ، بل يؤدونها إلى أهلها ، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك ، لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "آية المنافق ثلاث : إذا حَدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان".
وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أي : يواظبون عليها في مواقيتها ، كما قال ابن مسعود : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أيّ العمل أحب إلى الله ؟ قال : "الصلاة على وقتها". قلت : ثم أيّ ؟ قال : "بِرُّ الوالدين". قلت : ثم أي ؟ قال : "الجهاد في سبيل الله".
أخرجاه في الصحيحين (10). وفي مستدرك الحاكم قال : "الصلاة في أول وقتها" (11).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "رسول الله".
(3) في ف ، أ : "فضرب" وهو الصحيح.
(4) في أ : "ذكرها".
(5) تفسير الطبري (9/586) ط - المعارف.
(6) في ف ، أ : "أحمد".
(7) في ف ، أ : "الناكح يده".
(8) في ف ، أ : "المدمن".
(9) جزء الحسن بن عرفة برقم (41).
(10) صحيح البخاري برقم (5970) وصحيح مسلم برقم (85).
(11) المستدرك (1/188) وقال الحاكم : "فقد صحت هذه اللفظة باتفاق الثقتين بندار بن بشار ، والحسن بن مكرم على روايتهما عن عثمان بن عمرو ، وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".

(5/463)


وقال ابن مسعود ، ومسروق في قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } يعني : مواقيت الصلاة. وكذا قال أبو الضُّحَى ، وعلقمة بن قيس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة.
وقال قتادة : على مواقيتها وركوعها وسجودها.
وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة ، واختتمها بالصلاة ، فدل على أفضليتها ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "استقيموا ولن تحصوا ، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" (1).
ولَما وَصَفَهم [الله] (2) تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال : { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما منكم من أحد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات فدخل النار وَرثَ أهل الجنة منزله ، فذلك قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } (4).
وقال ابن جُرَيْج ، عن لَيْث ، عن مجاهد : { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } قال : ما من عبد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ، ومنزل في النار ، فأما المؤمن فيُبنَى بيته الذي في الجنة ، ويُهدّم بيته الذي في النار (5) ، وأما الكافر فيُهْدَم بيته الذي في الجنة ، ويُبنى بيته الذي في النار. وروي عن سعيد بن جُبَيْر نحو ذلك.
فالمؤمنون يرثون منازل الكفار ؛ لأنهم [كلهم] (6) خلقوا لعبادة الله تعالى (7) ، فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة ، وترَكَ أولئك ما أمرُوا به مما خُلقوا له - أحرزَ هؤلاء نصيب
__________
(1) جاء من حديث ثوبان : رواه ابن ماجه في السنن برقم (277) من طريق سفيان عن منصور عن ابن أبي الجعد عنه به وفيه انقطاع. ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : رواه ابن ماجه في السنن برقم (278) من طريق المعتمر عن ليث عن مجاهد عنه به ، وليث بن أبي سليم ضعيف. ومن حديث أبي أمامة : رواه ابن ماجه في السنن برقم (279) من طريق إسحاق بن أسيد عن أبي حفص الدمشقي عنه به ، وضعفه البوصيري في الزوائد.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) البخاري في صحيحه برقم (2790) ، (7423) عن أبي هريرة ، ولم يعزه صاحب التحفة إلى غير البخاري.
(4) ورواه ابن ماجه في السنن برقم (4341) عن أبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن سنان ، كلاهما عن أبي معاوية به. وقال البوصيري في الزوائد (3/327) : "هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين".
(5) في ف ، أ : "فيهدم بيته الذي في النار ، ويبنى بيته الذي في الجنة".
(6) زيادة من أ.
(7) في ف ، أ : "وحده لا شريك له".

(5/464)


وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)

أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل ، بل أبلغ من هذا أيضًا ، وهو ما ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي بُردَةَ (1) ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال ، فيغفرها الله لهم ، ويضَعُها على اليهود والنصارى" (2).
وفي لفظ له : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كان يوم القيامة دَفَعَ الله لكل مسلم يهوديًّا أو نصرانيًّا ، فيقال (3) : هذا فَكَاكُكَ من النار". فاستحلف عُمر بن عبد العزيز أبا بُردَةَ بالله الذي لا إله إلا هو ، ثلاث مرات ، أن أباه حَدَّثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فحلف له (4). قلت : وهذه الآية كقوله تعالى : { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا } [مريم : 63] ، وكقوله : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الزخرف : 73]. وقد قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر : الجنة بالرومية هي الفردوس.
وقال بعض السلف : لا يسمى البستان فردوسًا إلا إذا كان فيه عنب ، فالله أعلم (5).
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) }.
يقول تعالى مخبرًا عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين ، وهو آدم ، عليه السلام ، خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون.
وقال الأعمش ، عن المِنْهال بن عمرو ، عن أبي يحيى ، عن ابن عباس : { مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } قال : صَفوةُ الماء.
وقال مجاهد : { مِنْ سُلالَةٍ } أي : من منيّ آدم.
قال ابن جرير : وإنما سمي آدم طينًا لأنه مخلوق منه.
وقال قتادة : استُلّ آدمُ من الطين. وهذا أظهر في المعنى ، وأقرب إلى السياق ، فإن آدم ، عليه السلام ، خلق من طين لازب ، وهو الصلصال من الحمأ المسنون ، وذلك مخلوق من التراب ، كما قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } [الروم : 20].
__________
(1) في ف ، أ : "بردة بن أبي موسى".
(2) صحيح مسلم برقم (2767).
(3) في ف ، أ : "فيقول".
(4) صحيح مسلم برقم (2767).
(5) في ف ، أ : "والله أعلم.

(5/465)


وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عَوْف ، حدثنا قَسَامة بن زُهَيْر ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قَدْر الأرض ، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض ، وبين ذلك ، والخبيث والطيب ، وبين ذلك".
وقد رواه أبو داود والترمذي ، من طرق ، عن عوف الأعرابي ، به نحوه (1). وقال الترمذي : حسن صحيح.
{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً } : هذا الضمير عائد على جنس الإنسان ، كما قال في الآية الأخرى : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } [السجدة : 7 ، 8] أي : ضعيف ، كما قال : { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } (2) ، يعني : الرحمُ مُعَد لذلك مهيأ له ، { إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } [المرسلات : 22 ، 23] ، أي : [إلى] (3) مدة معلومة وأجل معين حتى استحكم وتنَقَّل من حال إلى حال ، وصفة إلى صفة ؛ ولهذا قال هاهنا : { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً } أي : ثم صَيَّرنا النطفة ، وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل - وهو ظهره - وترائب المرأة - وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى الثندوة - فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة. قال عكرمة : وهي دم.
{ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً } : وهي قطعة كالبَضعة من اللحم ، لا شكل فيها ولا تخطيط ، { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } يعني : شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها.
وقرأ آخرون : { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا (4) }.
قال ابن عباس : وهو عظم الصلب.
وفي الصحيح ، من حديث أبي الزِّنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل جسد ابن آدم يبلى إلا عَجْبُ الذَّنَب ، منه خلق ومنه (5) يركب" (6).
{ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } أي : وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه ، { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } أي : ثم نفخنا فيه الروح ، فتحرك وصار { خَلْقًا آخَرَ } ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا جعفر بن مُسافر ، حدثنا يحيى بن حسان ، حدثنا النضر - يعني : ابن كثير ، مولى بني هاشم - حدثنا زيد بن علي ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : إذا أتمت النطفة أربعة أشهر ، بُعِث إليها مَلك فنفخ فيها الروح في
__________
(1) المسند (4/400) وسنن أبي داود برقم (4693) وسنن الترمذي برقم (2955).
(2) في أ : "فجعلناه نطفة" وهو خطأ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "النطفة عظاما".
(5) في أ : "وفيه".
(6) صحيح البخاري برقم (4935) وصحيح مسلم برقم (2955) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5/466)


الظلمات الثلاث ، فذلك قوله : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني : نفخنا فيه الروح (1).
ورُوي عن أبي سعيد الخدري أنه نَفْخُ الروح.
قال ابن عباس : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني به : الروح (2). وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، والحسن ، وأبو العالية ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي ، وابنُ زيد ، واختاره ابنُ جرير (3).
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس : { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني : ننقله من حال إلى حال ، إلى أن خرج طفلا ثم نشأ صغيرًا ، ثم احتلم ، ثم صار شابًّا ، ثم كهلا ثم شيخًا ، ثم هرما.
وعن قتادة ، والضحاك نحو ذلك. ولا منافاة ، فإنه من ابتداء (4) نفخ الروح [فيه] (5) شَرَع في هذه التنقلات والأحوال. والله أعلم.
قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الصادق المصدوق : "إن أحدكم ليُجمع خَلقُه في بطن أمه أربعين يومًا ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وهل هو شقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن الرجل (6) ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها".
أخرجاه من حديث سليمانَ بن مِهْرَان الأعمش (7).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن خَيْثَمَة قال : قال عبد الله (8) - يعني : ابن مسعود - إن النطفة إذا وقعت في الرحم ، طارت في كل شعر وظفر ، فتمكث أربعين يوما ، ثم تتحدّر (9) في الرحم فتكون علقة.
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا حسين بن الحسن ، حدثنا أبو كُدَيْنة ، عن عطاء بن السائب ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله قال : مَرَّ يهوديّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه ، فقالت قريش : يا يهودي ، إن هذا يَزعمُ أنه نبي. فقال : لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي. قال : فجاءه حتى جلس ، فقال : يا محمد ، مِمَّ يخلق الإنسان ؟ فقال : "يا يهودي ، من كلٍّ
__________
(1) في ف : "يعني به الروح".
(2) في ف : "يعني نفخنا فيه الروح".
(3) تفسير الطبري (8 - 81).
(4) في ف : "ابتدأ".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "أحدكم".
(7) المسند (1/382) وصحيح البخاري برقم (6594) وصحيح مسلم برقم (2643).
(8) في ف : "عن خيثمة عن عبد الله قال : قال".
(9) في ف ، أ : "تنحدر".

(5/467)


يُخْلَقُ ، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة ، فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعَصَب ، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم" فقام اليهودي فقال : هكذا كان يقول من قبلك. (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان عن عمرو ، عن أبي الطُّفَيْل ، حُذَيْفَة بن أُسَيْد الغفاري قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يدخل المَلك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة ، فيقول : يا رب ، ماذا ؟ أشقي أم سعيد ؟ أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله ، فيكتبان (2). فيقولان : ماذا ؟ أذكر أم أنثى ؟ فيقول الله عز وجل ، فيكتبان ويُكْتَبُ عمله ، وأثره ، ومصيبته ، ورزقه ، ثم تطوى الصحيفة ، فلا يُزاد على ما فيها ولا ينقص".
وقد رواه مسلم في صحيحه ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو - وهو ابن دينار - به (3) نحوه. ومن طُرَق أخرَى ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة (4) الغفاري بنحوه ، والله أعلم (5).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله وكّل بالرحم مَلكًا فيقول : أي رب ، نطفة. أيْ رب ، علقة (6) أي رب ، مضغة. فإذا أراد الله خلقها قال : يا رب ، ذكر أو أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق والأجل ؟" قال : "فذلك يكتب في بطن أمه".
أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به (7).
وقوله : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } يعني : حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال ، وشكل إلى شكل ، حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السَّوِيّ الكامل الخلق ، قال : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا علي بن زيد ، عن أنس ، قال : قال عمر - يعني : ابن الخطاب رضي الله عنه - : وافقت ربي ووافقني في أربع : نزلت هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } الآية ، قلت (8) أنا : فتبارك الله أحسن الخالقين. فنزلت : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
__________
(1) المسند (1/465).
(2) في ف : "ويكتبان".
(3) المسند (4/6) وصحيح مسلم برقم (2644).
(4) في أ : "سريح".
(5) صحيح مسلم برقم (2645).
(6) في ف : "فحلقه".
(7) صحيح البخاري برقم (318) وصحيح مسلم برقم (2646).
(8) في ف ، أ : "الآية ، فلما نزلت قلت".

(5/468)


وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)

وقال أيضًا : حدثنا أبي ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شَيْبَان ، عن جابر الجُعْفِي ، عن عامر الشعبي ، عن زيد بن ثابت الأنصاري قال : أملى عليَّ رسولُ الله هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } إلى قوله : { خَلْقًا آخَرَ } ، فقال معاذ : { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له معاذ : مم ضحكت يا رسول الله ؟ قال : "بها ختمت { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (1).
جابر بن يزيد الجُعْفِي ضعيف جدًّا ، وفي خبره هذا نَكَارة شَديدة ، وذلك أن هذه السورة مكية ، وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة ، وكذلك (2) إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة أيضًا ، فالله أعلم (3).
وقوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ } يعني : بعد هذه النشأة الأولى من العدم تَصيرون إلى الموت ، { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } يعني : النشأة الآخرة ، { ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ } [العنكبوت : 20] يعني : يوم المعاد ، وقيام الأرواح والأجساد ، فيحاسب الخلائق ، ويوفي كل عامل عمله ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) }.
لما ذكر تعالى خَلْق الإنسان ، عطف بذكر خلق السموات السبع ، وكثيرًا ما يذكر تعالى خلق السموات والأرض (4) مع خلق الإنسان ، كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [غافر : 57]. وهكذا في أول { الم } السجدة ، التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها [في] (5) صبيحة يوم الجمعة ، في أولها خَلْقُ السموات والأرض ، ثم بيان خلق الإنسان من سلالة من طين ، وفيها أمر المعاد والجزاء ، وغير ذلك من المقاصد.
فقوله : { سَبْعَ طَرَائِقَ } : قال مجاهد : يعني السموات السبع ، وهذه كقوله تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } [الإسراء : 44] ، { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } [نوح : 15] ، { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق : 12]. وهكذا قال هاهنا : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } أي : ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ،
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3367) "مجمع البحرين" عن أبي زرعة عن آدم بن إياس به وجابر الجعفي ضعيف.
(2) في ف ، أ : "وكذا".
(3) في ف ، أ : "والله أعلم".
(4) في أ : "السبع".
(5) زيادة من ف ، أ.

(5/469)


وما ينزل من السماء وما يعرُج فيها ، وهو معكم أينما كنتم ، والله بما تعملون بصير. وهو - سبحانه - لا يَحجبُ عنه سماء سماء ، ولا أرض أرضًا ، ولا جبل إلا يعلم ما في وَعْره ، ولا بحر إلا يعلم ما في قَعْره ، يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال ، والبحار والقفار والأشجار ، { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام : 59].

(5/470)


وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآَكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)

{ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) }.
يذكر تعالى نعمه على عبيده (1) التي لا تعدّ ولا تحصى ، في إنزاله القَطْر من السماء { بِقَدَرٍ } أي : بحسب الحاجة ، لا كثيرًا فيفسد الأرض والعمران ، ولا قليلا فلا يكفي الزروع والثمار ، بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به ، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيرًا لزرعها ولا تحتمل دِمْنتها إنزال المطر عليها ، يسوق إليها الماء من بلاد أخرى ، كما في أرض مصر ، ويقال لها : "الأرض الجرُز" ، يسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها ، فيأتي الماء يحمل طينًا (2) أحمر ، فيسقي أرض مصر ، ويقر الطين على أرضهم ليزدرعوا فيه ، لأن أرضهم سباخ يغلب عليها الرمال ، فسبحان اللطيف الخبير الرحيم الغفور.
وقوله : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ } أي : جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض ، وجعلنا (3) في الأرض قابليَّة له ، تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى.
وقوله : { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } أي : لو شئنا ألا تمطر لفعلنا ، ولو شئنا لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري [والبحار] (4) والقفار لفعلنا ، ولو شئنا لجعلناه أجاجًا لا ينتفع به لشُرب ولا لسقي لفعلنا ، ولو شئنا لجعلناه لا ينزل في الأرض ، بل ينجَرّ على وجهها لفعلنا. ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فيها يغور إلى مَدَى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا. ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم الماء من السحاب عذبًا فراتًا زلالا فيسكنه في الأرض ويَسْلُكُه ينابيع في الأرض ، فيفتح (5) العيون والأنهار ، فيسقي (6) به الزروع والثمار ، وتشربون منه ودوابكم وأنعامكم ، وتغتسلون (7) منه وتتطهرون
__________
(1) في ف ، أ : "عبده".
(2) في ف : "الطين".
(3) في ف ، أ : "وجعل".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف : "فيفجر".
(6) في ف ، أ : "ويسقي".
(7) في ف : "ويغتسلون وتغتسلون".

(5/470)


وتتنظفون ، فله الحمد والمنة.
وقوله : { فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } يعني : فأخرجنا لكم بما أنزلنا من الماء { جَنَّاتٍ } أي : بساتين وحدائق ذات بهجة ، أي : ذات منظر حسن.
وقوله : { مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } أي : فيها نخيل وأعناب. وهذا ما كان يألف أهل الحجاز ، ولا فرق بين الشيء وبين نظيره ، وكذلك في حق كل أهل إقليم ، عندهم من الثمار من نعمة الله عليهم ما يَعْجِزُون عن القيام بشكره.
وقوله : { لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ } أي : من جميع الثمار ، كما قال : { يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } [النحل : 11].
وقوله : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } كأنه معطوف على شيء مقدر ، تقديره : تنظرون إلى حسنه ونضجه ، ومنه تأكلون.
وقوله : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ } يعني : الزيتونة. والطور : هو الجبل. وقال بعضهم : إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر ، فإن عَرى عنها سمي جَبَلا لا طورًا ، والله أعلم. وطور سيناء : هو طور سينين ، وهو الجبل الذي كَلَّم [الله] (1) عليه موسى بن عمران ، عليه السلام ، وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون.
وقوله : { تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } : قال بعضهم : الباء زائدة ، وتقديره : تنبت الدهن ، كما في قول العرب : ألقى فلان بيده ، أي : يده. وأما على قول من يُضَمِّن الفعل فتقديره : تخرج بالدهن ، أو (2) تأتي بالدهن ؛ ولهذا قال : { وَصِبْغٍ } أي : أدْم ، قاله قتادة. { لِلآكِلِينَ } أي : فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عطاء الشامي ، عن أبي أسَيْد - واسمه مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كلوا الزيت وادهنوا به (3) ؛ فإنه من شجرة مباركة" (4).
وقال عبد بن حُمَيد في مسنده وتفسيره : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ائتدموا بالزيت وادهنوا به ، فإنه يخرج من شجرة مباركة".
ورواه الترمذي وابن ماجه من غير وجه ، عن عبد الرزاق (5). قال الترمذي : ولا يعرف إلا من
__________
(1) زيادة من ف ، وفي أ : "والله تعالى".
(2) في ف ، أ : "أي".
(3) في أ : "بالزيت".
(4) المسند (3/497).
(5) المنتخب لعبد بن حميد برقم (13) وسنن الترمذي برقم (1851) وسنن ابن ماجه برقم (3319).

(5/471)


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)

حديثه ، وكان يضطرب فيه ، فربما ذكر فيه عمر (1) وربما لم يذكره.
قال (2) أبو القاسم الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثني الصَّعْب بن حكيم بن شريك بن نملة ، عن أبيه عن جده ، قال : ضِفْت عمرَ بن الخطاب ليلة عاشوراء (3) ، فأطعمني (4) من رأس بعير بارد ، وأطعمنا زيتًا ، وقال : هذا الزيت المبارك الذي قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم (5).
وقوله : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } : يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع ، وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرْث ودم ، ويأكلون من حملانها ، ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، ويركبون ظهورها ويحملونها (6) الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم ، كما قال تعالى : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [النحل : 7] ، وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ. وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ } [يس : 71 - 73].
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) }.
يخبر تعالى عن نوح ، عليه السلام ، حين بعثه (7) إلى قومه ، لينذرهم عذاب الله وبأسه الشديد ، وانتقامه ممن أشرك به وخالف أمره وكذب رسله ، { فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ } أي : ألا تخافون من الله في إشراككم به ؟!
فقال الملأ - وهم السادة والأكابر منهم - : { مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } يعنون : يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى (8) النبوة ، وهو بشر مثلكم. فكيف أوحي إليه دونكم ؟ { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزلَ مَلائِكَةً } أي : لو أراد أن يبعث نبيًّا ، لبعث مَلَكًا من عنده ولم يكن بشرًا! { مَا سَمِعْنَا بِهَذَا } أي : ببعثة البشر في آبائنا الأولين. يعنون (9) بهذا أسلافهم وأجدادهم والأمم (10) الماضية.
__________
(1) في أ : "عمرو".
(2) في ف ، أ : "وقال".
(3) في ف : "ضفت ليلة عمر بن الخطاب".
(4) في ف : فأطعمني "عودا". وفي أ : "عسورا".
(5) المعجم الكبير (1/74) والصعب بن حكيم لا يعرف كما قال الذهبي.
(6) في ف : "ويحملون".
(7) في ف ، أ : "بعثه الله".
(8) في ف ، أ : "بدعوة".
(9) في ف : "يعني".
(10) في ف ، أ : "الدهور".

(5/472)


قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)

وقوله : { إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } أي : مجنون فيما يزعمه ، من أن الله أرسله إليكم ، واختصه من بينكم بالوحي { فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ } أي : انتظروا به ريب المنون ، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه.
{ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) }

(5/473)


فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)

{ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) }.
يقول تعالى مخبرًا عن نوح ، عليه السلام ، أنه دعا ربه يستنصره على قومه ، كما قال تعالى مخبرا [عنه] (1) في الآية الأخرى : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [القمر : 10] ، وقال هاهنا : { [قَالَ] (2) رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها ، وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين ، أي : ذكرًا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار ، وغير ذلك ، وأن يحمل فيها أهله { إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } أي : سبق فيه القول من الله بالهلاك ، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله ، كابنه وزوجته ، والله أعلم.
وقوله : { وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } أي : عند معاينة إنزال المطر العظيم ، لا تأخذنك رأفة بقومك ، وشفقة عليهم ، وطَمَع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون ، فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان. وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة "هود" (3) بما يغني عن إعادة ذلك هاهنا.
وقوله : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ، كَمَا قَالَ : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } [الزخرف : 12 - 14]. وقد امتثل نوح ، عليه السلام ، هذا ،، كما قال تعالى : { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } [هود : 41]. فذَكَر اللهَ تعالى عند ابتداء سيره وعند انتهائه ، وقال تعالى : { وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزلِينَ }.
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } أي : إن في هذا الصنيع - وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين -
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من أ.
(3) انظر تفسير الآيات : 25 - 48.

(5/473)


ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)

{ لآيَاتٍ } أي : لحججًا (1) ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن الله تعالى ، وأنه تعالى فاعل لما يشاء ، وقادر على كل شيء ، عليم بكل شيء.
وقوله : { وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } أي : لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين.
{ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) }.
يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرنًا آخرين (2) - قيل : المراد بهم عاد ، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم. وقيل : المراد بهؤلاء ثمود ؛ لقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ } - وأنه تعالى أرسل فيهم رسولا منهم ، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له. فكذبوه وخالفوه ، وأبوا من اتباعه لكونه بشرًا مثلهم ، واستنكفوا عن اتباع رسول بشري ، فكذبوا بلقاء الله في القيامة ، وأنكروا المعاد الجثماني ، وقالوا { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ. هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } أي : بعيد بعيد ذلك.
{ إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } أي : فيما جاءكم (3) به من الرسالة والنذارة والإخبار بالمعاد. { وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ. قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } أي : استفتح عليهم الرسول واستنصَرَ ربَّه عليهم ، فأجاب دعاءه ، { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } أي : بمخالفتك وعنادك فيما جئتهم به ،
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ } أي : وكانوا يستحقون ذلك من الله لكفرهم وطغيانهم.
والظاهر أنه اجتمع عليهم صيحة مع الريح الصَّرْصر العاصف القويّ الباردة ، { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى (4) إِلا مَسَاكِنُهُمْ } [الأحقاف : 25].
وقوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً } أي : صرعى هَلْكى كغثاء السيل ، وهو الشيء الحقير التافه الهالك الذي
__________
(1) في ف ، أ : "لحجج".
(2) في ف ، أ : "آخر".
(3) في ف ، أ "جاء".
(4) في ف ، أ : "ترى".

(5/474)


ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ (42)

لا ينتفع بشيء منه. { فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ، كقوله (1) : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [الزخرف : 76] أي : بكفرهم وعنادهم ومخالفة رسول الله ، فليحذر السامعون أن يكذبوا رسولهم.
{ ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) }
__________
(1) في ف : "كقولهم".

(5/475)


مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)

{ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) }.
يقول تعالى : { ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ } أي : أمما وخلائق ، { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } يعني (1) : بل يُؤْخَذون (2) حَسَب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ وعلمه قبل كونهم ، أمة بعد أمة ، وقرنا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل ، وخَلفًا بعد سلف.
{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } : قال ابن عباس : يعني يتبع بعضهم بعضًا. وهذه كقوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } [النحل : 36] ، وقوله : { كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ } يعني : جمهورهم وأكثرهم ، كقوله تعالى : { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [يس : 30].
وقوله : { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا } أي : أهلكناهم ، كقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ } [الإسراء : 17].
{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي : أخبارًا وأحاديث للناس ، كقوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [الآية] (3) [سبأ : 19] [ { فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } ] (4).
{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) }.
يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى ، عليه السلام ، وأخاه هارون إلى فرعون وملئه ، بالآيات والحجج الدامغات ، والبراهين القاطعات ، وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما ، والانقياد لأمرهما ، لكونهما بَشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر ، تشابهت قلوبهم ، فأهلك الله فرعون وملأه ، وأغرقهم في يوم واحد أجمعين ، وأنزل على موسى الكتاب - وهو التوراة - فيها أحكامه وأوامره ونواهيه ، وذلك بعد ما قصم الله فرعون والقبط ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ؛ وبعد أن
__________
(1) في ف ، أ : "بل".
(2) في ف ، أ : "يوجدون".
(3) زيادة من ف. وفي هـ : (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).
(4) زيادة من ف.

(5/475)


وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)

أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة ، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص : 43].
ثم قال تعالى :
{ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) }.
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، عليهما السلام ، أنه جعلهما آية للناس : أي حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء ، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى.
وقوله : { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : الربوة : المكان المرتفع من الأرض ، وهو أحسن ما يكون فيه النبات. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وقتادة.
قال ابن عباس : وقوله : { ذَاتِ قَرَارٍ } يقول : ذات خصب { وَمَعِينٍ } يعني : ماء ظاهرًا (1).
وقال مجاهد : ربوة مستوية.
وقال سعيد بن جبير : { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } : استوى الماء فيها. وقال مجاهد ، وقتادة : { وَمَعِينٍ } : الماء الجاري.
ثم اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة في أيّ أرض [الله] (2) هي ؟ فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ليس الربى إلا بمصر. والماء حين يرسل (3) يكون الربى عليها القرى ، ولولا الربى غرقت القرى.
وروي عن وهب بن مُنَبِّه نحو هذا ، وهو بعيد جدًّا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا سفيان ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى : { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } ، قال : هي دمشق (4).
قال : ورُوي عن عبد الله بن سلام ، والحسن ، وزيد بن أسلم ، وخالد بن مَعْدان نحو ذلك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكِيع ، عن إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس : { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } قال : أنهار دمشق.
__________
(1) في ف : "طاهرا".
(2) زيادة من ف.
(3) في ف : "يسيل".
(4) في أ : "الدمشق".

(5/476)


يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)

وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ [ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ] (1) } ، قال : عيسى ابن مريم وأمه ، حين أويا إلى غوطة دمشق وما حولها.
وقال عبد الرزاق ، عن بشر بن رافع ، عن أبي عبد الله ابن عم أبي هريرة ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : في قوله (2) : { : إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } قال : هي الرملة من فلسطين.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفرْيابي ، حدثنا رَوّاد (3) بن الجراح ، حدثنا عباد بن عباد الخواص أبو عتبة ، حدثنا السيباني (4) ، عن ابن (5) وَعْلَة ، عن كُرَيْب السَّحولي ، عن مُرَّة البَهْزِي قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لرجل : "إنك ميت (6) بالربوة" فمات بالرملة. (7) وهذا حديث غريب جدًّا.
وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العَوْفِيّ ، عن ابن عباس في قوله : { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } ، قال : المعين الماء الجاري ، وهو النهر الذي قال الله تعالى : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } [مريم : 24].
وكذا قال الضحاك ، وقتادة : { إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } : هو بيت المقدس. فهذا والله أعلم هو الأظهر ؛ لأنه المذكور في الآية الأخرى. والقرآن يفسر بعضه بعضا. وهو أولى ما يفسر به ، ثم الأحاديث الصحيحة ، ثم الآثار.
{ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ (56) }.
يأمر تعالى عباده المرسلين ، عليهم الصلاة والسلام أجمعين ، بالأكل من الحلال ، والقيام بالصالح من الأعمال ، فدل هذا على أن الحلال عَون على العمل الصالح ، فقام الأنبياء ، عليهم السلام ، بهذا أتم القيام. وجمعوا بين كل خير ، قولا وعملا ودلالة ونصحًا ، فجزاهم الله عن العباد خيرًا.
قال الحسن البصري في قوله : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ } قال : أما والله ما أُمِرُوا بأصفركم ولا أحمركم ، ولا حلوكم ولا حامضكم ، ولكن قال : انتهوا إلى الحلال منه.
وقال سعيد بن جبير ، والضحاك : { كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ } يعني : الحلال.
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ف : "في قول الله".
(3) في ف : "داود".
(4) في ف ، أ : "الشيباني" وهو الصحيح.
(5) في ف ، أ : "أبي" وهو الصحيح.
(6) في ف ، أ : "تموت".
(7) فيه عباد بن عباد له مناكير.

(5/477)


وقال أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن أبي مَيْسَرَةَ بن شُرَحْبِيل : كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه.
وفي الصحيح : "ما من نبي إلا رعى الغنم". قالوا : وأنت يا رسول الله ؟ قال : "نعم ، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة" (1).
وفي الصحيح : أن داود ، عليه السلام ، كان يأكل من كسب يده (2).
وفي الصحيحين : "إن أحب الصيام إلى الله صيام داود ، وأحب القيام إلى الله قيام داود ، كان (3) ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه وينام سُدسَه ، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا ، ولا يَفر إذا لاقى" (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم ، عن ضَمْرَة بن حبيب ، أن أم عبد الله ، أخت (5) شداد بن (6) أوس بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم ، وذلك في أول النهار وشدة الحر ، فرد إليها رسولها : أنَّى كانت لك الشاة ؟ فقالت : اشتريتها من مالي ، فشرب منه ، فلما كان الغد أتته أم عبد الله أخت (7) شداد فقالت : يا رسول الله (8) ، بعثتُ إليك بلبن مَرثيةً (9) لك من طول النهار وشدة الحر ، فرددت إليَّ الرسول فيه ؟. فقال لها : "بذلك أمرت الرسل ، ألا تأكل إلا طيبا ، ولا تعمل إلا صالحا" (10).
وقد ثبت في صحيح مسلم ، وجامع الترمذي ، ومسند الإمام أحمد - واللفظ له - من حديث فُضَيْل بن مرزوق ، عن عَدِيّ بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أيها الناس ، إنَّ الله طَيِّبٌ لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }. وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة : 172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذِّي بالحرام ، يمد يديه إلى السماء : يا رب ، يا رب ، فأنَّى يستجاب لذلك" (11).
وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث فُضيل بن مرزوق.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2262) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) صحيح البخاري برقم (2073) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) في ف : "وكان".
(4) صحيح البخاري برقم (1131) وصحيح مسلم برقم (1159) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(5) في أ : "بنت".
(6) في ف : "بنت".
(7) في ف ، أ : "بنت".
(8) في ف : "يا رسول الله صلى الله عليك" ، وفي أ : "يا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(9) في ف : "مرئته".
(10) ورواه الحاكم في المستدرك (4/125) من طريق المعافي بن عمران عن أبي بكر بن أبي مريم به نحوه ، وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي : "قلت : وابن أبي مريم واه".
(11) صحيح مسلم برقم (1015) وسنن الترمذي برقم (2989) والمسند (6/159).

(5/478)


وقوله : { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي (1) : دينكم - يا معشر الأنبياء - دين واحد ، وملة واحدة ، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له ؛ ولهذا قال : { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } ، وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة "الأنبياء" ، وأن قوله : { أُمَّةً وَاحِدَةً } منصوب على الحال.
وقوله : { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا } أي : الأمم الذين بُعث إليهم الأنبياء ، { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } أي : يفرحون بما هم فيه من الضلال ؛ لأنهم يحسبون أنهم مهتدون ؛ ولهذا قال متهددًا لهم ومتواعدًا : { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ } أي : في غيهم وضلالهم { حَتَّى حِينٍ } أي : إلى حين حينهم وهلاكهم ، كما قال تعالى : { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } [الطارق : 17] ، وقال تعالى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [الحجر : 3].
وقوله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } يعني : أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا ؟! كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم : { نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [سبأ : 35] ، لقد أخطؤوا في ذلك وخاب رجاؤهم ، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجًا وإنظارًا وإملاء ؛ ولهذا قال : { بَل لا يَشْعُرُونَ } ، كما قال تعالى : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [التوبة : 55] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } [آل عمران : 178] ، وقال تعالى : { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [القلم : 44 ، 45] ، وقال : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا } [المدثر : 11 - 16] وقال تعالى : { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ : 37] والآيات في هذا كثيرة.
قال (2) قتادة في قوله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } قال : مُكِرَ والله بالقوم في أموالهم وأولادهم ، يا ابن آدم ، فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم ، ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد [بن عُبَيْد ، حدثنا أبان بن إسحاق ، عن الصباح بن محمد ، عن مرة الهمداني ، حدثنا عبد الله] (3) بن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله قَسَم بينكم أخلاقكم ، كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يُعطي الدنيا من يُحِبّ ومن لا يحب ، ولا يعطي الدِّين إلا لمن أحب ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده ، لا يسلم (4) عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه - قالوا : وما بوائقه يا نبي الله ؟ قال : غشمه وظلمه -
__________
(1) في ف ، أ : "وإن".
(2) في أ : "وقال".
(3) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(4) في ف : "يؤمن".

(5/479)


إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)

ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتصدق به فيقبل (1) منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" (2).
{ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) }
__________
(1) في ف : "منه ليتقبل" وفي أ : "فيتقبل".
(2) المسند (1/387).

(5/480)


وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)

{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) }.
يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } أي : هم مع (1) إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح ، مشفقون من الله خائفون منه ، وجلون من مكره بهم ، كما قال الحسن البصري : إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة ، وإن المنافق جمع إساءة وأمنًا.
{ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } أي : يؤمنون بآياته الكونية والشرعية ، كقوله تعالى إخبارًا عن مريم ، عليها السلام : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } [التحريم : 12] ، أي : أيقنت أن ما كان فإنما هو عن قدر الله وقضائه ، وما شرعه الله فهو إن كان أمرًا فمما يحبه ويرضاه ، وإن كان نهيًا (2) فهو مما يكرهه ويأباه ، وإن كان خيرًا فهو حق ، كما قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ } أي : لا يعبدون معه غيره ، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحدًا صمدًا ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا ، وأنه لا نظير له ولا كفء له.
وقوله : { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } أي : يعطون العطاء (3) وهم خائفون (4) ألا يتقبل منهم ، لخوفهم (5) أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء. وهذا من باب الإشفاق والاحتياط ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا مالك بن مِغْوَل ، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن وهب ، عن عائشة ؛ أنها قالت : يا رسول الله ، { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } ، هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال : "لا يا بنت أبي بكر ، يا بنت الصديق ، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق ، وهو يخاف الله عز وجل".
وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم ، من حديث مالك بن مِغْوَل ، به بنحوه (6). وقال : "لا يا بنت الصديق ، ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ، وهم يخافون ألا يقبل منهم ، { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } قال الترمذي : ورُوي هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سعيد ، عن
__________
(1) في ف : "في" وفي أ : "من".
(2) في ف : "منهيا".
(3) في ف : "العطاء فيه".
(4) في أ : "خائفون وجلون".
(5) في ف : "تخوفهم".
(6) المسند (6/159) وسنن الترمذي برقم (3175).

(5/480)


وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)

أبي حازم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا (1).
وهكذا قال ابن عباس ، ومحمد بن كعب القرظي ، والحسن البصري في تفسير هذه الآية.
وقد قرأ آخرون هذه الآية : "والذين يأتون ما أتوا وقلوبهم وجلة" أي : يفعلون ما يفعلون وهم خائفون ، وروي هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ كذلك.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا صخر بن جُوَيْرِية ، حدثنا إسماعيل المكي ، حدثني أبو خلف مولى بني جُمَح : أنه دخل مع عُبَيد بن عُمَيْر على (2) عائشة ، رضي الله عنها ، فقالت : مرحبًا بأبي عاصم ، ما يمنعك أن تزورنا - أو : تُلِمّ بنا ؟ - فقال : أخشى أن أمُلَّك. فقالت : ما كنت لتفعل ؟ قال : جئت لأسأل (3) عن آية في كتاب الله عز وجل ، كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ؟ قالت : أيَّة آية ؟ فقال : { الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا } أو { الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا } ؟ فقالت : أيتهما (4) أحب إليك ؟ فقلت : والذي نفسي بيده ، لإحداهما أحب إلي من الدنيا جميعًا (5) - أو : الدنيا وما فيها - قالت : وما هي ؟ فقلت : { الَّذِينَ يَأْتُونَ مَا أَتَوْا } فقالت : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها ، وكذلك أنزلت ، ولكن الهجاء حرف (6).
إسماعيل بن مسلم المكي ، وهو ضعيف.
والمعنى على القراءة الأولى - وهي قراءة الجمهور : السبعة وغيرهم - أظهر ؛ لأنه قال : { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } ، فجعلهم من السابقين. ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك ألا يكونوا من السابقين ، بل من المقتصدين أو المقصرين ، والله تعالى أعلم.
{ وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) }.
يقول تعالى مخبرًا عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا : أنه لا يكلف نفسًا إلا وسعها ، أي : إلا ما تطيق حمله والقيام به ، وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء ؛ ولهذا قال : { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ } يعني : كتاب الأعمال ، { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } أي : لا يبخسون من الخير شيئا ، وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3175).
(2) في أ : "إلى".
(3) في ف : "لأسألك".
(4) في أ : "أيتها".
(5) في ف : "جميعها".
(6) المسند (6/95).

(5/481)


ثم قال منكرًا على الكفار والمشركين من قريش : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ } أي : غفلة وضلالة { مِنْ هَذَا } أي : القرآن الذي أنزله [الله تعالى] (1) على رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } : قال الحكم (2) بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ } أي : سيئة من دون ذلك ، يعني : الشرك ، { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } قال : لا بد أن يعملوها. كذا روي عن مجاهد ، والحسن ، وغير واحد.
وقال آخرون : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } أي : قد كتب عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة ، لتحق عليهم كلمة العذاب. ورُوِي نَحو هذا عن مقاتل بن حيَّان والسُّدِّيّ ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهو ظاهر قوي حسن. وقد قدمنا في حديث ابن مسعود : "فوالذي لا إله غيره ، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها".
وقوله : { حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } يعني : حتى إذا جاء مترفيهم - وهم السعداء المنعمون في الدنيا - عذابُ الله وبأسه ونقمته بهم { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } أي : يصرخون ويستغيثون ، كما قال تعالى : { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا. إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا. وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا } [المزمل : 11 - 13] ، وقال تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ص : 3].
وقوله : { لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ } أي : لا نجيركم (3) مما حل بكم ، سواء جأرتم أو سكتُّم ، لا محيد ولا مناص ولا وَزَرَ لزم الأمر ووجب العذاب.
ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ } أي : إذا دعيتم أبيتم ، وإن (4) طُلبتم امتنعتم ؛ { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر : 12].
وقوله : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } : في تفسيره قولان ، أحدهما : أن مستكبرين حال منهم حين نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه ، استكبارًا عليه واحتقارًا له ولأهله ، فعلى هذا الضمير في { بِهِ } فيه ثلاثة أقوال :
أحدهما (5) : أنه الحرم بمكة ، ذموا لأنهم كانوا يسمرون بالهُجْر (6) من الكلام.
والثاني : أنه (7) ضمير القرآن ، كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام : "إنه سحر ، إنه شعر ، إنه كهانة" إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "الحكيم".
(3) في أ : "يجيركم".
(4) في ف ، أ : "وإذا".
(5) في أ : "أحدها".
(6) في أ : "الهجر".
(7) في أ : "هو".

(5/482)


أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)

والثالث : أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة ، ويضربون له الأمثال الباطلة ، من أنه شاعر ، أو كاهن ، أو ساحر ، أو كذاب ، أو مجنون. وكل ذلك باطل ، بل هو عبد الله ورسوله ، الذي أظهره الله عليهم ، وأخرجهم من (1) الحرم صاغرين أذلاء.
وقيل : المراد بقوله : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } أي : بالبيت ، يفتخرون به ويعتقدون أنهم (2) أولياؤه ، وليسوا (3) بهم ، كما قال النسائي في التفسير (4) من سننه :
أخبرنا أحمد بن سليمان ، أخبرنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس أنه قال : إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ } ، فقال : مستكبرين بالبيت ، يقولون : نحن أهله ، { سَامِرًا } قال : يتكبرون [ويسمرون فيه ، ولا] (5) يعمرونه ، ويهجرونه (6).
وقد أطنب ابن أبي حاتم هاهنا بما ذا (7) حاصله.
{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) }
__________
(1) في أ : "إلى".
(2) في أ : "وتعتقدون أنكم".
(3) في ف : "وليسم" وفي أ : "ولستم".
(4) في ف ، أ : "تفسيره".
(5) زيادة من ف.
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (11351).
(7) في أ : "هذا".

(5/483)


وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)

{ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) }.
يقول تعالى منكرًا على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم ، وتدبرهم له وإعراضهم عنه ، مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف ، لا سيما وآباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية ، حيث لم يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير ، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله إليهم بقبولها ، والقيام بشكرها وتفهمها ، والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار ، كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، ورضي عنهم.
وقال قتادة : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ } إذًا والله يجدون (1) في القرآن زاجرًا عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه ، ولكنهم أخذوا بما تشابه ، فهلكوا عند ذلك.
__________
(1) في ف ، أ : "تجدون".

(5/483)


ثم قال منكرا على الكافرين من قريش : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي : أَفَهُمْ (1) لا يعرفون محمدًا وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم ، أفيقدرون (2) على إنكار ذلك والمباهتة فيه ؟ ولهذا قال جعفر بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، للنجاشي ملك الحبشة : أيها الملك ، إن الله بعث إلينا رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته. وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم وكذلك قال أبو سفيان صخر بن حرب لملك الروم هرقل ، حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته ، وكانوا بعد كفارًا لم يسلموا ، ومع هذا ما أمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك.
وقوله : { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقوَّل (3) القرآن ، أي : افتراه من عنده ، أو أن به جنونا لا يدري ما يقول. وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به ، وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القرآن ، فإنه قد أتاهم من كلام الله ما لا يُطاق ولا يُدافع ، وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله ، فما استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين ؛ ولهذا قال : { بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } يحتمل أن تكون هذه جملة حالية ، أي : في حال كراهة (4) أكثرهم للحق ، ويحتمل أن تكون خبرية مستأنفة ، والله أعلم.
وقال قتادة : ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا فقال له : "أسلم" فقال الرجل : إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : "وإن كنت كارها". وذُكِر لنا أنه لقي رجلا فقال له : "أسلم" فَتَصَعَّده (5) ذلك وكبر عليه ، فقال له نبي الله : "أرأيت لو كنتَ في طريق وَعْر وَعْث ، فلقيت رجلا تعرف وجهه ، وتعرف نسبه ، فدعاك إلى طريق واسع سهل ، أكنت متبعه (6) ؟" قال : نعم. فقال : "فوالذي (7) نفس محمد بيده ، إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه ، وإني لأدعوك إلى أسهل من ذلك لو دعيت إليه". وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا فقال له : "أسلم" فَتَصَعَّدَه ذلك ، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم : "أرأيت فتييك ، أحدهما إذا حدثك صدقك ، وإذا (8) ائتمنته أدى إليك أهو أحب إليك ، أم فتاك الذي إذا حدثك كذبك وإذا (9) ائتمنته خانك ؟". قال : بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني ، وإذا ائتمنته أدى إلي. فقال النبي (10) صلى الله عليه وسلم : "كذاكم أنتم عند ربكم".
وقوله : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ (11) وَمَنْ فِيهِنَّ } قال مجاهد ، وأبو صالح والسدي : الحق هو الله عز وجل ، والمراد : لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى ، وشرع الأمور على وفق ذلك { لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ (12) وَمَنْ فِيهِنَّ } أي : لفساد أهوائهم واختلافها ، كما أخبر عنهم في قولهم : { لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } ثم قال : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } [الزخرف : 31 ، 32] وقال تعالى : { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا } [الإسراء : 100] وقال : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } [النساء : 53] ،
__________
(1) في ف : "هم" وفي أ : "أهم".
(2) في ف ، أ : "أفتقدرون".
(3) في أ : "يقول".
(4) في ف : "كراهته".
(5) في ف ، أ : "فصعد".
(6) في ف : "تتبعه".
(7) في ف : "والذي".
(8) في ف : "وإن".
(9) في ف : "وإن".
(10) في ف : "نبي الله".
(11) في ف : "الأرض والسموات".
(12) في ف : "الأرض والسموات".

(5/484)


ففي هذا كله تبيين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم ، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله ، وشرعه وقدره ، وتدبيره لخلقه (1) تعالى وتقدس ، فلا إله غيره ، ولا رب سواه.
ثم قال : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } يعني : القرآن ، { فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ }.
وقوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا } : قال الحسن : أجرا. وقال قتادة : جعلا { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلا ولا شيئا على دعوتك إياهم إلى الهدى ، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه ، كما قال : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ } [سبأ : 47] ، وقال : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } [ص : 86] ، وقال : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } [الشورى : 23] ، وقال تعالى : { وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ } [يس : 20 ، 21].
وقوله : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } قال الإمام أحمد :
حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جُدْعَان ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه - فيما يرى النائم - ملكان ، فقعد أحدهما عند رجليه ، والآخر ععند رأسه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مَثَل هذا ومثل أمته. فقال : إن مَثَلَه ومثل أمته ، كمثل قوم سُفْر انتهوا إلى رأس مَفَازة ، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به ، فبينا (2) هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة ، فقال : أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة ، وحياضا رواء تتبعوني ؟ فقالوا : نعم. قال : فانطلق ، فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء ، فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال ، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني ؟ قالوا (3) : بلى ، قال : فإن بين أيديكم رياضا أعشب من هذه ، وحياضا هي أروى من هذه ، فاتبعوني. قال : فقالت طائفة : صدق والله ، لنتبعه. وقالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عليه (4).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا زهير ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري ، حدثنا حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني ممسك بحجزكم : هَلُمَّ عن النار ، هلم عن النار ، وتغلبوني وتقاحمون فيها تَقَاحُم الفراش والجنادب ، فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فَرَطكم على الحوض ، فتردون علي معا وأشتاتا ، أعرفكم بسيماكم وأسمائكم ، كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله ، فيُذْهَب بكم ذات اليمين وذات الشمال ، فأناشد فيكم رب العالمين : أي رب ، قومي ، أي رب أمتي.
__________
(1) في ف : "بخلقه".
(2) في أ : "فبينما".
(3) في أ : "فقالوا".
(4) المسند (1/267).

(5/485)


فيقال : يا محمد ، إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم ، فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ، ينادي : يا محمد ، يا محمد. فأقول : لا أملك لك شيئا. قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رُغَاء ، ينادي : يا محمد ، يا محمد. فأقول : لا أملك (1) شيئا ، قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة ، فينادي : يا محمد ، يا محمد ، فأقول : لا أملك لك شيئا ، قد بلغت ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ، ينادي : يا محمد ، يا محمد : فأقول : لا أملك لك شيئا قد بلغت" (2).
وقال علي بن المديني : هذا حديث حسن الإسناد ، إلا أن حفص بن حميد مجهول ، لا أعلم روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي.
قلت : بل قد روى عنه أيضا أشعث بن إسحاق ، وقال فيه يحيى بن معين : صالح. ووثقه النسائي وابن حبان.
وقوله : { وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } أي : لعادلون جائرون منحرفون. تقول العرب : نكب فلان عن الطريق : إذا زاغ عنها.
وقوله : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } : يخبر تعالى عن غلظهم (3) في كفرهم بأنه لو أراح عللهم وأفهمهم القرآن ، لما انقادوا له ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم ، كما قال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [الأنفال : 23] ، وقال : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } [الأنعام : 27 - 29] ، فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون ، لو كان كيف يكون (4).
[و] (5) قال الضحاك ، عن ابن عباس : كل ما فيه "لو" ، فهو مما لا يكون أبدا.
__________
(1) في ف ، أ : "لا أملك لك".
(2) ورواه البزار في مسنده برقم (900) وابن عبد البر في التمهيد (2/300) من طريق مالك بن إسماعيل عن يعقوب بن عبد الله الأشعري به نحوه. وقال الهيثمي في المجمع (3/85) : "رواه أبو يعلى في الكبير والبزار إلا أنه قال : يحمل قشعا مكان سقاء. ورجال الجميع ثقات".
(3) في أ : "غلطهم".
(4) في ف ، أ : "ولو كان كيف كان يكون".
(5) زيادة في ف ، أ.

(5/486)


وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)

{ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (83) }.
يقول تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ } أي : ابتليناهم بالمصائب والشدائد ، { فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } أي : فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة ، بل استمروا على ضلالهم وغيهم. { فَمَا اسْتَكَانُوا } أي : ما خشعوا ، { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } أي : ما دعوا ، كما قال تعالى : { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام : 43].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن حمزة المروزي ، حدثنا علي ابن الحسين ، حدثنا أبي ، عن يزيد - يعني : النحوي - عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه قال : جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أنشدك الله والرحم ، فقد أكلنا العلهز - يعني : الوبر والدم - فأنزل الله : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ }
وهكذا رواه النسائي عن محمد بن عقيل ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، به (1). وأصل هذا الحديث في الصحيحين : أن (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال : "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا سلمة بن شَبِيب ، حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كَيْسان ، عن (4) وهب بن عمر بن كيسان قال : حُبِس وهب بن مُنَبِّه ، فقال له رجل من الأبناء : ألا أنشدك بيتا من شعر يا أبا عبد الله ؟ فقال وهب : نحن في طرف من عذاب الله ، والله تعالى يقول : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } قال : وصام وهب ثلاثا متواصلة ، فقيل له : ما هذا الصوم يا أبا عبد الله ؟ قال : أَحَدَث لنا فأحدثنا. يعني : أحدث لنا الحبس ، فأحدثنا زيادة عبادة.
وقوله : { حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي : حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة وأخذهم من عقاب الله ما لم يكونوا يحتسبون ، فعند ذلك أبْلَسُوا (5) من كل خير ، وأيسوا من كل راحة ، وانقطعت آمالهم ورجاؤهم.
ثم ذكر تعالى نعمته على عباده في أن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ، وهي العقول والفهوم ، التي يدركون (6) بها الأشياء ، ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى ، وأنه الفاعل المختار لما يشاء.
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11352).
(2) في ف ، أ : "عن".
(3) صحيح البخاري برقم (4693) وصحيح مسلم برقم (2798) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(4) في ف ، أ : "حدثني".
(5) في أ : "أيسوا".
(6) في ف : "تدركون"

(5/487)


قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)

وقوله : { قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ } أي : وما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم ، كقوله : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف : 103].
ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر ، في بَرْئة الخليقة وذرئه لهم في سائر أقطار الأرض ، على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم ، ثم يوم القيامة يجمع الأولين منهم والآخرين لميقات يوم معلوم ، فلا يترك منهم صغيرا ولا كبيرا ، ولا ذكرا ولا أنثى ، ولا جليلا ولا حقيرا ، إلا أعاده كما بدأه ؛ ولهذا قال : { وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : يحيي الرمم ويميت الأمم ، { وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : وعن أمره تسخير الليل والنهار ، كل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا ، يتعاقبان لا يفتران ، ولا يفترقان بزمان غيرهما ، كقوله تعالى : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس : 40].
وقوله : { أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي : أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم ، الذي قد قهر كل شيء ، وعز كل شيء ، وخضع له كل شيء.
ثم قال مخبرا عن منكري البعث ، الذين أشبهوا من قبلهم من المكذبين : { بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ. قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } يعني يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى البلى ، { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } يعنون : [أن] (1) الإعادة محال ، إنما يخبر بها من تلقاها عن كتب الأولين واختلاقهم. وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله تعالى إخبارا عنهم : { أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً. قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ. فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [النازعات : 11 - 14] ، وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس : 77 - 79].
{ قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) }
__________
(1) زيادة من أ.

(5/488)


بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)

{ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) }.
يقرر تعالى وحدانيته ، واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ، ليرشد إلى أنه الذي لا إله إلا هو ، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ؛ ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره ، المعترفين له بالربوبية ، وأنه لا شريك له فيها ، ومع هذا فقد أشركوا معه في

(5/488)


الإلهية ، فعبدوا غيره معه ، مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئًا ، ولا يملكون شيئًا ، ولا يستبدّون بشيء ، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى : { مَا (1) نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر : 3] ، فقال : { قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا } أي : من مالكها الذي خلقها ومن (2) فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات ، وسائر صنوف المخلوقات { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي : فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له ، فإذا كان ذلك (3) { قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [أي : لا تذكرون] (4) أنه لا تنبغي (5) العبادة إلا للخالق الرازق (6) لا لغيره.
{ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أي : من هو خالق العالم العُلْوي بما فيه من الكواكب النيّرات ، والملائكة الخاضعين له في سائر الأقطار منها والجهات ، ومن هو رب العرش العظيم ، يعني : الذي هو سقف المخلوقات ، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "شأن الله أعظم من ذلك ، إن (7) عرشه على سمواته هكذا" وأشار بيده مثل القبة (8).
وفي الحديث الآخر : "ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة" (9).
ولهذا قال بعض السلف : إن مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة ، [وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة] (10).
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : إنما سمي عرشًا لارتفاعه.
وقال الأعمش عن كعب الأحبار : إن السموات والأرض في العرش ، كالقنديل المعلق بين السماء والأرض.
وقال مجاهد : ما السموات والأرض في العرش إلا كحلقة في أرض فَلاة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العلاء بن سالم ، حدثنا وَكِيع ، حدثنا (11) سفيان الثوري ، عن عمار الدُّهني (12) ، عن مسلم البَطِين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : العرش لا يقدر أحد قدره. وفي رواية : إلا الله عز وجل (13).
وقال بعض السلف : العرش من ياقوتة حمراء.
ولهذا قال هاهنا : { وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } يعني : الكبير : وقال في آخر السورة : { رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }
__________
(1) في أ : "إنما" وهو خطأ
(2) في ف ، أ : "وما".
(3) في ف ، أ : "كذلك".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في أ : "يليق".
(6) في ف : "الرزاق".
(7) في ف : "لأن".
(8) سنن أبي داود برقم (4726) عن حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(9) رواه الطبري في تفسيره (5/399) من طريق ابن وهب عن ابن زيد عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه ، وقد سبق من رواية ابن مردوية عند تفسير الآية : 2 من سورة الرعد.
(10) زيادة من أ.
(11) في أ : "عن".
(12) في أ : "الذهبي".
(13) ورواه ابن أبي شيبة في صفة العرش (ق 114) والحاكم في المستدرك (2/282) من طريق الضحاك بن مخلد عن سفيان عن عمار الذهني به ، وقال الحاكم : "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" وأقره الذهبي.

(5/489)


أي : الحسن البهي. فقد جمع العرش بين العظمة في الاتساع والعلو ، والحسن الباهر ؛ ولهذا قال من قال : إنه من ياقوتة حمراء.
وقال ابن مسعود : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور (1) العرش من نور وجهه.
وقوله : { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } أي : إذا كنتم تعترفون (2) بأنه رب السموات ورب العرش العظيم ، أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه ، في عبادتكم معه غيره وإشراككم به ؟
قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتاب "التفكر والاعتبار" : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا عبد الله (3) بن جعفر ، أخبرني عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يحدث عن امرأة كانت في الجاهلية على رأس جبل ، معها ابن لها يرعى غنما ، فقال لها ابنها : يا أماه ، من خلقك ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق أبي ؟ قالت : الله. قال : فمن خلقني ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق السماء ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق الأرض ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق الجبل ؟ قالت : الله. قال : فمن خلق هذه الغنم ؟ قالت : الله. قال : فإني أسمع لله شأنا ثم ألقى نفسه من الجبل فتقطع.
قال ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يحدثنا هذا الحديث.
قال عبد الله بن دينار : كان (4) ابن عمر كثيرًا ما يحدثنا بهذا الحديث.
قلت : في إسناده عبد الله (5) بن جعفر المديني ، والد الإمام علي بن المديني ، وقد تكلموا فيه ، فالله أعلم (6).
{ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي : بيده الملك ، { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } [هود : 56] ، أي : متصرف فيها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا والذي نفسي بيده" ، وكان إذا اجتهد في اليمين قال (7) : " لا ومقلب القلوب" ، فهو سبحانه الخالق المالك المتصرف ، { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحدًا ، لا يُخْفَر في جواره ، وليس لمن دونه أن يجير عليه ، لئلا يفتات عليه ، ولهذا قال الله : { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } أي : وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه ، الذي له الخلق والأمر ، ولا معقب لحكمه ، الذي لا يمانع ولا يخالف ، وما شاء (8) كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وقال الله : { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء : 23] ، أي : لا يسئل عما يفعل ؛ لعظمته وكبريائه ، وقهره وغلبته ، وعزته وحكمته (9) ، والخلق كلهم يُسألون عن
__________
(1) في أ : "فوق".
(2) في أ : "تعرفون".
(3) في ف ، أ : "عبيد الله".
(4) في ف : "وكان".
(5) في أ : "عبيد الله".
(6) ورواه ابن عدي في الكامل (4/178) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن عبد الله بن جعفر به ، وقال : "غير محفوظ لا يحدث به عن ابن دينار غير عبد الله بن جعفر" وعبد الله بن جعفر المديني ضعيف عند الأئمة.
(7) في أ : "يقول".
(8) في ف ، أ : "وما شاء الله".
(9) في ف ، أ : "وحكمته وعدله".

(5/490)


مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)

أعمالهم ، كما قال تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر : 92 ، 93].
وقوله : { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي : سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه ، هو الله تعالى ، وحده لا شريك له { قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } أي : فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك.
ثم قال تعالى : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ } ، وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله ، وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك ، { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : في عبادتهم مع الله غيره ، ولا دليل لهم على ذلك ، كما قال في آخر السورة : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } ، فالمشركون لا يفعلون ذلك [عن دليل قادهم إلى ما هم فيه من الإفك والضلال ، وإنما يفعلون ذلك] (1) اتباعا لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال ، كما قالوا : { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [الزخرف : 23].
{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) }.
ينزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك ، فقال : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي : لو قُدِّر تعدد الآلهة ، لانفرد كل منهم بما يخلق ، فما كان ينتظم الوجود. والمشاهد أن الوجود منتظم متسق ، كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض ، في غاية الكمال ، { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } [الملك : 3] ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه ، فيعلو بعضهم على بعض. والمتكلمون ذكروا هذا المعنى وعبروا عنه بدليل التمانع ، وهو أنه لو فرض صانعان فصاعدا ، فأراد واحد تحريك جسم وأراد الآخر سكونه ، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين ، والواجب لا يكون عاجزًا ، ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد. وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد ، فيكون محالا فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر ، كان الغالب هو الواجب ، والآخر المغلوب ممكنًا ؛ لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهورا ؛ ولهذا قال : { وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي : عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علوا كبيرا.
{ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه ، { فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تقدس وتنزه وتعالى وعز وجل [عما يقول الظالمون والجاحدون] (2).
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ف ، أ.

(5/491)


قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)

{ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) }.
يقول تعالى آمرًا [نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم] (1) أن يدعو هذا الدعاء عند حلول النقم : { رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ } أي : إن عاقبتهم - وإني شاهدُ ذلك - فلا تجعلني فيهم ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي - وصححه - : "وإذا أردت بقوم فتنة فتوففني إليك غير مفتون" (2).
وقوله : { وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ } أي : لو شئنا لأريناك ما نحل (3) بهم من النقم والبلاء والمحن.
ثم قال مرشدًا له إلى التِّرْياق النافع في مخالطة الناس ، وهو الإحسان إلى من يسيء ، ليستجلب خاطره ، فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة ، فقال : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ } ، وهذا كما قال في الآية الأخرى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت : 34 ، 35] : أي ما يلهم هذه الوصية أو الخصلة (4) أو الصفة { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا } أي : على أذى الناس ، فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم إليهم القبيح ، { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي : في الدنيا والآخرة.
وقوله : { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ } : أمره أن يستعيذ من الشياطين ، لأنهم لا تنفع (5) معهم الحيل ، ولا ينقادون بالمعروف.
وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، من هَمْزه ونَفْخه ونَفْثه" (6).
وقوله : { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } أي : في شيء من أمري ؛ ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور - وذلك مطردة للشياطين (7) - عند الأكل والجماع والذبح ، وغير ذلك من الأمور ؛ ولهذا روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "اللهم إني أعوذ بك من الهَرَم ، وأعوذ بك من الهَدْم ومن الغرق ، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت" (8).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ،
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) المسند (5/243) وسنن الترمذي برقم (3235) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ، وقال : "هذا حديث حسن صحيح ، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال : هذا حديث حسن صحيح"
(3) في ف ، أ : "ما يحل".
(4) في ف : "الخصلة أو الوصية".
(5) في ف ، أ : "لا ينفع".
(6) انظر الاستعاذة عند تفسير سورة الفاتحة.
(7) في ف : "للشيطان".
(8) سنن أبي داود برقم (1552).

(5/492)


حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

عن جده قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم ، من الفزع : "بسم الله ، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ، ومن شر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون" قال : فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها ، كتبها له ، فعلقها في عنقه.
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث محمد بن إسحاق (1) ، وقال الترمذي : حسن غريب.
{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) }.
يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت ، من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى ، وقيلهم عند ذلك ، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته ؛ ولهذا قال : { رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا } كما قال تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المنافقون : 10 ، 11] ، وقال تعالى : { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [إبراهيم : 44] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } [الأعراف : 53] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة : 12] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام : 27 ، 28] ، وقال تعالى : { وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ } [الشورى : 44] ، وقال تعالى : { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر : 11 ، 12] ، وقال تعالى : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [فاطر : 37] ، فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة ، فلا يجابون ، عند الاحتضار ، ويوم النشور ووقت العرض على الجبار ، وحين يعرضون على النار ، وهم في غمرات عذاب الجحيم.
وقوله : هاهنا : { كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } : كلا حرف ردع وزجر ، أي : لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه.
__________
(1) المسند (2/181) وسنن أبي داود برقم (3893) وسنن الترمذي برقم (3528) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10601).

(5/493)


وقوله : { كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم.
ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله : "كلا" ، أي : لأنها كلمة ، أي : سؤاله الرجوع ليعمل صالحا هو كلام منه ، وقول لا عمل معه ، ولو رد لما عمل صالحا ، ولكان يكذب في مقالته هذه ، كما قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
وقال محمد بن كعب القرظي : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } قال : فيقول الجبار : { كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا }.
وقال عمر بن عبد الله مولى غُفْرَة : إذا سمعت الله يقول : { كَلا } فإنما يقول : كذب.
(1)
وقال قتادة في قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } : قال : كان العلاء بن زياد يقول : لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت ، فاستقال ربه فأقاله ، فليعمل بطاعة الله عز وجل.
وقال قتادة : والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ، ولا قوة إلا بالله. وعن محمد بن كعب القرظي نحوه.
وقال محمد بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يوسف ، حدثنا فضيل - يعني : ابن عياض - عن لَيْث ، عن طلحة بن مُصَرِّف ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : إذا وضع - يعني : الكافر - في قبره ، فيرى مقعده من النار. قال : فيقول : رب ، ارجعون أتوب وأعمل صالحا. قال : فيقال : قد عُمِّرت ما كنت مُعَمَّرا. قال : فيضيق عليه قبره ، قال : فهو كالمنهوش ، ينام ويفزع ، تهوي (2) إليه هَوَامّ الأرض وحياتها وعقاربها.
وقال أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثني سلمة بن تمام ، حدثنا علي بن زيد (3). عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، أنها قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور!! تدخل (4) عليهم في قبورهم حيات سود - أو : دُهُم - حية عند رأسه ، وحية عند رجليه ، يقرصانه حتى يلتقيا (5) في وسطه ، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }
وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ } يعني : أمامهم.
وقال مجاهد : البرزخ : الحاجز ما بين الدنيا والآخرة.
وقال محمد بن كعب : البرزخ : ما بين الدنيا والآخرة. ليسوا (6) مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون ، ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم.
وقال أبو صخر : البرزخ : المقابر ، لا هم في الدنيا ، ولا هم في الآخرة ، فهم مقيمون إلى يوم
__________
(1) في ف : "كذبت".
(2) في ف ، أ : "ويهوي".
(3) في أ : "يزيد".
(4) في ف ، أ : "يدخل".
(5) في ف : "تقرصانه حتى تلتقيا".
(6) في ف ، أ : "ليس".

(5/494)


فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)

يبعثون.
وفي قوله : { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ } : تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ ، كما قال : { مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } [الجاثية : 10] وقال { وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } [إبراهيم : 17].
وقوله : { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي : يستمر به العذاب إلى يوم البعث ، كما جاء في الحديث : "فلا يزال معذبا فيها" (1) ، أي : في الأرض.
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) }.
يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور ، وقام الناس من القبور ، { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ } أي : لا تنفع الأنساب يومئذ ، ولا يرثي والد لولده ، ولا يلوي عليه ، قال الله تعالى : { وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا. يُبَصَّرُونَهُمْ } [المعارج : 10 ، 11] أي : لا يسأل القريب قريبه وهو يبصره ، ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره ، وهو كان أعز الناس عليه - كان - في الدنيا ، ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة ، قال الله تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس : 34 - 37].
وقال ابن مسعود : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد : ألا من كان له مظلمة فليجئ فليأخذ حقه : قال : فيفرح (2) المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا; ومصداق ذلك في كتاب الله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } رواه ابن أبي حاتم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد - مولى بني هاشم - حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثتنا أم بكر بنت المِسْوَر بن مَخْرَمَة ، عن عُبَيْد الله بن أبي رافع ، عن المِسْوَر - هو ابن مَخْرَمَة - رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فاطمة بَضْعَةٌ مني ، يَقْبِضُني ما يقبضها ، ويَبْسُطني ما يبسطها (3) وإن الأنساب تنقطع (4) يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري". (5)
هذا الحديث له أصل في الصحيحين عن المسور أن (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "فاطمة بضعة مني ،
__________
(1) رواه الترمذي في السنن برقم (1071) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقال : "حديث حسن غريب".
(2) في أ : "فيفرح والله".
(3) في أ : "يفيضني ما يفيضها وينشطني ما ينشطها".
(4) في أ : "منقطع".
(5) المسند (4/323).
(6) في ف ، أ : "عن".

(5/495)


يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها" (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا زهير ، عن عبد الله بن محمد ، عن حمزة بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر : "ما بال رجال يقولون : إن رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنفع قومه ؟ بلى ، والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة ، وإني - أيها الناس - فرط لكم ، إذا (2) جئتم" قال رجل : يا رسول الله ، أنا فلان بن فلان ، [ وقال أخوه : أنا فلان ابن فلان] (3) فأقول لهم : "أما النسب فقد عرفت ، ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقري". (4)
وقد ذكرنا في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (5) من طرق متعددة عنه ، رضي الله عنه : أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهما ، قال : أما - والله - ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كل سبَبٍ ونَسب فإنه منقطع يوم القيامة ، إلا سببي ونسبي".
رواه (6) الطبراني ، والبزار والهيثم بن كليب ، والبيهقي ، والحافظ الضياء في "المختارة" (7) وذكرنا أنه أصدقها أربعين ألفا ؛ إعظاما وإكراما ، رضي الله عنه ؛ فقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي العاص بن الربيع - زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - من طريق أبي القاسم البغوي : حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع ، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن محمد ابن عباد بن جعفر ، سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري" (8). وروي فيها من طريق عمار بن سيف ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا : "سألت ربي عز وجل ألا أتزوج إلى أحد من أمتي ، ولا يتزوج إلي أحد منهم ، إلا كان معي في الجنة ، فأعطاني ذلك" (9). ومن حديث عمار بن سيف ، عن إسماعيل ، عن عبد الله بن عمرو.
وقوله : { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة ، قاله ابن عباس.
{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة.
وقال ابن عباس : أولئك الذين فازوا بما طلبوا ، ونجوا من شر ما منه هربوا.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3714) وصحيح مسلم برقم (2449).
(2) في ف ، أ : "فإذا".
(3) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(4) المسند (3/18).
(5) مسند عمر بن الخطاب لابن كثير (1/389).
(6) في أ : "ورواه الحافظ".
(7) المعجم الكبير (3/45) ومسند البزار برقم (2445) "كشف الأستار" وسنن البيهقي الكبرى (7/64) والمختارة للمقدسي برقم (281).
(8) تاريخ دمشق (19/119 "المخطوط") ورواه علي بن سعيد عن سليمان بن عمر الرقي عن إبراهيم بن عبد السلام عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن الزبير مرفوعا ، وأخرجه الطبراني في الأوسط برقم (3963).
(9) تاريخ دمشق (19/119 "المخطوط") ورواه الطبراني في الأوسط برقم (3961) "مجمع البحرين" من طريق يزيد بن الكميت عن عمار بن سيف به. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (7/85) : "إسناده واه" وفي الباب عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه.

(5/496)


{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي : ثقلت سيئاته على حسناته ، { فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : خابوا وهلكوا ، وباؤوا بالصفقة (1) الخاسرة.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، حدثنا داود بن المُحَبَّر ، حدثنا صالح المُرِّيّ ، عن ثابت البُناني وجعفر بن زيد ومنصور بن زاذان ، عن أنس بن مالك يرفعه قال : "إن لله ملكا موكلا بالميزان ، فيؤتى بابن آدم ، فيوقف بين كفتي الميزان ، فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، وإن خف ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا (2) يسعد بعدها أبدًا" (3).
إسناده ضعيف ، فإن داود بن المُحَبَّر متروك.
ولهذا قال : "في جهنم خالدون" أي : ماكثون ، دائمون مقيمون لا يظعنون.
{ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ } ، كما قال تعالى : { وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ } [إبراهيم : 50] ، وقال { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } [الأنبياء : 39].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء (4) ، حدثنا محمد بن سلمان الأصبهاني ، عن أبي سِنَان ضِرَار بن مُرَّة ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن جهنم لما سيق [إليها] (5) أهلها يلقاهم (6) لهبها ، ثم تلفحهم لفحة ، فلم يبق لحم إلا سقط على العرقوب". (7)
وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى الفَزَّاز ، حدثنا الخضر بن علي بن يونس القطان ، حدثنا عمر بن أبي الحارث بن الخضر القَطَّان ، حدثنا سعد بن سعيد (8) المقبري ، عن أخيه ، عن أبيه ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ } قال : "تلفحهم لفحة ، فتسيل لحومهم على أعقابهم" (9).
وقوله : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني عابسون.
وقال الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قال : ألم تر إلى الرأس المُشَيَّط الذي قد بدا أسنانه وقَلَصت شفتاه.
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : أخبرنا علي بن إسحاق ، أخبرنا عبد الله - هو ابن المبارك ، رحمه
__________
(1) في أ : "وفازوا بالصفة".
(2) في ف : "فلا".
(3) ورواه أبو نعيم في الحلية كما في تخريج الإحياء (4098) وقال : "تفرد به داود بن المحبر".
(4) في أ : "أبي الفراء".
(5) زيادة من ف.
(6) في ف : "تلقيهم".
(7) ورواه أبو نعيم في الحلية (4/363) وقال : "لم يروه مرفوعا متصلا عن أبي سنان عن عبد الله إلا محمد بن سليمان الأصبهاني ، ورواه ابن عيينة وابن فضيل وجرير عن أبي سنان فأوقفه ابن فضيل على أبي هريرة".
(8) في ف ، أ : "سعيد بن أبي سعيد".
(9) ورواه الضياء المقدسي في صفة النار كما في الدر المنثور (6/117) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.

(5/497)


الله - أخبرنا سعيد بن يزيد ، عن أبي السَّمْح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخُدْري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } ، قال : "تَشْويه النار فَتَقَلَّصُ شفته العليا حتى تبلغ وَسَطَ رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تَضْرب سُرَّته".
ورواه الترمذي ، عن سُوَيْد بن نصر (1) عن عبد الله بن المبارك ، به (2) وقال : حسن غريب.
__________
(1) في أ : "نصير".
(2) المسند (3/88) وسنن الترمذي برقم (3176).

(5/498)


أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)

{ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) }.
هذا تقريع من الله تعالى لأهل النار ، وتوبيخ لهم على ما ارتكبوا من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم ، التي أوبقتهم في ذلك ، فقال : { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي : قد أرسلت إليكم الرسل ، وأنزلت الكتب ، وأزلت (1) شُبَهكم ، ولم يبق لكم حجة تدلون بها كما قال : { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء : 165] ، وقال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء : 15] ، وقال : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ. وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك : 8 - 11] ، ولهذا قالوا : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ } أي : قد قامت علينا الحجة ، ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها ونتبعها ، فَضَلَلْنَا عنها ولم نُرْزَقْهَا.
ثم قالوا : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } أي : رُدَّنا إلى الدار الدنيا ، فإن عدنا إلى ما سلف منا ، فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة ، كما قالوا : { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ. ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر : 11 ، 12] أي : لا سبيل إلى الخروج ؛ لأنكم كنتم تشركون بالله إذا وحده المؤمنون.
{ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) }.
هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار (2) ، يقول : { اخْسَئُوا فِيهَا } أي : امكثوا فيها صاغرين مُهانين أذلاء. { وَلا تُكَلِّمُونِ } أي : لا تعودوا إلى سؤالكم هذا ، فإنه لا جواب لكم عندي.
__________
(1) في أ : "وأرخت".
(2) في أ : "الدنيا".

(5/498)


قال العَوْفِي ، عن ابن عباس : { اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } قال : هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عَبْدَة بن سليمان المروزي ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله بن عمرو قال : إن أهل جهنم يدعون مالكا ، فلا يجيبهم أربعين عاما ، ثم يردّ عليهم : إنكم ماكثون. قال : هانت دعوتهم - والله (1) - على مالك ورب مالك. ثم يدعون ربهم فيقولون : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ، ثم يرد عليهم : { اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } قال : والله ما نَبَس (2) القوم بعدها بكلمة واحدة ، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم. قال : فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير ، أولها زفير وآخرها شهيق.
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا سفيان ، عن سَلَمة بن كُهَيْل ، حدثنا أبو الزَّعْرَاء قال : قال عبد الله بن مسعود : إذا أراد الله ألا يخرج منهم أحدًا - يعني : من جهنم - غير وجوههم وألوانهم ، فيجيء الرجل من المؤمنين ، فيشفع فيقول : يا رب (3). فيقول : من عرف أحدًا فليخرجه. فيجيء الرجل فينظر فلا يعرف أحدًا فيقول : أنا فلان. فيقول : ما أعرفك.
، قال : فعند ذلك يقول : { رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } ، فعند ذلك يقول : { اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ }. وإذا (4) قال ذلك ، أطبقت عليهم فلا (5) يخرج منهم بَشَر.
ثم قال تعالى مذكرًا لهم بذنوبهم في الدنيا ، وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه ، فقال : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا } أي : فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إليّ ، { حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي } أي : حملكم بغضهم على أن نَسِيتم معاملتي { وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ } أي : من صنيعهم وعبادتهم ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [المطففين : 29 ، 30] أي : يلمزونهم استهزاء.
ثم أخبر عما جازى به أولياءه وعباده الصالحين ، فقال : { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا } أي : على أذاكم لهم واستهزائكم منهم ، { أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ } أي : جعلتهم هم الفائزين (6) بالسعادة والسلامة والجنة ، الناجين (7) من النار.
__________
(1) في ف ، أ : "والله دعوتهم".
(2) في ف : "فوالله ما يبس".
(3) في ف ، أ : "يا رب يا رب".
(4) في ف ، أ : "فإذا".
(5) في ف ، أ : "فلم".
(6) في ف : "الفائزون".
(7) في ف : "الناجون".

(5/499)


قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)

{ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) }.
يقول تعالى منبها لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده ، ولو صَبَروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون ، { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ } أي : كم كانت إقامتكم في الدنيا ؟ { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ } أي : الحاسبين
{ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } أي : مدة يسيرة على كل تقدير { لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : لما آثرتم الفاني على الباقي ، ولما تَصَرَّفتم لأنفسكم هذا التصرف السّيئ ، ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة ، ولو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته (1) - كما فعل المؤمنون - لفزتم كما فازوا.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوَزير ، حدثنا الوليد ، حدثنا صفوان ، عن أيفع بن عبد الكَلاعي ؛ أنه سمعه يخطب الناس فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، قال : يا أهل الجنة ، كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم. قال : لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم : رحمتي ورضواني وجنتي ، امكثوا فيها خالدين مخلدين ؟ ثم يقول : يا أهل النار ، كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا يومًا أو بعض يوم. فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم : ناري وسخطي ، امكثوا فيها خالدين مخلدين" (2).
وقوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا } أي : أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا ، { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } أي : لا تعودون في الدار الآخرة ، كما قال : { أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى } [القيامة : 36] ، يعني هملا (3).
وقوله : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } أي : تقدَّس أن يخلق شيئا عبثا ، فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك ، { لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } ، فذكر العرش ؛ لأنه سقف جميع المخلوقات ، ووصفه بأنه كريم ، أي : حسن المنظر بهي الشكل ، كما قال تعالى : { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [لقمان : 10].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ ، حدثنا إسحاق بن سليمان - شيخ من أهل العراق - أنبأنا شعيب بن صفوان ، عن رجل من آل سعيد بن العاص قال :
__________
(1) في ف : "على عبادته وطاعته".
(2) ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (1/187) بإسناده إلى الحكم بن موسى عن الوليد عن صفوان به.
(3) في أ : "مهملا".

(5/500)


كان آخر خطبة خطب عمر بن عبد العزيز أن حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فإنكم لم تخلقوا عبثا ، ولن (1) تتركوا سدى ، وإن لكم معادا ينزل الله فيه للحكم بينكم والفصل بينكم ، فخاب وخسر مَن خرج من رحمة الله ، وحرم جنة عرضها السموات والأرض ، ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر هذا اليوم وخافه ، وباع نافدا بباق ، وقليلا بكثير ، وخوفا بأمان ، ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين ، وسيكون من بعدكم الباقين ، حتى تردون (2) إلى خير الوارثين ؟ ثم إنكم في كل يوم تُشَيّعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل ، قد قضى نحبه ، وانقضى أجله ، حتى تغيبوه في صَدْع من الأرض ، في بطن صدع غير ممهد ولا موسد ، قد فارق الأحباب وباشر التراب ، وواجه الحساب ، مُرْتَهَن بعمله ، غني عما ترك ، فقير إلى ما قدم. فاتقوا الله عباد الله قبل انقضاء مواثيقه ، ونزول الموت بكم ثم جعل طرف ردائه على وجهه ، فبكى وأبكى من حوله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن نصر (3) الخَوْلاني ، حدثنا ابن وَهْب ، أخبرني ابن لَهِيعَة ، عن أبي هُبَيْرَةَ عن حَنَش (4) بن عبد الله ؛ أن رجلا مصابًا مرَّ به عبد الله بن مسعود ، فقرأ في أذنه هذه الآية : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } ، حتى ختم السورة فَبَرَأ ، [فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم] (5) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بماذا قرأت في أذنه ؟" فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، لو أن رجلا مُوقنا قرأها على جَبَل لزال".
وروى أبو (6) نُعَيم من طريق خالد بن نزار ، عن سفيان بن عيينة ، عن محمد بن المُنْكَدر ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبيه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرَِّية ، وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } ، قال : فقرأناها فغنمنا وسلمنا (7).
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا إسحاق بن وهب العلاف الواسطي ، حدثنا أبو المُسَيَّب سلمة بن سلام ، حدثنا بكر بن خُنَيْس (8) ، عن نَهْشَل بن سعيد ، عن الضحّاك بن مُزَاحِم ، عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن : بسم الله الملك الحق ، { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الزمر : 67] ، { بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [هود : 41]. (9)
__________
(1) في ف : "ولم".
(2) في ف : "حين تردوا".
(3) في أ : "نصير".
(4) في ف : "حسن".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "ابن".
(7) معرفة الصحابة لأبي نعيم برقم (726).
(8) في ف : "حبيش".
(9) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/124) وفي كتاب الدعاء برقم (804) من طرق عن عبد الحميد الهلالي ، عن نهشل به ، وقال الهيثمي في المجمع (10/132) : "نهشل بن سعيد متروك".

(5/501)


وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

{ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) }.
يقول تعالى متوعدا من أشرك به غيره ، وعَبَدَ معه سواه ، ومخبرًا أن من أشرك بالله { لا بُرْهَانَ لَهُ } أي : لا دليل له على قوله - فقال : { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } ، وهذه جملة معترضة ، وجواب الشرط في قوله : { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ } أي : الله يحاسبه على ذلك.
ثم أخبر : { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } أي : لديه يوم القيامة ، لا فلاح لهم ولا نجاة.
قال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : "ما تعبد ؟" قال : أعبد الله ، وكذا وكذا - حتى عدّ أصناما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فأيّهم إذا أصابك ضُرٌّ فدعوتَه ، كشفه عنك ؟". قال : الله عز وجل. قال : ["فأيّهم إذا كانت لك حاجة فدعوتَه أعطاكها ؟" قال : الله عز وجل. قال] (1) : "فما يحملك على أن تعبد هؤلاء معه ؟" قال : أردت شكره بعبادة هؤلاء معه أم حسبت أن يغلب عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تعلمون ولا يعلمون" قال (2) الرجل بعد ما أسلم : لقيت رجلا خصمني.
هذا مرسل من هذا الوجه ، وقد روى أبو عيسى الترمذي في جامعه مسندًا عن عمران بن الحُصَيْن ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك (3).
وقوله : { وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } هذا إرشاد من الله إلى هذا الدعاء ، فالغَفْرُ - إذا أطلِق - معناه محو الذنب وستره عن الناس ، والرحمة معناها : أن يسدده ويوفقه في الأقوال والأفعال.
آخر تفسير سورة المؤمنون.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في أ : "فقال".
(3) سنن الترمذي برقم (3483) وقال : "هذا حديث غريب".

(5/502)


سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)

سورة النور
وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) }
يقول تعالى : هذه { سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا } فيه تنبيه على (1) الاعتناء بها ولا ينفى ما عداها.
{ وفرضناها } قال مجاهد وقتادة : أيْ بيّنا الحلال والحرام والأمر والنهي ، والحدود.
وقال البخاري : ومن قرأ "فَرَضْناها" يقول : فَرَضْنا عليكم وعلى من بعدكم.
{ وَأَنزلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي : مفسَّرات واضحَات ، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }.
ثم قال تعالى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد ، وللعلماء فيه تفصيل ونزاع ؛ فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرًا ، وهو الذي لم يتزوج ، أو محصنا ، وهو الذي قد وَطِئَ في نكاح صحيح ، وهو حر بالغ عاقل. فأما إذا كان بكرًا لم يتزوج ، فإن حدَّه مائة جلدة (2) كما في الآية ويزاد على ذلك أن يُغرّب عاما [عن بلده] (3) عند جمهور العلماء ، خلافا لأبي حنيفة ، رحمه الله ؛ فإن عنده أن التغريبَ إلى رأي الإمام ، إن شاء غَرَّب وإن شاء لم يغرِّب.
وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، من رواية الزهري ، عن عُبَيْد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود ، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجُهَنيّ ، في الأعرابيين اللذين أتيا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما : يا رسول الله ، إن ابني كان عَسِيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته ، فافتديت [ابني[ (4) منه بمائة شاة وَوَليدَة ، فسألت أهل العلم ، فأخبروني أن (5) على ابني جلد مائة وتغريبَ عام ، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رَدٌّ عليك ، وعلى ابنك جَلْدُ مائة وتغريبُ عام. واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها". فغدا عليها فاعترفت ، فرجمها (6).
ففي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم يتزوج ، فأما إن كان محصنا فإنه يرجم ، كما قال الإمام مالك :
__________
(1) في أ : "إلى".
(2) في ف ، أ : "جلد مائة".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من ف ، أ ، وصحيحي البخاري ومسلم.
(5) في أ : "إنما".
(6) صحيح البخاري برقم (2314 ، 6633) وصحيح مسلم برقم (1697).

(6/5)


حدثني ابن شهاب ، أخبرنا (1) عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، أن ابن عباس أخبره أن عمر ، رضي الله عنه ، قام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإن (2) الله بعث محمدًا بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها وَوَعَيْناها ، وَرَجمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَرَجمْنا بعده ، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله ، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى ، إذا أحصن ، من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو الحبل ، أو الاعتراف.
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا (3) وهذا (4) قطعة منه ، فيها مقصودنا هاهنا.
وروى الإمام أحمد ، عن هُشَيْم ، عن الزهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : حدثني عبد الرحمن بن عوف ؛ أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول : ألا وَإنّ أناسا (5) يقولون : ما بالُ الرجم ؟ في كتاب الله الجلدُ. وقد رَجَم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَجمَنا بعده. ولولا أن يقول قائلون - أو يتكلم (6) متكلمون - أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه (7) لأثبتها كما نزلت.
وأخرجه النسائي ، من حديث عُبَيْد الله بن عبد الله ، به (8).
وقد روى أحمد (9) أيضًا ، عن هُشَيْم ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس قال : خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال : لا تُخْدَعُن (10) عنه ؛ فإنه حَدٌّ من حدود الله ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورَجمَنا بعده ، ولولا أن يقول قائلون : زاد عمر في كتاب الله ما ليس فيه ، لكتبت في ناحية من المصحف : وشهد عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، وفلان وفلان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده. ألا وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال (11) وبالشفاعة وبعذاب القبر ، وبقوم يخرجون من النار بعدما امتُحِشُوا (12).
وروى أحمد (13) أيضا ، عن يحيى القَطَّان ، عن يحيى الأنصاري ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن عمر بن الخطاب (14) : إياكم أن تهَلكوا عن آية الرجم.
الحديث رواه الترمذي ، من حديث سعيد ، عن عُمَر ، وقال : صحيح (15).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عُبَيْد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا ابن (16) عَوْن ، عن محمد - هو ابن سِيرِين - قال : نُبِّئتُ عن كَثِير بن الصلت قال : كنا عند
__________
(1) في ف : "عن".
(2) في ف : "إن".
(3) الموطأ (2/822) وصحيح البخاري برقم (6829 ، 6830) وصحيح مسلم برقم (1691) وهو عندهما بهذا السياق من حديث ابن شهاب الزهري.
(4) في ف ، أ : "وهذه".
(5) في ف : "ناسا".
(6) في ف : "ويتكلم".
(7) في أ : "فيه".
(8) المسند (1/29) والنسائي في السنن الكبرى (7154).
(9) في ف ، أ : "الإمام أحمد".
(10) في أ : "لا تحيد عنه".
(11) في ف : "والدجال".
(12) المسند (1/23).
(13) في ف ، أ : "الإمام أحمد".
(14) في ف ، أ : "عمر رضي الله عنه".
(15) المسند (1/36) وسنن الترمذي برقم (1431).
(16) في ف : "أبو".

(6/6)


مروان وفينا زيد ، فقال زيد : كنا نقرأ : "والشيخ والشيخة فارجموهما (1) البتة". قال مروان : ألا كتبتَها في المصحف ؟ قال : ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب ، فقال : أنا أشفيكم من ذلك.قال : قلنا : فكيف ؟ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فذكر كذا وكذا ، وذكر الرجم ، فقال : يا رسول الله ، أكْتِبْني آية الرجم : قال : "لا أستطيع الآن". هذا أو نحو (2) ذلك.
وقد رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن يونس بن جُبَير ، عن كَثِير بن الصَّلْت ، عن زيد بن ثابت ، به (3).
وهذه طرق كلها متعددة (4) ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها ، وبقي حكمها معمولا به ، ولله الحمد (5).
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة ، وهي زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زَنَت مع الأجير. ورجم النبي (6) صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامِدِيَّة. وكل هؤلاء لم يُنقَل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جَلدهم قبل الرجم. وإنما وردت الأحاديث الصِّحَاح المتعددة الطرق والألفاظ ، بالاقتصار على رجمهم ، وليس فيها ذكر الجلد ؛ ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء ، وإليه ذهب أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، رحمهم الله. وذهب الإمام أحمد ، رحمه الله ، إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصَن بين (7) الجلد للآية والرجم للسنة ، كما روي ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه لما أتي بشُرَاحة (8) وكانت قد زنت وهي مُحْصَنَةٌ ، فجلدها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، ثم قال : جلدتهُا بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى الإمام أحمد ومسلم ، وأهل السنن الأربعة ، من حديث قتادة ، عن الحسن ، عن حِطَّان (9) بن عبد الله الرَّقَاشِيّ ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البِكْر بالبِكْر ، جَلْد مائة وتغريب سنة (10) والثيب بالثيب ، جلد مائة والرجم" (11).
وقوله : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } أي : في حكم الله. لا ترجموهما وترأفوا بهما في شرع الله ، وليس المنهي عنه (12) الرأفة الطبيعية [ألا تكون حاصلة] (13) على ترك الحد ، [وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد] (14) فلا (15) يجوز ذلك.
قال مجاهد : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال : إقامة الحدود إذا رُفعت إلى السلطان ، فتقام ولا تعطل. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَيْر ، وعَطَاء بن أبي رَبَاح. وقد جاء في الحديث :
__________
(1) في ف ، أ : "والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما".
(2) في ف : "أو نحوه".
(3) النسائي في السنن الكبرى برقم (7148).
(4) في ف ، أ : "متعاضدة".
(5) في ف ، أ : "والله أعلم".
(6) في ف ، أ : "رسول الله"
(7) في أ : "من".
(8) في أ : "بسراجة".
(9) في أ : "عطاء".
(10) في أ : "عام"
(11) المسند (5/317) وصحيح مسلم برقم (1690) وسنن أبي داود برقم (4416) وسنن الترمذي برقم (1434) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11092) وسنن ابن ماجه برقم (2550).
(12) في ف : "النهي عن"
(13) زيادة من ف ، أ
(14) زيادة من ف ، أ
(15) في ف : "فإنه لا".

(6/7)


"تعافَوُا الحدود فيما بينكم ، فما بلغني من حَدٍّ فقد وَجَب" (1). وفي الحديث الآخر : "لَحَدٌّ يقام في الأرض ، خير لأهلها من أن يُمطَروا أربعين صباحا" (2).
وقيل : المراد : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فلا تقيموا الحد كما ينبغي ، من شدة الضرب الزاجر عن المأثم ، وليس المراد الضرب المبرِّح.
قال عامر الشعبي : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال : رحمة (3) في شدة الضرب. وقال عطاء : ضرب ليس بالمبرِّح. وقال سعيد بن أبي عَرُوُبة ، عن حماد بن أبي سليمان : يجلد (4) القاذف وعليه ثيابه ، والزاني تخلع ثيابه ، ثم تلا { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } فقلت : هذا في الحكم ؟ قال : هذا في الحكم والجلد - يعني في إقامة الحد ، وفي شدة الضرب.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمرو بن عبد الله الأوْدِيّ (5) حدثنا وَكيع ، عن نافع ، [عن] (6) ابن عمرو ، عن (7) ابن أبي مُلَيْكَة ، عن عبيد الله (8) بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت ، فضرب رجليها - قال نافع : أراه قال : وظهرها - قال : قلت : { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } قال : يا بني ، ورأيتَني أخَذَتْني بها رأفة ؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها ، ولا أن أجعل جَلدها في رأسها ، وقد أوجعت حيث ضربت (9).
وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : فافعلوا ذلك : أقيموا الحدود على من زنى ، وشددوا عليه الضرب ، ولكن ليس مبرِّحا ؛ ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك. وقد جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال : يا رسول الله ، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها ، فقال : "ولك في ذلك أجر" (10).
وقوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } : هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جُلِدا بحضرة الناس ، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما ، وأنجع في ردعهما ، فإن في ذلك تقريعًا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا.
قال الحسن البصري في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } يعني : علانية.
ثم قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } الطائفة : الرجل فما فوقه.
وقال مجاهد : الطائفة : رجل إلى الألف. وكذا قال عكرمة ؛ ولهذا قال أحمد : إن الطائفة تصدُق على واحد.
وقال عطاء بن أبي رباح : اثنان. وبه قال إسحاق بن رَاهَويه. وكذا قال سعيد بن جبير : { طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : يعني : رجلين فصاعدا.
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (4376) والنسائي في السنن (8/70) من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده.
(2) المسند (2/362) والنسائي في السنن (8/75) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(3) في ف ، أ : "رحمة الله".
(4) في أ : "نجلد".
(5) في ف : "الأزدي" وفي أ : "الأرزمي".
(6) زيادة من جـ ، أ.
(7) في ف ، أ : "وعن".
(8) في ف ، أ : "عبد الله".
(9) ورواه الطبري في تفسيره (18/52) من طريق نافع ، عن ابن عمر فذكره.
(10) المسند (3/436) من حديث قرة المزني ، رضي الله عنه.

(6/8)


الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

وقال الزهري : ثلاث نفر فصاعدا.
وقال عبد الرزاق : حدثني ابن وَهْب ، عن الإمام مالك في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : الطائفة : أربعة نفر فصاعدا ؛ لأنه لا يكون شهادة في الزنى دون أربعة شهداء فصاعدًا. وبه قال الشافعي.
وقال ربيعة : خمسة. وقال الحسن البصري : عشرة. وقال قتادة : أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ، أي : نفر من المسلمين ؛ ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن عثمان ، حدثنا بَقِيَّةُ قال : سمعت نصر بن علقمة في قوله : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : ليس ذلك للفضيحة ، إنما ذلك ليدعى اللهُ تعالى لهما بالتوبة والرحمة.
{ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) }
هذا خَبَر من الله تعالى بأن الزاني لا يَطأ إلا زانية أو مشركة. أي : لا يطاوعه على مراده من الزنى إلا زانية عاصية أو مشركة ، لا ترى حرمة ذلك ، وكذلك : { الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ } أي : عاص بزناه ، { أَوْ مُشْرِكٌ } لا يعتقد تحريمه.
قال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي عَمَرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } قال : ليس هذا بالنكاح ، إنما هو الجماع ، لا يزني بها إلا زانٍ أو مشرك.
وهذا إسناد صحيح عنه ، وقد رُوي عنه من غير وجه أيضا. وقد رُوي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعُرْوَة بن الزبير ، والضحاك ، ومكحول ، ومُقَاتِل بن حَيَّان ، وغير واحد ، نحوُ ذلك.
وقوله تعالى : { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أي : تعاطيه والتزويج بالبغايا ، أو تزويج العفائف بالفجار من الرجال.
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا قَيْس ، عن أبي حُصَين ، عن سعيد بن جُبَيْرٍ ، عن ابن عباس : { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } قال : حَّرم الله الزنى على المؤمنين.
وقال قتادة ، ومقاتل بن حَيّان : حرم الله على المؤمنين نكاح البغايا ، وتَقَدّم في ذلك فقال : { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
وهذه الآية كقوله تعالى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [النساء : 25] وقوله { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } الآية [المائدة : 5] ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت

(6/9)


كذلك حتى تستتاب ، فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح ، حتى يتوب توبة صحيحة ؛ لقوله تعالى : { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا عارم (1) ، حدثنا مُعْتَمِر بن سليمان قال : قال أبي : حدثنا الحضرمي ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عَمْرو ، رضي الله عنهما ، أن رجلا من المسلمين استأذنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها : "أم مهزول" كانت تسافح ، وتشترط له أن تنفق عليه - قال : فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو : ذكر له أمرها - قال : فقرأ عليه رسول (2) الله صلى الله عليه وسلم : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (3).
وقال النسائي : أخبرنا عمرو بن علي ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الحضرمي ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن عمرو قال : كانت امرأة يقال لها : "أم مهزول" وكانت تسافح ، فأراد رجل من أصحاب رسول (4) الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها ، فأنزل الله عز وجل : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (5).
[و] (6) قال الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا روح بن عُبَادة بن عُبَيد الله بن الأخنس ، أخبرني عمرو بن شُعَيب عن أبيه ، عن جده قال : كان رجل يقال له "مَرْثَد بن أبي مرثد" وكان رجلا يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة. قال : وكانت امرأةٌ بَغي (7) بمكة يقال لها "عَنَاق" ، وكانت صديقة له ، وأنه واعد (8) رجلا من أسارى مكة يحمله. قال : فجئت حتى انتهيتُ إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، قال : فجاءت "عناق" فأبصرت سواد ظلي تحت الحائط ، فلما انتهت إليّ عرفتني (9) ، فقالت : مَرْثَد ؟ فقلت : مرثد فقالت : مرحبًا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة. قال : فقلت (10) يا عناق ، حرم الله الزنى. فقالت (11) يا أهل الخيام ، هذا الرجل يحمل أسراكم. قال : فتبعني ثمانية ودخلت الحَندمة (12) فانتهيت إلى غار - أو كهف فدخلت فيه (13) فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالوا ، فظل بولهم على رأسي ، فأعماهم الله عني - قال : ثم رجعوا ، فرجعت إلى صاحبي فحملته ، وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخَر ، ففككت عنه أكبُله ، (14) فجعلت أحمله ويعِينني ، حتى أتيت به (15) المدينة ، فأتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، أنكح عناقا ؟ أنكح عناقا ؟ - مرتين - فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرد علي شيئا ، حتى نزلت { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا مرثد ، { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ] } (16)
__________
(1) في ف ، أ : "عارم بن الفضل".
(2) في ف ، أ : "نبي".
(3) المسند (2/159).
(4) في ف : "النبي".
(5) النسائي في السنن الكبرى برقم (11359).
(6) زيادة في ف ، أ.
(7) في أ : "تغني".
(8) في ف : "وعد"
(9) في ف ، أ : "عرفت".
(10) في ف : "قلت".
(11) في ف : "قالت".
(12) في ف ، أ : "الحديقة".
(13) في أ : "به".
(14) في أ : "أكليلة".
(15) في ف : "قدمت".
(16) زيادة من ف ، أ.

(6/10)


فلا تنكحها" ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد رواه أبو داود والنسائي ، في كتاب النكاح من سننهما (1) من حديث عبيد الله بن الأخنس ، به (2).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مُسَدَّد أبو الحسن ، حدثنا عبد الوارث ، عن حبيب المعلم ، حدثني عمرو بن شعيب ، عن سعيد المَقْبُرِيّ ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله".
وهكذا أخرجه أبو داود في سننه ، عن مسدد وأبي معمر - عبد الله بن عمرو - كلاهما ، عن عبد الوارث ، به (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن أخيه عمر بن محمد ، عن عبد الله بن يسار - مولى ابن عمر - قال : أشهد لسمعت سالما يقول : قال عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة لا يدخلون الجنة ، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، والمرأة المترجلة - المتشبهة بالرجال - والديوث. وثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، ومُدْمِن الخمر ، والمنَّان بما أعطى".
ورواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يزيد بن زُرَيع ، عن عُمَر بن محمد العُمَري ، عن عبد الله بن يسار ، به (4).
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا الوليد بن كثير ، عن قَطَن بن وهب ، عن عُوَيْمر بن الأجدع ، عمن حدثه ، عن سالم بن عبد الله بن عمر قال : حدثني عبد الله بن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ثلاثة حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر ، والعاق ، والدَّيُّوث الذي يقر في أهله الخبث" (5).
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا شعبة ، حدثني رجل - من آل سهل بن حُنَيْف - ، عن محمد بن عَمَّار ، عن عمار بن ياسر ققال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يدخل الجنة دَيُّوث" (6).
يستشهد به لما قبله من الأحاديث.
وقال ابن ماجه : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا سَلام بن سَوَّار ، حدثنا كَثِير بن سُلَيم ، عن الضحاك بن مُزَاحِم : سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول] (7) " من أراد أن يلقى الله طاهرًا مُطَهَّرًا ، فليتزوج الحرائر".
__________
(1) في ف : "سننيهما"
(2) سنن الترمذي برقم (3177) وسنن أبي داود برقم (2051) وسنن النسائي (6/66).
(3) سنن أبي داود برقم (2052).
(4) المسند (2/134) وسنن النسائي (8/80).
(5) المسند (2/69) وقال الهيثمي في المجمع (8/147) : "فيه راوٍ لم يسم".
(6) مسند الطيالسي برقم (642).
(7) زيادة من ف ، أ.

(6/11)


في إسناده ضعف (1).
قال الإمام أبو نصر إسماعيل بن حَمَّاد الجوهري في كتاب "الصحاح في اللغة : " الدَّيُّوث القُنذُع وهو الذي لا غَيرَةَ له (2).
فأما الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب "النكاح" من (3) سننه : أخبرنا محمد بن إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة وغيره ، عن هارون ابن رئاب ، عن عبد الله بن عُبَيد بن عمير - وعبد الكريم ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن ابن عباس - عبدُ الكريم رفعه إلى ابن عباس ، وهارون لم يرفعه - قالا جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندي امرأة [هي] (4) من أحبِّ الناس إلي (5) وهي لا تمنع يد لامِس قال : "طلقها". قال : لا صبر لي عنها قال : "استمتع بها" ، ثم قال النسائي : هذا الحديث غير ثابت ، وعبد الكريم ليس بالقوي ، وهارون أثبت منه ، وقد أرسل الحديث وهو ثقة ، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم. (6).
قلت : وهو ابن أبي المخارق البصري المؤدب تابعي ضعيف الحديث ، وقد خالفه هارون بن رئاب ، وهو تابعي ثقة من رجال مسلم ، فحديثه المرسل أولى كما قال النسائي. لكن قد رواه النسائي في كتاب "الطلاق" ، عن إسحاق بن راهويه ، عن النضر بن شمَُيل (7) عن حماد بن سلمة ، عن هارون بن رئاب ، عن عبد الله بن عُبَيد بن عمير ، عن ابن عباس مسندا ، فذكره بهذا الإسناد ، رجاله على شرط مسلم ، إلا أن النسائي بعد روايته له قال : "وهذا خطأ ، والصواب مرسل" (8) ورواه غير النضر على الصواب.
وقد رواه النسائي أيضا وأبو داود ، عن الحسين بن حُرَيث ، أخبرنا الفضل بن موسى ، أخبرنا الحسين بن واقد ، عن عُمَارة بن أبي حفصة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وهذا إسناد جيد (9).
وقد اختلف الناس في هذا الحديث ما بين مُضَعِّف له ، كما تقدَّم ، عن النسائي ، وكما قال الإمام أحمد : هو حديث منكر.
وقال ابن قتيبة : إنما أراد أنها سخية لا تمنع سائلا. وحكاه النسائي في سننه ، عن بعضهم فقال : وقيل : "سخية تعطي" ، ورُدّ هذا بأنه لو كان المراد لقال : لا تَرُدّ يد ملتمس.
__________
(1) سنن ابن ماجه برقم (1862) ووجه ضعف إسناده ؛ لأن فيه كثير بن سليم ، وهو ضعيف ، وسلام هو ابن سليمان بن سوار المدائني ، قال ابن عدي : "عنده مناكير" وقال العقيلي : "في حديثه مناكير" قال ذلك البوصيري في مصباح الزجاجة (2/73).
(2) الصحاح (1/282).
(3) في ف ، أ : "في.
(4) زيادة من ف ، أ ، والنسائي.
(5) في ف : "لي".
(6) سنن النسائي (6/67)
(7) في ف ، أ : "إسماعيل".
(8) سنن النسائي (6/170).
(9) سنن النسائي (6/169).

(6/12)


وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

وقيل : المراد أن سجيتها لا تَرُدّ يد لامس ، لا أن المراد أن هذا واقع منها ، وأنها تفعل الفاحشة ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها. فإن زوجها - والحالة هذه - يكون دَيّوثا ، وقد تقدم الوعيد على ذلك. ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد ، أمره رسولُ صلى الله عليه وسلم بفراقها. فلما ذكر أنه يحبها أباح له البقاء معها ؛ لأن محبته لها محققة ، ووقوع الفاحشة منها متوهم (1) فلا يُصَار إلى الضرر العاجل لتوهم الآجل ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قالوا : فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج ، كما قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله :
حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو خالد ، عن ابن أبي ذئب ، قال : سمعت [شعبة] (2) - مولى ابن عباس ، رضي الله عنه - قال : سمعت ابن عباس وسأله رجل قال (3) : إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حَرّم الله عز وجل عليّ ، فرزق الله عز وجل من ذلك توبة ، فأردت أن أتزوجها ، فقال أناس : إن الزاني لا ينكح إلا زانية. فقال ابن عباس : ليس هذا في هذا ، انكحها فما كان من إثم فعلي.
وقد ادعى طائفة آخرون من العلماء أن هذه الآية منسوخة ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد ابن المسيب. قال : ذُكر عنده { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } قال : كان يقال : نسختها [الآية] (4) التي بعدها : { وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ } [النور : 32] قال : كان يقال الأيامى من المسلمين.
وهكذا رواه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الناسخ والمنسوخ" له ، عن سعيد بن المسيب. ونص على ذلك أيضا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله.
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة ، وهي الحرة البالغة العفيفة ، فإذا كان المقذوف رجلا فكذلك يجلد قاذفه أيضًا ، ليس في هذا نزاع بين العلماء. فأما إن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله ، رُدّ عنه الحد ؛ ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ، فأوجب على القاذف إذا لم يقم بينة على
__________
(1) في أ : "يتوهم".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في أ : "فقال".
(4) زيادة من ف ، أ.

(6/13)


وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

صحة ما قاله ثلاثة أحكام :
أحدها : أن يجلد ثمانين جلدة.
الثاني : أنه (1) ترد شهادته دائما.
الثالث : أن يكون فاسقًا ليس بعدل ، لا عند الله ولا عند الناس.
ثم قال تعالى : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، اختلف العلماء في هذا الاستثناء : هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط فترفع التوبة الفسق فقط ، ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب ، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة ؟ وأما الجلد فقد ذهب وانقضى ، سواء تاب أو أصر ، ولا حكم له بعد ذلك بلا خلاف - فذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته ، وارتفع عنه حكم الفسق. ونص عليه سعيد بن المسيب - سيد التابعين - وجماعة من السلف أيضًا.
وقال الإمام أبو حنيفة : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط ، فيرتفع الفسق بالتوبة ، ويبقى مردود الشهادة أبدًا. وممن ذهب إليه من السلف القاضي - شُرَيح ، وإبراهيم النَّخَعِيّ ، وسعيد بن جُبَيْر ، ومكحول ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم (2).
وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته وإن تاب ، إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان ، فحينئذ تقبل شهادته ، والله أعلم.
{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) }
هذه الآية الكريمة فيها فَرَج للأزواج وزيادة مخرج ، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة ، أن يلاعنها ، كما أمر الله عز وجل (3) وهو أن يحضرها إلى الإمام ، فيدعي عليها بما رماها به ، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء ، { إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي : فيما رماها به من الزنى ، { وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } فإذا قال ذلك ، بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وحرمت عليه أبدًا ، ويعطيها مهرها ، ويتوجه عليها حد الزنى ، ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن ، فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، أي : فيما رماها به ، { وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ولهذا قال : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ }
__________
(1) في ف : "أن".
(2) في ف : "جابر".
(3) في أ : "الله تعالى".

(6/14)


يعني : الحد ، { أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فخصها بالغضب ، كما أن الغالب أن الرجل لا ا فضيحة أهله ورميها بالزنى إلا وهو صادق معذور ، وهي تعلم صدقه فيما رماها به. ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها. والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه.
ثم ذكر تعالى لطفه بخلقه ، ورأفته بهم ، وشرعه (1) لهم الفرج والمخرج من شدة ما يكون فيه من الضيق ، فقال : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي : لحرجتم (2) ولشق عليكم كثير من أموركم ، { وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ } [أي] (3) : على عباده - وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة - { حَكِيمٌ } فيما يشرعه (4) ويأمر به وفيما ينهى عنه.
وقد وردت الأحاديث بمقتضى العمل بهذه الآية ، وذكر سبب نزولها ، وفيمن نزلت فيه من الصحابة ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، أخبرنا عَبَّاد بن منصور ، عن عكْرمَة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } ، قال سعد بن عبادة - وهو سيد الأنصار - : هكذا أنزلت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم" : يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ؟" قالوا : يا رسول الله ، لا تَلُمه فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج امرأة قَطّ [إلا بكرًا ، وما طلق امرأة له قط] (5) فاجترأ رجل منا أن يتزوجها ، من شدة غيرته. فقال سعد : والله - يا رسول الله - إني لأعلم أنها حق وأنها من الله ، ولكني قد تعجَبت أني لو وجدت لَكاعًا قد تَفَخَّذها رجل ، لم يكن لي أن أهيّجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته. قال : فما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية - وهو أحد الثلاثة الذين تِيبَ عليهم - فجاء من أرضه عشاء ، فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه ، وسمع بأذنيه ، فلم يُهَيّجه حتى أصبح ، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء ، فوجدتُ عندها رجلا فرأيت بعيني ، وسمعت بأذني. فَكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به ، واشتدّ عليه ، واجتمعت الأنصار فقالوا (6) : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة ، الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلالَ بن أمية ، ويبْطل شهادته في المسلمين (7). فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجًا. وقال هلال : يا رسول الله ، إني قد أرى ما اشتد عليك مما (8) جئت به ، والله يعلم إني لصادق. فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه ، إذ أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي - وكان إذا نزل عليه الوحي عرفوا ذلك ، في تَرَبُّد وجهه (9). يعني : فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي - فنزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } (10) الآية ، فَسُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "أبشر يا هلال ، قد جعل الله لك فرجًا ومخرجًا". فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي ، عز وجل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرسلوا إليها".
__________
(1) في ف ، أ : "في شرعه".
(2) في ف : "خرجتم".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في أ : "فيما شرعه".
(5) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(6) في ف : "فقالت".
(7) في هـ : "ويبطل شهادته في الناس" والمثبت من ف ، أ ، والمسند.
(8) في ف : "فيما".
(9) في أ : "جلده".
(10) في ف ، أ : (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله).

(6/15)


فأرسلوا إليها ، فجاءت ، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما ، وذكرهما وأخبرهما أن عذابَ الآخرة أشدّ من عذاب الدنيا. فقال هلال : والله - يا رسول الله - لقد صَدَقتُ عليها. فقالت : كذب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لاعنوا بينهما". فقيل لهلال : اشهد. فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فلما كان في الخامسة قيل له : يا هلال ، اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبةُ التي توجب عليك العذاب. فقال : والله لا يعذبني الله عليها ، كما لم يجلدني عليها. فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم قيل [لها : اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فلما كانت الخامسة قيل] (1) لها : اتقي الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبةُ التي توجب عليك العذاب. فتلكأت ساعة ، ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ، وقضى ألا [بيت لها عليه ولا] (2) قوت لها ، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ، ولا مُتَوَفى عنها. وقال : "إن جاءت به أصَيْهِب أرَيسح حَمْش الساقين فهو لهلال ، وإن جاءت به أورق جَعدًا جَمَاليًّا خَدلَّج الساقين سابغ الأليتين ، فهو الذي رميت به" فجاءت به أورق جعدا جماليًّا خدلج الساقين سابغ الأليتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن".
قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميرًا على مصر ، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب.
ورواه أبو داود عن الحسن بن عليّ ، عن يزيد (3) بن هارون ، به نحوه مختصرًا (4).
ولهذا الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة. فمنها ما قال البخاري : حدثني محمد بن بَشَّار ، حدثنا ابن أبي عَدِيّ ، عن هشام بن حسان ، حدثني عِكْرِمَة ، عن ابن عباس ؛ أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشَرِيك بن سَحْماء ، فقال رسول الله (5) صلى الله عليه وسلم : " البينة أو حَدُّ في ظهرك" فقال : يا رسول الله ، إذا أري (6) أحدنا على امرأته رجلا ينطلقُ يلتمس البينة ؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "البينة وإلا حدّ في ظهرك". فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن (7) الله ما يُبرئ ظهري (8) من الحد. فنزل جبريل ، وأنزل (9) عليه : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } ، فقرأ حتى بلغ : { إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : "الله يشهد أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب" ؟ ثم قامت فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وَقَّفُوها وقالوا : إنها مُوجبة. قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم. فمضت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أبْصِرُوها ، فإن جاءت به أكحلَ العينين ، سابغ الأليتين ، خَدَلَّج الساقين ، فهو لشَرِيك بن سَحْمَاءَ". فجاءت به كذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لولا ما مضى من كتاب الله ، لكان لي ولها شأن".
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) في ف : "زيد".
(4) المسند (1/238) وسنن أبي داود برقم (2256).
(5) [في ف ، أ : "النبي".
(6) في ف ، أ : "رأى".
(7) في ف : "ولينزل".
(8) في ف : "ما يطهرني".
(9) في ف : "فأنزل".

(6/16)


انفرد به البخاري من هذا الوجه (1) وقد رواه من غير وجه ، عن ابن عباس وغيره.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الزيادي (2) حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا صالح - وهو ابن عمر - حدثنا عاصم - يعني : ابن كُلَيْب - ، عن أبيه ، حدثني ابن عباس قال : جاء رجل إلى رسول الله ، فرمى امرأته برجل ، فكره ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يُرَدّده حتى أنزل الله : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ [إِلا أَنْفُسُهُمْ ] } (3) [فقرأ] (4) حتى فرغ من الآيتين ، فأرسل إليهما فدعاهما ، فقال : "إن الله ، عَزّ وجل ، قد أنزل فيكما". فدعا الرجل فقرأ عليه ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين. ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه ، فقال له : "كل شيء أهون عليه من لعنة الله". ثم أرسله فقال : { لَعْنتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } ثم دعاها بها ، فقرأ عليها ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها ، وقال : "ويحك. كل شيء أهون من غضب الله". ثم أرسلها ، فقالت : { غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما والله لأقضينّ بينكما قضاء فصلا". قال : فولدت ، فما رأيت مولودًا بالمدينة أكثر غاشية منه ، فقال : "إن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا ، وإن جاءت به لكذا وكذا فهو لكذا". فجاءت به يشبه الذي قُذفت به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال : سمعت سعيد بن جُبَير قال : سُئلْتُ عن المتلاعنين أيفرّق بينهما - في إمارة ابن الزبير ؟ فما دَرَيتُ ما أقول ، فقمت من مكاني إلى منزل ابن عمر فقلتُ : أبا عبد الرحمن ، المتلاعنان أيفرق بينهما ؟ فقال : سبحان الله ، إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل يرى امرأته على فاحشة فإن تَكَلَّم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك. فسكت فلم يجبه ، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال : الذي سألتك عنه قد ابتُليت به. فأنزل الله عز وجل هذه الآيات (5) في سورة النور : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } حتى بلغ : { أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ }. فبدأ بالرجل فوعظه وذكَّره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة ، فقال : والذي بعثك بالحق ما كَذَبْتُك. ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذَكَّرها ، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقالت : والذي بعثك بالحق (6) إنه لكاذب. قال : فبدأ بالرجل ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ثم فَرَّقَ بينهما.
رواه النسائي في التفسير ، من حديث عبد الملك بن أبي سليمان ، به (7) وأخرجاه في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (8).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4747)
(2) في أ : "الرمادي".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "الآية".
(6) زيادة من ف ، أ. في ف ، أ : "والذي بعثك بالحق ما كذبتك".
(7) المسند (2/19) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11357).
(8) صحيح البخاري برقم (5312) وصحيح مسلم برقم (1493).

(6/17)


علقمة ، عن عبد الله قال : كنَّا جلوسًا عشية الجمعة في المسجد ، فقال رجل من الأنصار : أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت عن غيظ ؟ والله لَئن أصبحت صالحًا لأسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : فسأله. فقال : يا رسول الله ، إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت على غيظ ؟ اللهم احكم. قال : فأنزل آية اللعان ، فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به.
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من طُرُق ، عن سليمان بن مِهْران الأعمش ، به (1).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو كامل : حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثنا ابن شهاب ، عن سهل بن سعد ، قال : جاء عُوَيْمر إلى عاصم بن عَدِيّ فقال : سَلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت رجلا وجد رجلا مع امرأته فقتله ، أيقتل به أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعابَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم المسائل. قال : فلقيه عُوَيمر فقال : ما صنعْتَ ؟ قال : ما صنعت! إنك لم تأتني بخير ؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب المسائل فقال عُوَيمر : والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلأسألنه. فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيهما. قال : فدعا بهما فَلاعَن بينهما. قال عُوَيمر : لئن انطلقتُ بها يا رسول الله لقد كذبت عليها. قال : ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة المتلاعنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أبصروها ، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين ، فلا أراه إلا قد صدق ، وإن جاءت به أحيمر كأنه وَحَرَة فلا أراه إلا كاذبًا". فجاءت به على النعت المكروه.
أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا الترمذي ، من طرق ، عن الزهري ، به (2).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسحاق بن الضيف ، حدثنا النضر بن شُمَيْل ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن زيد (3) بن يُثَيْع ، عن حذيفة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : "لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به ؟ قال : كنت والله فاعلا به شرًا. قال : "فأنتَ يا عمر ؟". قال : كنتُ والله فاعلا كنت أقول : لعن الله الأعجز ، وإنه خبيث. قال : فنزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ }
ثم قال : لا نعلم أحدًا أسنده إلا النَّضر بن شُميْل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، ثم رواه من حديث الثوري عن [أبي] (4) أبي إسحاق ، عن زيد بن يُثَيْع مرسلا فالله أعلم (5).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجَرْمي ، حدثنا مُخَلَّدُ بن الحسين ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لأول لعان كان في الإسلام أن شَرِيكَ بن سَحْمَاء قذَفه هلال بن أمية بامرأته ، فرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أربعة شهود وإلا فَحَدٌّ في ظهرك" ، فقال : يا رسول الله ، إن الله يعلم إني لصادق ، ولينزلن الله عليك ما يبرئ به ظهري من الجلد. فأنزل الله آية اللعان : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ } إلى آخر الآية. قال : فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى" فشهد بذلك أربع
__________
(1) المسند (1/421) وصحيح مسلم برقم (1495).
(2) المسند (5/334) وصحيح البخاري برقم (4745) وصحيح مسلم برقم (1492) وسنن أبي داود برقم (2245) وسنن النسائي (6/143) وسنن ابن ماجه برقم (2066).
(3) في أ : "يزيد".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) مسند البزار برقم (2237) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/74) : "رجاله ثقات".

(6/18)


شهادات ، ثم قال له في الخامسة : "ولعنة الله عليك إن كنتَ من الكاذبين فيما رميتها به من الزنى" ، ففعل. ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنى". فشهدت بذلك أربع شهادات ، ثم قال لها في الخامسة : "وغَضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنى" ، فقالت : فلما كانت الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة ، حتى ظنوا أنها ستعترف ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم. فمضت على القول ، ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقال : "انظروه ، فإن جاءت به جَعْدًا حَمْشَ الساقين ، فهو لشَرِيك بن سَحْماء ، وإن جاءت به أبيض سبطا فَضيء (1) العينين فهو لهلال بن أمية". فجاءت به آدَمَ جَعَدًا حَمْش الساقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لولا ما نزل فيهما من كتاب الله ، لكان لي ولها شأن" (2).
__________
(1) في أ : "قضي قصير".
(2) مسند أبي يعلى (5/207) ورواه مسلم في صحيحه برقم (1496) من طريق هشام ، عن محمد ، به

(6/19)


إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)

{ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) }
هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله تعالى (1) لها ولنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، فأنزل [الله عز وجل] (2) براءتها صيانة لعرض الرسول ، عليه أفضل الصلاة والسلام (3) فقال : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ } أي : جماعة منكم ، يعني : ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة ، فكان المقدَّم في هذه اللعنة (4) عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ، فإنه كان يجمعه ويستوشيه ، حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين ، فتكلموا به ، وَجوّزه آخرون منهم ، وبقي الأمر كذلك قريبًا من شهر ، حتى نزل القرآن ، وسياق ذلك في الأحاديث الصحيحة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسَيَّب ، وعُرْوَة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص ، وعُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله ، وكلّهم قد حدثني بطائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصًا ، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني ، وبعض حديثهم يصدق بعضًا : ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سَفَرًا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعدما أنزل الحجابُ ، فأنا أحْمَل في هَودَجي وأنزل فيه مسيرنا ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غَزْوه وقفل ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري ، فإذا عقْد من جَزْع ظَفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي ، فحَبَسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب - وهم يحسبون أني فيه - قالت : وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يُهَلَبْهُنَّ ولم يغشهن اللحمُ ، إنما يأكلن العُلقْة من الطعام. فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ،
__________
(1) في أ : "جل شأنه".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في أ : "صلى الله عليه وسلم"
(4) في أ : "العصبة".

(6/19)


ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إليّ. فبينا أنا جالسة في منزلي ، غلبتني عيني فنمت - وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذّكْوَانَي قد عَرَس من وراء الجيش - فادّلج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني. وقد كان يراني قبل أن يُضْرَب عليّ الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخَمَّرت وجهي بجلبابي ، والله ما كلمني كلمة ، ولا سمعت منه كلمة غيرَ استرجاعه ، حتى أناخ راحلته ، فَوْطئ على يَدها فركبتُها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا مُوغرين في نحر الظهيرة. فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كِبْره عبد الله بن أبي بن سلول. فَقَدمتُ المدينة فاشتكيت حين قدمنا شهرا ، والناس يُفيضُون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يَريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللُّطْف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ، ثم يقول : " كيف تِيكُم ؟" فذلك يَرِيبني ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعدما نَقِهْت وخَرَجَت معي أم مِسطْح قبل المناصع - وهو مُتَبَرَّزُنا - ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن نَتَّخذَ الكُنُف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه ، وكنا نتأذى بالكُنُف أن نتخذها في بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسْطَح - وهي ابنة أبي رُهْم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر ، خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسْطَح بن أثاثة بن عَبَّاد بن المطلب - فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قِبَلَ بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسْطح في مِرْطها فقالت : "تَعس مسْطح". فقلت لها : بئسما قلت ، تسبين رجلا [قد (1) ] شهد (2) بدرا ؟ قالت : أي هَنْتاه ، ألم (3) تسمعي ما قال ؟ قلت : وماذا قال ؟ فأخبرتني (4) بقول أهل الإفك ، فازددتُ مرضًا إلى (5) مرضي. فلما رجعتُ إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ، ثم قال : "كيف تِيكُم ؟" قلت : أتأذن لي أن آتي أبويّ ؟ - قالت : وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبَلهما - فأذنَ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجئت أبوي فقلت لأمي : يا أمَّتاه ، ما يتحدث الناس ؟ فقالت : أيْ بُنَية (6) هَوِّني عليك ، فوالله لقلما كانت (7) امرأة قَطّ وضيئة ، عند رجل يحبها ، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : فقلتُ : سبحان الله أوقد تحدث الناس بهذا ؟ قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت ، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلِيّا (8) وأسامة بن زيد حين استلبث الوحيُ ، يستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه له من الود ، فقال : يا رسول الله ، هم أهلك ، ولا نعلم إلا خيرا. وأما علي بن أبي طالب فقال : لم يُضيق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدُقك الخبر. قالت (9) : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بَريرة ، فقال : "أيْ بَرِيرة ، هل رأيت من شيء يَريبك من عائشة ؟" فقالت له بريرة : والذي بعثك بالحق إنْ رأيت عليها أمرا قَطّ أغمصُه عليها ، أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سَلُول. قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر : "يا معشر المسلمين مَنْ يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرًا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي". فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج ، أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت : فقام سعد بن عبادة - وهو سيد الخزرج ، وكان رجلا صالحا ، ولكن احتملته الحمية - فقال لسعد ابن معاذ : لعمر الله لا تقتله (10) ولا تقدر على قتله. فقام أُسَيد بن حُضير _ وهو ابن عم سعد بن معاذ - فقال لسعد بن عبادة : كذبت! لعمر الله (11) لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هَمّوا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم [قائم على المنبر. فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم] (12) يُخَفّضهم حتى سكتوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : وبكيت يومي ذلك ، لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي. قالت : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي ، استأذَنَت عليَّ امرأة من الأنصار ، فأذنتُ لها ، فجلست تبكي معي ، فبينا نحن على ذلك (13) إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس - قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل [لي] (14) ما قيل ، وقد لبث شهرًا لا يُوحَى إليه في شأني شيء - قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال : أما بعد يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألْمَمْت بذنب فاستغفري الله ثم توبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب ، تاب الله عليه. قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قَلَص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت (15) لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : والله ما أدري ما أقول للرسول. فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله.فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله. قالت : فقلت - وأنا جارية حديثة السن ، لا أحفظ (16) كثيرا من القرآن - : [إني] (17) والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا ، حتى استقر (18) في أنفسكم وصدقتم به ، ولَئَن (19) قلت لكم إني بريئة - والله يعلم إني بريئة - لا تصدقوني [بذلك. ولئن اعترفت لكم بأمر والله عز وجل يعلم أني بريئة تصدقوني] (20) ، وإني والله ما أجد لي (21) ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف : 18]. قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، قالت : وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله مُبَرِّئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ، ولشأني كان أحقرَ في نفسي من أن يتكلم الله فِيَّ بأمر يُتلى. ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤْيا يبرّئني الله بها. قالت : فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه ، ولا خرج من أهل البيت أحد ، حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي ، حتى إنه لينحدر منه مثل الجُمَان من العرق في اليوم الشاتي ، من ثِقَل القول الذي أنزل عليه. قالت (22) : فلما سُرّيَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، كان أول كلمة تكلم بها أن قال : "أبشري يا عائشة ، أما الله (23) فقد بَرّأك (24). فقالت لي أمي : قومي إليه. فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل ، هو الذي أنزل براءتي (25) وأنزل الله عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } عشر آيات. فأنزل الله هذه الآيات في براءتي قالت : فقال أبو بكر ، رضي الله عنه - وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره - : والله لا أنفق عليه شيئًا أبدا بعد الذي قال لعائشة. فأنزل الله عز وجل : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى قوله { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ } [النور : 22] فقال أبو بكر (26) : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، فَرجّع إلى مِسْطَح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال : لا أنزعها منه أبدًا.
قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينبَ بنت جحش - زوجَ النبي صلى الله عليه وسلم - ، عن أمري : يا زينب ، ما علمت ، أوما رأيت [أو ما بلغك] (27) ؟ فقالت يا رسول الله ، أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمتُ إلا خيرًا. قالت عائشة : وهي التي كانت تُسَاميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (28) ، فعصمها الله تعالى بالورع.وطَفِقَت أختها حَمنة بنت جحش تحارب لها ، فهلكت فيمن هلك.
قال ابن شهاب : فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط.
أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، من حديث الزهري (29). وهكذا رواه ابن إسحاق ، عن الزهري كذلك ، قال : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن عائشة. وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري ، عن عمرة ، عن عائشة (30) بنحو (31) ما تقدم ، والله أعلم (32).
ثم قال البخاري : وقال أبو أسامة ، عن هشام بن عُرْوة قال : أخبَرَني أبي ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما ذُكرَ من شأني الذي ذُكر وما عَلمتُ به ، قام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فيَّ خطيبا ، فتشهد فَحَمِدَ الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : "أما بعد ، أشيروا عَلَيّ في أناس أبَنُوا أهلي ، وَايمُ الله ما علمت على أهلي من سوء (33) ، وأبَنُوهم بمَن والله ما علمتُ عليه من سوء قطّ ، ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر ، ولا غبت في سفر إلا غاب معي". فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : ائذن يا رسول الله أن نضرب أعناقهم ، فقام رجل من الخزرج - وكانت أمّ حسان [بن ثابت] (34) من رهط ذلك الرجل - فقال : كذبت ، أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببتَ أن تُضرب أعناقهم. حتى كاد أن يكون بين الأوس والخزرج شَرٌّ في المسجد ، وما عَلمتُ. فلما كان مساء ذلك اليوم ، خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ، فعَثَرتْ فقالت : تَعس مسطح ، فقلت : أيْ أمّ ، أتسبين ابنك ؟ وسكتت ، ثم عَثَرت الثانية فقالت : تَعس مسطح. فقلت لها : أيْ أمّ ، تسبين ابنك ؟ ثم عَثَرت الثالثة فقالت : تَعس مسْطح. فانتهرتها فقالت : والله ما أسبه إلا فيك ، فقلت : في أيّ شأني ؟ قالت : فَبَقَرت لي الحديث. فقلت : وقد كان هذا ؟ قالت : نعم والله. فرجعتُ إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه قليلا ولا كثيرًا ، ووُعكت ، وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلني إلى بيت أبي. فأرسل معي الغلام ، فدخلتُ الدار ، فوجدت أم رومان في السّفل ، وأبا بكر فوق البيت يقرأ ، فقالت [لي] (35) أمي : ما جاء بك يا بنية ؟ فأخبرتها ، وذكرتُ لها الحديث ، وإذا هو لم يبلغ منها مثل ما بلغ مني ، [فقالت : يا بنية ، خَفِّضي عليك الشأن ؛ فإنه - والله - لَقَلَّما كانت امرأة
__________
(1) زيادة من ف ، أ : والمسند.
(2) في أ : "شاهد".
(3) في ف : "أولم".
(4) في ف ، أ : "وماذا قال ؟ قالت : فأخبرتني".
(5) في أ : "على".
(6) في ف ، أ : "يا بنية".
(7) في ف : "ما كانت".
(8) في المسند : "علي بن أبي طالب"
(9) في ف : "قال".
(10) في ف : "لعمر والله لنقتلنه".
(11) في ف : "والله".
(12) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(13) في ف ، أ : "كذلك".
(14) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(15) في ف ، أ : "قلت".
(16) في ف ، أ : "لا أقرأ".
(17) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(18) في ف ، أ : "استقرت".
(19) في ف : "وإن".
(20) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(21) في ف : "والله إني لا أجد لي".
(22) في ف : "ذلك".
(23) في ف ، أ : "والله".
(24) في ف ، أ : "فقد برأك الله".
(25) في أ : "هو الذي برأني.
(26) في ف ، أ : "فقال أبو بكر : أي والله".
(27) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(28) في ف ، أ : "رسول الله".
(29) المسند (6/194) وصحيح البخاري برقم (4750) وصحيح مسلم برقم (2770).
(30) في ف ، أ : "عمرة ، أخبرني أبي ، عن عائشة".
(31) في ف : "نحو".
(32) رواه ابن هشام في السيرة (2/297) من طريق ابن إسحاق ، ورواه الحافظ ابن ديزيل في جزئه برقم (2) من طريق أبي أويس ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري ، عن عمرة ، عن عائشة.
(33) في ف ، أ : "ما علمت على أهلي إلا خيرا ، أو ما علمت على أهلي من سوء".
(34) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(35) في ف ، أ : "فقالت لي أمي".

(6/20)


حسناء ، عند رجل يحبها ، لها ضرائر إلا حَسَدنها ، وقيل فيها وإذا هو لم يبلغ منها ما بلغ مني ، فقلت : وقد عَلِم به أبي ؟ قالت : نعم. قلت : ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم] (1).فاستَعْبَرْتُ وبكيت ، فسمعَ أبو بكر صوتي ، وهو فوق البيت يقرأ ، فنزل فقال لأمي : ما شأنها ؟ قالت : بلغها الذي ذُكر من شأنها. ففاضت عيناه وقال (2) : أقسمت عليك - أيْ بُنَيّة - إلا رجعت إلى بيتك فَرَجعتُ ، ولقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي ، فسأل عني خادمي (3) فقالت : لا والله ما علمت عليها عيبا ، إلا أنها كانت ترقد حتى تدخل الشاة فتأكل خَميرها - أو : عجينها - وانتهرها بعض أصحابه فقال : اصدُقي رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به ، فقالت : سبحان الله. والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبْر الذهب الأحمر. وبلغ الأمر ذلك الرجلَ الذي قيل له ، فقال : سبحان الله. والله ما كَشَفت كَنَف أنثى قط - قالت عائشة : فقتل شهيدا في سبيل الله - قالت : وأصبح أبواي عندي ، فلم يزالا حتى دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صَلّى العصر ، ثم دخل وقد اكتنفَني أبواي ، عن يميني وعن شمالي ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : "أما بعد يا عائشة ، إن كنت قارفت سُوءًا أو ظَلَمت فتوبي إلى الله ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده". قالت : وقد جاءت امرأة من الأنصار ، فهي (4) جالسة بالباب ، فقلت : ألا تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئًا ؟ فوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالتفت إلى أبي ، فقلت له : أجبْه. قال : فماذا أقول ؟ فالتفتُ إلى أمي فقلت : أجيبيه. قالت : أقول ماذا ؟ فلما لم يجيباه ، تَشَّهدتُ فحمدتُ الله وأثنيت عليه بما هو أهله ، ثم قلت : أما بعد ، فَوَالله لَئن قلت لكم إني لم أفعل - والله عز وجل يشهد إني لصادقة - ما ذاك بنافعي عندكم ، لقد تكلمتم به ، وأشْربته قلوبكم ، وإن قلت : إني قد فعلت - والله يعلم أني لم أفعل - لتقولُنَ : قد باءت به على نفسها ، وإني - والله - ما أجد لي ولكم مثلا - والتمستُ اسم يعقوب فلم أقدر عليه - إلا أبا يوسف حين قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف : 18] ، وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته ، فسكتنا ، فَرُفع عنه وإني لأتبين السرور في وجهه ، وهو يمسح جبينه ويقول : "أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك" قالت : وكنت (5) أشد ما كنتُ غضبًا ، فقال لي أبواي : قومي [إليه] (6) فقلت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ، ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي ، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غَيَّرتموه ، وكانت عائشة تقول : أما زينب بنت جحش فقد عصمها الله بدينها ، فلم تقل إلا خيرًا. وأما أختها حَمنة بنت جحش ، فهلكت فيمن هلك. وكان الذي يتكلم به (7) مسطح وحسان بن ثابت. وأما المنافق عبد الله بن أبي بن سلول فهو الذي [كان] (8) يستوشيه ويجمعه ، وهو الذي تولى كِبْرَه منهم هو وحمنة. قالت : وحلف أبو بكر ألا ينفع مسطحًا بنافعة أبدًا ، فأنزل الله : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى آخر الآية ، يعني : أبا بكر ، { وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ } يعني : مسطحا ، إلى قوله : { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور : 22]. فقال أبو بكر : بلى والله يا رَبّنا ، إنا لنُحِبّ أن تغفر لنا وعاد له بما كان يصنع.
هكذا رواه البخاري من هذا الوجه مُعَلَّقا بصيغة الجزم (9) عن أبي أسامة حماد بن أسامة [أحد
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(2) في ف : "فقال".
(3) في ف ، أ : "خادمتي".
(4) في ف : "وهي".
(5) في ف : "فكنت".
(6) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(7) في ف : "فيه".
(8) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(9) صحيح البخاري برقم (4757).

(6/23)


الأئمة الثقات. وقد رواه ابن جرير في تفسيره ، عن سفيان بن وَكيع ، عن أبي أسامة] (1) به مطولا مثله أو نحوه. (2) ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن أبي أسامة ، ببعضه.
وقال الإمام أحمد : حَدَثنا هُشَيْم ، أخبرنا عمر (3) بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لما نزل عُذْري من السماء ، جاءني النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني بذلك ، فقلت : نَحمدُ الله لا نَحمدك (4).
وقال الإمام أحمد : حدثني ابن أبي عَدِيّ ، عن محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عَمْرَةَ ، عن عائشة قالت : لما نزل عُذْري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك ، وتلا القرآن ، فلما نزل أَمَر برجلين وامرأة فَضُربوا حدهم (5).
وأخرجه أهل السنن الأربعة ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن. ووقع عند أبي داود تسميتهم : حسان بن ثابت ، ومِسْطح بن أثاثة ، وحَمْنة بنت جحش.
فهذه طرق متعددة ، عن أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها (6).
وقد رُوي من حديث أمها أمّ رومان ، رضي الله عنها ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا علي بن عاصم ، أخبرنا حُصَين ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن أم رومان قالت : بينا أنا عند عائشة ، إذ دخلت عليها (7) امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله - بابنها - وفعل. فقالت عائشة : ولم ؟ قالت : إنه كان فيمن حَدَّث الحديث. قالت عائشة : وأي حديث ؟ قالت : كذا وكذا. قالت : وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، وبلغ أبا بكر ؟ قالت : نعم ، فخرت عائشة ، رضي الله عنها ، مغشيا عليها ، فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض. قالت : فقمت فدثرتها ، قالت : وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "ما شأن هذه ؟" قلت : يا رسول الله ، أخذتها حمى بنافض. قال : فلعله في حديث تُحُدِّث به". قالت : فاستوت له عائشة قاعدة فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ، ولئن اعتذرت إليكم لا تُعذرُوني ، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه { وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف : 18] قالت : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عذرها ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أبو بكر ، [فدخل فقال : "يا عائشة ، إن الله تعالى قد أنزل عذرك". فقالت : بحمد الله لا بحمدك. فقال لها أبو بكر : تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم. قالت : فكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعوله أبو بكر] (8) فحلف أبو بكر ألا يصله ، فأنزل الله : { وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } إلى آخر الآية[النور : 22] ، قال أبو بكر : بلى ، فوصله.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) تفسير الطبري (18/74) ورواه الحافظ ابن ديزيل في جزئه برقم (1) من طريق إسماعيل بن أبي أويس ، عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة مثله.
(3) في أ : "عمرو".
(4) المسند (6/30).
(5) المسند (6/35) وسنن أبي داود برقم (4474) وسنن الترمذي برقم (3181) والنسائي في السنن الكبرى برقم (7351) وسنن ابن ماجه برقم (2567).
(6) في ف : "وغيرهم".
(7) في ف : "علينا".
(8) زيادة من ف ، أ ، والمسند.

(6/24)


تفرد به البخاري دون مسلم ، من طريق حُصَين (1) وقد رواه البخاري ، عن موسى بن إسماعيل ، عن أبي عَوَانة - وعن محمد بن سلام - ، عن محمد بن فضيل ، كلاهما عن حصين ، به (2) وفي لفظ أبي عوانة : حدثتني أم رومان. وهذا صريح في سماع مسروق منها ، وقد أنكر ذلك جماعة من الحفاظ ، منهم الخطيب البغدادي ، وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الخطيب : وقد كان مسروق يرسله فيقول : "سئلت أم رومان" ، ويسوقه ، فلعل بعضهم كتب "سُئلت" بألف ، فاعتقد الراوي أنها "سَألت" ، فظنه متصلا. قال الخطيب : "وقد رواه البخاري كذلك ، ولم تظهر (3) له علته". كذا قال ، والله أعلم.
فقوله : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ } أي : بالكذب والبهت والافتراء ، { عُصْبَةٌ } أي : جماعة منكم ، { لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ } أي : يا آل أبي بكر { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي : في الدنيا والآخرة ، لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة ، وإظهار شرف لهم باعتناء الله بعائشة أم المؤمنين ، حيث أنزل الله تعالى براءتها في القرآن العظيم الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 42] ولهذا لما دخل عليها ابن عباس ، رضي الله عنه (4) وهي في سياق الموت ، قال لها : أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يحبك ، ولم يتزوج بكرًا غيرك ، وأنزل (5) براءتك من السماء (6).
وقال ابن جرير في تفسيره : حدثني محمد بن عثمان الواسطي ، حدثنا جعفر بن عون ، عن المعلى بن عرفان ، عن محمد بن عبد الله بن جَحْش قال : تفاخَرَت عائشةُ وزينبُ ، رضي الله عنهما ، فقالت زينب : أنا التي نزل تزوُّجي [من السماء] (7) قال : وقالت عائشة : أنا التي نزل عُذري في كتابه ، حين حملني ابن المعطل على الراحلة. فقالت لها زينب : يا عائشة ، ما قلت حين ركبتيها ؟ قالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل. قالت : قلت كلمة المؤمنين (8).
وقوله : { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ } أي : لكل من تكلم في هذه القضية ورَمَى أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، بشيء من الفاحشة ، نصيب عظيم من العذاب.
{ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ } (9) قيل : ابتدأ به. وقيل : الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه ، { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : على ذلك.
ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي بن سَلُول - قبحه الله ولعنه - وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث ، وقال ذلك مجاهد وغير واحد.
وقيل : بل المراد به حسان بن ثابت ، وهو قول غريب ، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما
__________
(1) المسند (6/367) وصحيح البخاري برقم (4751).
(2) صحيح البخاري برقم (4143) من رواية موسى بن إسماعيل ، وبرقم (3388) من رواية محمد بن سلام.
(3) في ف : "يظهر".
(4) في ف : "عنها".
(5) في ف : "ونزلت".
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (4753).
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) تفسير الطبري (18/70).
(9) في ف ، أ : "كبره منهم".

(6/25)


لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)

قد يدل على ذلك لما كان لإيراده كبير فائدة ، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب ومآثر ، وأحسن محاسنه أنه كان يَذُب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [بشعره] (1) ، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هاجهم وجبريل معك"
وقال الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق قال : كنتُ عندَ عائشة ، رضي الله عنها ، فدخل حسان بن ثابت ، فأمرت فألقي له وسادة ، فلما خرج قلت لعائشة : ما تصنعين بهذا ؟ يعني : يدخل عليك - وفي رواية قيل لها : أتأذنين لهذا يدخل عليك ، وقد قال الله : { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؟ قالت : وأيُّ عذاب أشدّ من العمى - وكان قد ذهب بصره - لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم. ثم قالت : إنه كان يُنافحُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها [شعرا] (2) يمتدحها به ، فقال :
حَصَان رَزَانٌ ما تُزَنّ (3) بريبة... وتُصْبح غَرْثَى من لُحوم الغَوَافل...
فقالت : أما أنت فلست كذلك. وفي رواية : لكنك لست كذلك (4).
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن قَزْعَة ، حدثنا سلمة بن علقمة ، حدثنا داود ، عن عامر ، عن عائشة أنها قالت : ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان ، ولا تمثلت به إلا رجوت له الجنة ، قوله لأبي سفيان - يعني ابن [الحارث] (5) بن عبد المطلب - :
هَجَوتَ مُحَمَّدا فَأجبتُ (6) عنه... وَعندَ الله في ذاك الجزاءُ...
فَإنَ أبي وَوَالده وعِرْضي... لعرْضِ مُحَمَّد منكم وقاءُ...
أَتَشْتُمُه ، ولستَ لَه بكُفءٍ?... فَشَرُّكُمَا لخَيْركُمَا الفدَاءُ...
لِسَانِي صَارمٌ لا عَيْبَ فِيه... وَبَحْرِي لا تُكَدِّرُه الدِّلاءُ...
فقيل : يا أم المؤمنين ، أليس هذا لغوا ؟ قالت : لا إنما اللغو ما قيل عند النساء. قيل : أليس الله يقول { وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، قالت : أليس قد أصابه [عذاب] (7) عظيم ؟ [أليس] (8) قد ذهب بصره وكُنِّع بالسيف ؟ تعني : الضربة التي ضربه إياها (9) صفوان بن المعطل [السلمي] (10) ، حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك ، فعلاه بالسيف ، وكاد أن يقتله (11).
{ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) }
هذا تأديب من الله للمؤمنين في قضية (12) عائشة ، رضي الله عنها ، حين أفاض بعضهم في
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف : "ما ترن".
(4) صحيح البخاري برقم (4146) حدثني بشر بن خالد ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن الأعمش ، به.
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "وأجبت".
(7) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(8) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(9) في ف : "ضربها إياه".
(10) زيادة من ف ، أ.
(11) تفسير الطبري (18/69).
(12) في ف : "قصة".

(6/26)


ذلك الكلام السيئ ، وما ذكر من شأن الإفك ، فقال : { لَوْلا } بمعنى : هلا { إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } أي : ذلك الكلام ، أي : الذي رميت به أم المؤمنين { ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } أي : قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم ، فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى.
وقد قيل : إنها نزلت في أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته ، رضي الله عنهما ، كما قال الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار ، عن أبيه ، عن بعض رجال بني النجار ؛ أن أبا أيوب خالدَ بن زيد قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب ، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ، رضي الله عنها ؟ قال : نعم ، وذلك الكذب. أكنتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟ قالت : لا والله ما كنتُ لأفعله. قال : فعائشة والله خير منك. قال : فلما نزل القرآن ذكر الله ، عز وجل ، مَنْ قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ } [النور : 11] وذلك حسان وأصحابه ، الذين قالوا ما قالوا ، ثم قال : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ } (1) الآية ، أي : كما قال أبو أيوب وصاحبته (2).
وقال محمد بن عمر الواقدي : حدثني ابن أبي حبيبة (3) عن داود بن الحصين ، عن أبي سفيان ، عن أفلح مولى أبي أيوب ، أن أم أيوب قالت لأبي أيوب : ألا تسمع (4) ما يقول الناس في عائشة ؟ قال : بلى ، وذلك الكذب ، أفكنت يا أم أيوب [فاعلة ذلك] (5) ؟ قالت : لا والله. قال : فعائشة والله خير منك. فلما نزل القرآن ، وذكر أهل الإفك ، قال الله عز وجل : { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } يعني : أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قال.
ويقال : إنما قالها أبي بن كعب.
وقوله : { ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا } أي : هَلا ظنوا الخير ، فإن أم المؤمنين أهله وأولى به ، هذا ما يتعلق بالباطن ، { وَقَالُوا } أي : بألسنتهم { هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ } أي : كذب ظاهر على أم المؤمنين ، فإن الذي وقع لم يكن ريبة ، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جَهْرَة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة ، والجيش بكماله يشاهدون ذلك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، لو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا (6) جَهْرَة ، ولا كانا يُقدمان على مثل ذلك على رؤوس الأشهاد ، بل كان يكون هذا - لو قُدر - خفية مستورا ، فتعيَّن أن ما جاء به أهل الإفك مما رَمَوا به أم المؤمنين هو الكذب البحت ، والقول الزور ، والرّعُونة الفاحشة [الفاجرة] (7) والصفقة الخاسرة.
قال الله تعالى : { لَوْلا } أي : هلا { جَاءُوا عَلَيْهِ } أي : على ما قالوه { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } يشهدون على صحة ما جاءوا به { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } أي : في حكم الله كَذَبَةٌ فاجرون (8).
__________
(1) في ف ، أ : "ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا".
(2) رواه الطبري في تفسيره (18/77).
(3) في ف ، أ : "حبيب".
(4) في ف : "تستمع".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "هذا".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف : "فجرة".

(6/27)


وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) }
يقول [الله] (1) : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أيها الخائضون في شأن عائشة ، بأن قبل توبتكم وإنابتكم إليه في الدنيا ، وعفا عنكم لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الآخرة ، { لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ } ، من قضية الإفك ، { عَذَابٌ عَظِيمٌ }. وهذا فيمن عنده إيمان رزقه الله بسببه التوبة إليه ، كمِسْطَح ، وحسان ، وحَمْنةَ بنت جحش ، أخت زينبَ بنت جحش. فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وأضرابه ، فليس أولئك مرادين في هذه الآية ؛ لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه. وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل معين ، يكون مطلقًا مشروطا بعدم التوبة ، أو ما يقابله من عَمَل صالح يوازنُه أو يَرجح عليه.
ثم قال تعالى : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } قال مجاهد ، وسعيد بن جبير : أي : يرويه بعضكم عن بعض ، يقول هذا : سمعته من فلان ، وقال فلان كذا ، وذكر بعضهم كذا.
وقرأ آخرون " إِذْ تَلقُونَه بِأَلْسِنَتِكُمْ ". وفي صحيح البخاري عن عائشة : أنها كانت تقرؤها كذلك (2) وتقول : هو مِنْ وَلَق القول. يعني : الكذب الذي يستمر صاحبه عليه (3) ، تقول العرب : وَلَق فلان في السير : إذا استمر فيه (4) ، والقراءة الأولى أشهر ، وعليها الجمهور ، ولكن الثانية مَرْويَّة عن أم المؤمنين عائشة.
قال ابن أبي حاتم : حدَّثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو أسامة ، عن نافع بن عمر (5) ، عن ابن أبي مليكة ، [عن عائشة أنها كانت تقرأ : " إِذْ تَلقُونَه " وتقول : إنما هو وَلَق القول - والوَلَق : الكذب. قال ابن أبي مليكة (6) ] : هي أعلم به من غيرها.
وقوله : { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي : تقولون ما لا تعلمون.
ثم قال تعالى : { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } أي : تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين ، وتحسبون ذلك يسيرا [سهلا] (7) ولو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هَيِّنا ، فكيف وهي زوجة النبي الأمي ، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ، فعظيم عند الله أن يقال في زوجة رسوله ما قيل! الله يغار لهذا ، وهو سبحانه وتعالى ، لا يُقَدِّر على زوجة نبي من أنبيائه ذلك ، حاشا وكَلا ولما [لم يكن ذلك] (8) فكيف يكون هذا في سيدة نساء الأنبياء ، وزوجة سيد ولد آدم على الإطلاق في الدنيا والآخرة ؟! ولهذا قال تعالى { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } ، وفي الصحيحين :
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4144 ، 4752).
(3) في ف : "فيه".
(4) صحيح البخاري برقم (4144).
(5) في ف ، أ : "نافع ، عن ابن عمر".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) زيادة من ف ، أ.

(6/28)


وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)

إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله ، لا يدري ما تَبْلُغ ، يهوي بها في النار أبْعَد ما بين السماء والأرض" وفي رواية : "لا يلقي لها بالا" (1).
{ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) }
هذا تأديب آخر بعد الأول : الآمر بالظن خيرا أي : إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة (2) فأولى ينبغي الظن بهم خيرا ، وألا يشعر نفسه سوى ذلك ، ثم إن عَلِق بنفسه شيء من ذلك - وسوسةً أو خيالا - فلا ينبغي أن يتكلم به ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفسها (3) ما لم تقل أو تعمل" أخرجاه في الصحيحين (4).
وقال الله تعالى : { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا } أي : ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } أي : سبحان الله أن يقال هذا الكلام على (5) زوجة [نبيه و] (6) رسوله وحليلة خليله.
ثم قال تعالى : { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا } أي : ينهاكم الله متوعِّدًا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدًا ، أي : فيما يستقبل. فلهذا قال : { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : إن كنتم تؤمنون بالله وشرعه ، وتعظمون رسوله صلى الله عليه وسلم ، فأما من كان متصفا بالكفر فذاك له حكم آخر.
ثم قال : { وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ } أي : يوضح لكم الأحكام الشرعية والحِكَمَ القَدَريّة ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بما يصلح عباده ، حكيم في شَرْعه وقَدَره.
{ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) }
وهذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السيئ ، فقام بذهنه منه شيء ، وتكلم به ، فلا يكثر منه ويشيعه ويذيعه ، فقد قال تعالى (7) : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا } أي : يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح ، { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا } أي : بالحد ، وفي الآخرة بالعذاب ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : فردوا الأمور إليه تَرْشُدُوا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا ميمون بن أبي محمد المَرَئيّ ، حدثنا محمد بن عَبّاد المخزومي ، عن ثَوْبَان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تُؤذوا عِبادَ الله ولا تُعيِّروهم ، ولا تطلبوا
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6478) وصحيح مسلم برقم (2988) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(2) في أ : "الحرة".
(3) في ف : "نفسها".
(4) صحيح البخاري برقم (5269) وصحيح مسلم برقم (127) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(5) في ف : "عن".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ف ، أ : "قال الله تعالى".

(6/29)


وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)

عوراتهم ، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم ، طلب الله عورته ، حتى يفضحه في بيته" (1).
{ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) }
__________
(1) المسند (5/279).

(6/30)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) }
يقول تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي : لولا هذا لكان أمر آخر ، ولكنه تعالى رؤوف بعباده ، رحيم بهم. فتاب على من تاب إليه من هذه [القضية] (1) وطَهَّر من طَهَّر منهم بالحد الذي أقيم عليه.
ثم قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } يعني : طرائقه ومسالكه وما يأمر به ، { وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } : هذا تنفير وتحذير من ذلك ، بأفصح العبارة وأوجزها وأبلغها وأحسنها.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } : عمله. وقال عكرمة : نزغاته. وقال قتادة : كل معصية فهي من خطوات الشيطان. وقال أبو مِجْلَز : النذور في المعاصي من خطوات الشيطان.
وقال مسروق : سأل رجل ابن مسعود فقال : إني حرمت أن آكل طعامًا ؟ فقال : هذا من نزعات الشيطان ، كَفِّر عن يمينك ، وكُل.
وقال الشعبي في رجل نَذَر ذَبْح ولده : هذا من نزغات الشيطان ، وأفتاه أن يذبح كبشًا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حسان بن عبد الله المصري ، حدثنا السريّ بن يحيى ، عن سليمان التيمي ، عن أبي رافع قال : غضبت عليَّ امرأتي فقالت : هي يومًا يهودية ، ويومًا نصرانية ، وكل مملوك لها حر ، إن لم تطلق امرأتك. فأتيت عبد الله بن عمر فقال : إنما هذه من نزغات الشيطان. وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة ، وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة ، وأتيت عاصم بن عمر ، فقال مثل ذلك.
ثم قال تعالى : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا } أي : لولا هو يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه ، ويزكي النفوس من شركها وفجورها ودسها وما فيها من أخلاق رديئة ، كل بحسبه ، لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيرا { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } أي : من خلقه ، ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي.
وقوله : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } أي : سميع لأقوال عباده (2) { عليم } بهم ، مَنْ يستحق منهم الهدى والضلال.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "العباد".

(6/30)


وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)

{ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) }
يقول تعالى : { وَلا يَأْتَلِ } من الأليَّة ، [وهي : الحلف] (1) أي : لا يحلف { أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ } أي : الطَّول والصدقة والإحسان { وَالسَّعَة } أي : الجِدَةَ { أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي : لا تحلفوا ألا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين. وهذه (2) في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام ؛ ولهذا قال : { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } أي : عما تقدم منهم من الإساءة والأذى ، وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم.
وهذه الآية نزلت في الصدِّيق ، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال ، كما تقدم في الحديث. فلما أنزل الله براءةَ أم المؤمنين عائشة ، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت ، وتاب الله على مَن كان تكلم من المؤمنين في ذلك ، وأقيم الحد على مَن أقيم عليه (3) - شَرَع تبارك وتعالى ، وله الفضل والمنة ، يعطفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه ، وهو مِسْطَح بن أثاثة ، فإنه كان ابن خالة الصديق ، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر ، رضي الله عنه ، وكان من المهاجرين في سبيل الله ، وقد وَلَق وَلْقَة (4) تاب الله عليه منها ، وضُرب الحد عليها. وكان الصديق ، رضي الله عنه ، معروفًا بالمعروف ، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله : { أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : فإن الجزاء من جنس العمل ، فكما تغفر (5) عن المذنب إليك نغفر (6) لك ، وكما تصفح نصفح (7) عنك. فعند ذلك قال الصديق : بلى ، والله إنا نحب - يا ربنا - أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة ، وقال : والله لا أنزعها منه أبدًا ، في مقابلة ما كان قال : والله لا (8) أنفعه بنافعة أبدًا ، فلهذا كان الصدّيق هو الصديق [رضي الله عنه وعن بنته] (9).
{ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) }
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات - خُرِّج مخرج الغالب - المؤمنات.
فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة ، ولا سيما التي كانت سبب النزول ، وهي عائشة بنت الصديق ، رضي الله عنهما.
وقد أجمع العلماء ، رحمهم الله ، قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به [بعد هذا
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "وهذا".
(3) في ف ، أ : "من أقيم الحد عليه".
(4) في ف : "زلق زلقة".
(5) في ف : "يغفر".
(6) في ف : "يغفر".
(7) في ف : "يصفح".
(8) في ف : "ما".
(9) زيادة من ف ، أ.

(6/31)


الذي ذكر] (1) في هذه الآية ، فإنه كافر ؛ لأنه معاند للقرآن. وفي بقية أمهات المؤمنين قولان : أصحهما أنهن كهي ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } [الأحزاب : 57] (2).
وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة ، فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبد الله بن خِرَاش ، عن العَوَّام ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [قال] (3) : نزلت في عائشة خاصة.
وكذا قال [سعيد بن جبير و] (4) مقاتل بن حيان ، وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال :
حدثنا أحمد بن عَبْدَة الضَّبِّي ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه قال : قالت عائشة : رُميت بما رميت به وأنا غافلة ، فبلغني بعد ذلك. قالت : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عندي (5) إذ أوحي ، (6) إليه. قالت : وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السُّبات ، وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي ، ثم استوى جالسا يمسح على وجهه ، وقال : "يا عائشة أبشري". قالت : قلت : بحمد الله لا بحمدك. فقرأ : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } ، حتى قرأ : (7) { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } [النور : 26] (8).
هكذا أورده ، وليس فيه أن الحكم خاص بها ، وإنما فيه أنها سبب النزول دون غيرها ، وإن كان الحكم يعمها كغيرها ، ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله ، والله أعلم.
وقال الضحاك ، وأبو الجوزاء ، وسلمة بن نُبَيْط : المراد بها أزواج النبيّ خاصة ، دون غيرهن من النساء.
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } الآية : يعني أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، رماهن أهل النفاق ، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب ، وباؤوا بسخط من الله ، فكان (9) ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل بعد ذلك : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إلى قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، فأنزل الله الجلد والتوبة ، فالتوبة تقبل ، والشهادة تُرَدّ.
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا العوام بن حوشب ، عن شيخ (10) من بني أسد ، عن ابن عباس - قال : فسر سورة النور ، فلما أتى على هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا } الآية - قال : في شأن عائشة ، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي مبهمة ، وليست لهم توبة ، ثم قرأ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إلى قوله : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } الآية [النور : 4 ، 5] ، قال : فجعل
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "والآخرة ولهم عذاب مهين" وهو خطأ.
(3) زيادة في ف ، أ.
(4) زيادة في ف ، أ.
(5) في ف ، أ. "عندي جالس".
(6) في ف ، أ. "أوحى الله تعالى إليه".
(7) في ف ، أ : "بلغ".
(8) تفسير الطبري (18/82).
(9) في ف : "وكان".
(10) في ف ، أ : "العوام بن حوشب عن حوشب عن شيخ".

(6/32)


لهؤلاء توبة ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة ، قال : فهمّ بعضُ القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه ، من حسن ما فسَّر به سورة النور (1).
فقوله : "وهي مبهمة" ، أي : عامة في تحريم قذف كل محصنة ، ولَعْنته في الدنيا والآخرة.
وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا في عائشة ، ومن صنع مثل هذا أيضًا اليوم في المسلمات ، فله ما قال الله ، عز وجل ، ولكن عائشة كانت إمامَ ذلك.
وقد اختار ابن جرير عمومها ، وهو الصحيح ، ويعضد العموم (2) ما رواه ابن أبي حاتم :
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن - ابن أخي ابن وهب - حدثنا عمي ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد ، عن أبي الغَيث (3) عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اجتنبوا السبع الموبقات". قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : "الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سليمان بن بلال ، به (4).
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عَمْرو بن خالد الحَذَّاء الحراني ، حدثني أبي ، (ح) وحدثنا أبو شُعَيب الحراني ، حدثنا جدي أحمد بن أبي شُعَيب ، حدثنا موسى بن أعين ، عن ليث ، عن أبي إسحاق ، عن صِلَة بن زُفَر ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة" (5).
وقوله { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو يحيى الرازي ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن مُطَرِّف ، عن المِنْهَال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنهم - يعني : المشركين - إذا رَأوا أنه لا يدخلُ الجنةَ إلا أهل الصلاة ، قالوا : تعالوا حتى نجحد. فيجحدون فيختم [الله] (6) على أفواههم ، وتشهد أيديهم وأرجلهم ، ولا يكتمون الله حديثًا.
وقال ابن جرير ، وابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى عليه وسلم قال : "إذا كان يوم القيامة ، عُرف الكافر بعمله ، فيجحد ويخاصم ، فيقال له : هؤلاء جيرانك يشهدون عليك. فيقول : كذبوا. فيقول : أهلك وعشيرتك. فيقول : كذبوا ، فيقول : احلفوا. فيحلفون ، ثم يُصمِتهم الله ، فتشهد عليهم أيديهم وألسنتهم ، ثم يدخلهم النار" (7).
وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة الكوفي ، حدثنا
__________
(1) تفسير الطبري (18/83).
(2) في ف ، أ : "الصحيح".
(3) في أ : "المغيب".
(4) صحيح البخاري برقم (2766) وصحيح مسلم برقم (89).
(5) المعجم الكبير للطبراني (3/196) وقال الهيثمي في المجمع (6/279) : "وفيه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف وقد يحسن حديثه ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) تفسير الطبري (18/105) ورواه أبو يعلى في مسنده برقم (1392) من طريق ابن لهيعة ، عن دراج عن أبي الهيثم به ، ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.

(6/33)


الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

مِنْجَاب بن الحارث التميمي (1) حدثنا أبو عامر الأسَدِيَ ، حدثنا سفيان ، عن عبيد المُكْتب ، عن فُضَيل بن عمرو الفُقَيمي ، عن الشعبي ، عن أنس بن مالك قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نَوَاجذُه ، ثم قال : "أتدرون (2) مِمَّ أضحك ؟" قلنا : الله ورسوله أعلم. قال : "من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : يا رب ، ألم تُجِرْني من الظلم ؟ فيقول : بلى. فيقول : لا أجيز عليَّ شاهدًا إلا من نفسي. فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا ، وبالكرام عليك شهودا (3) فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي فتنطق بعمله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول : بُعدًا لَكُنّ وسُحْقًا ، فعنكُنَّ كنتُ أناضل".
وقد رواه مسلم والنسائي جميعا ، عن أبي بكر بن أبي النضر ، عن أبيه ، عن عُبَيد الله (4) الأشجعي ، عن سفيان الثوري ، به (5) ثم قال النسائي : لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان الثوري غير (6) الأشجعي ، وهو حديث غريب ، والله أعلم. هكذا قال.
وقال قتادة : ابن آدم ، والله إن عليك لَشُهودًا غيرَ متهمة من بدنك ، فراقبهم واتق الله في سرك (7) وعلانيتك ، فإنه لا يخفى عليه خافية ، والظلمة عنده ضوء (8) والسر عنده علانية ، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن ، فليفعل ولا قوة إلا بالله.
وقوله : { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } قال ابن عباس : { دِينَهُمُ } أي : حسابهم ، وكل ما في القرآن { دِينَهُمُ } أي : حسابهم. وكذا قال غير واحد.
ثم إن قراءة الجمهور بنصب { الْحَقَّ } على أنه صفة لدينهم ، وقرأ مجاهد بالرفع ، على أنه نعت الجلالة. وقرأها بعض السلف في مصحف أبي بن كعب : "يومئذ يوفيهم الله الحقّ دينهم" (9).
وقوله : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } أي : وعده ووعيده وحسابه هو العدل ، الذي لا جور فيه.
{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) }
قال ابن عباس : الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول. والطيبات من القول ، للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من القول. قال : ونزلت في عائشة وأهل الإفك.
وهكذا رُوي عن مجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جُبَير ، والشعبي ، والحسن بن أبي الحسن البصري ، وحبيب بن أبي ثابت ، والضحاك. واختاره ابن جرير ، ووجَّهَهُ بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس ، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس ، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم
__________
(1) في ف : "التيمي".
(2) في ف : "تدرون".
(3) في ف ، أ : "شهيدا".
(4) في أ : "عبد الله".
(5) صحيح مسلم برقم (2969).
(6) في أ : "إلا".
(7) في أ : "سرائرك".
(8) في ف : "ضياء".
(9) في أ : "يوفيهم الله دينهم الحق".

(6/34)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)

أولى به ، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم ؛ ولهذا قال : { أُولَئِكَ (1) مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ }.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء.
وهذا - أيضًا - يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم ، أي : ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة ؛ لأنه أطيب من كل طيب من البشر ، ولو كانت خبيثة لما صلحت له ، لا شرعا ولا قدرا ؛ ولهذا قال : { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } أي : هم بُعَداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان ، { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } أي : بسبب ما قيل فيهم من الكذب ، { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي : عند الله في جنات النعيم. وفيه وعد بأن تكون زوجة النبيّ صلى الله عليه وسلم في الجنة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن مسلم ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن يزيد بن عبد الرحمن ، عن الحكم ، عن يحيى بن الجزار قال : جاء أسير (2) بن جابر إلى عبد الله فقال : لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم بكلام أعجبني. فقال عبد الله : إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة غير طيبة (3) تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها ، فيسمعها (4) رجل عنده يَتُلّها فيضمها إليه. وإن الرجل الفاجر يكون في قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها ، فيسمعها (5) الرجل الذي عنده يَتُلُّها (6) فيضمها إليه ، ثم قرأ عبد الله : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ }.
ويشبه هذا ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعا : "مثل الذي يسمع الحكمة ثم لا يُحدِّث إلا بشرِّ ما سمع ، كمثل رجل جاء إلى صاحب غنم ، فقال : أجْزِرني شاة. فقال : اذهب فَخُذ بأذُن أيها شئتَ. فذهب فأخذ بأذن كَلْب الغنم" (7) وفي الحديث الآخر : "الحكمة (8) ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها" (9).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) }
__________
(1) في ف ، أ : "فأولئك" وهو خطأ".
(2) في ف ، أ : "أسيد".
(3) في أ : "طائل".
(4) في أ : "فسمعها".
(5) في أ : "فسمعها".
(6) في أ : "مثلها".
(7) المسند (2/353) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(8) في أ : "الكلمة".
(9) رواه الترمذي في السنن برقم (2687) وابن ماجه في السنن برقم (4169) من طريق عبد الله بن نمير ، عن إبراهيم بن الفضل ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه. وقال الترمذي : "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وإبراهيم ابن الفضل المدني المخزومي ، يضعف في الحديث من قبل حفظه".

(6/35)


فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)

{ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) }

(6/35)


هذه آداب شرعية ، أدّب الله بها عباده المؤمنين ، وذلك في الاستئذان أمر الله المؤمنين ألا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم حتى يستأنسوا ، أي : يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده. وينبغي أن يستأذن ثلاثًا ، فإن أذن له ، وإلا انصرف ، كما ثبت (1) في الصحيح : أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثًا ، فلم يؤذن له ، انصرف. ثم قال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن ؟ ائذنوا له. فطلبوه فوجدوه قد ذهب ، فلما جاء بعد ذلك قال : ما رَجَعَك ؟ قال : إني استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا استأذن أحدكم ثلاثًا ، فلم يؤذن له ، فلينصرف". فقال : لَتَأتِيَنَّ على هذا ببينة وإلا أوجعتك ضربًا. فذهب إلى ملأ من الأنصار ، فذكر لهم ما قال عمر ، فقالوا : لا يشهد (2) لك إلا أصغرنا. فقام معه أبو سعيد الخُدْريّ فأخبر عمر بذلك ، فقال : ألهاني عنه الصَّفْق بالأسواق (3).
وقال الإمام أحمد : حَدَّثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر عن ثابت ، عن أنس - أو : غيره (4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال : "السلام عليك ورحمة الله". فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثًا. ورد عليه (5) سعد ثلاثًا ولم يُسْمعه. فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ، واتبعه سعد فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، ما سلمتَ تسليمة إلا وهي بأذني ، ولقد رَدَدْت عليك ولم أُسْمِعك ، وأردتُ أن أستكثر من سلامك ومن البركة. ثم أدخله البيت ، فقرَّب إليه زَبيبًا ، فأكل نبي الله. فلما فرغ قال : "أكل طعامكم الأبرار ، وصَلَّت عليكم الملائكة ، وأفطر عندكم الصائمون" (6).
وقد رَوَى أبو داود والنسائي ، من حديث أبي عمرو الأوزاعي : سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن سعد (7) بن زرارة ، عن قيس بن سعد - هو ابن عبادة - قال : زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا ، فقال : "السلام عليكم ورحمة الله". فردّ سعد ردًا خفيًا (8) ، قال قيس : فقلت : ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ذَرْه (9) يكثر علينا من السلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "السلام عليكم ورحمة الله". فرد سعد رَدًا خفيًا (10) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " السلام عليكم ورحمة الله" ثم رَجَع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتبعه سعد فقال : يا رسول الله ، إني كنت أسمع تسليمك ، وأرد عليك ردّا خفيًا (11) ، لتكثر علينا من السلام. قال : فانصرف معه [رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر له سعد بغسل ، فاغتسل ، ثم ناوله ملْحَفَة مصبوغة] (12) بزعفران - أو : وَرس - فاشتمل بها ، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول : "اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة". قال : ثم أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام ، فلما أراد الانصراف قرّب إليه سعد حمارًا قد وَطَّأ عليه بقطيفة ، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد : يا قيس ، اصحب رسول
__________
(1) في أ : "وثبت".
(2) في أ : "لا نشهد".
(3) صحيح البخاري برقم (6245) وصحيح مسلم برقم (2153).
(4) في أ : "وغيره".
(5) في أ : "على".
(6) المسند (3/138).
(7) في أ : "أسعد".
(8) في أ : "خفيفا".
(9) في أ : "ودعه".
(10) في أ : "خفيفا".
(11) في أ : "خفيفا".
(12) زيادة من أ ، وأبي داود.

(6/36)


الله صلى الله عليه وسلم. قال قيس : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اركب". فأبيت ، فقال : "إما أن تركب وإما أن تنصرف". قال : فانصرفت.
وقد روي هذا من وجه آخر (1) فهو حديث جيد قويّ ، والله أعلم.
ثم ليُعْلمْ أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ، ولكن ليَكن (2) البابُ ، عن يمينه أو يساره ؛ لما رواه أبو داود : حدثنا مُؤَمَّل بن الفضل الحراني - في آخرين - قالوا : حدثنا بَقيَّة ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن بُسْر (3) قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم ، لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول : "السلام عليكم ، السلام عليكم". وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور. تَفَرد به أبو داود (4).
وقال أبو داود أيضًا : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، (ح) قال أبو داود : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن طلحة ، عن هُزَيل قال : جاء رجل - قال عثمان : سعد - فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن ، فقام على الباب - قال عثمان : مستقبل الباب - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "هكذا عنك - أو : هكذا - فإنما الاستئذان من النظر" (5).
وقد رواه أبو داود الطيالسي ، عن سفيان الثوري ، عن الأعمش عن طلحة بن مُصَرّف ، عن رجل ، عن سعد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود من حديثه (6).
وفي الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فَخَذَفته بحصاة ، ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح" (7).
وأخرج الجماعة من حديث شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في دَين كان على أبي ، فدققت الباب ، فقال : "من ذا" ؟ قلت : أنا. قال : "أنا ، أنا" كأنه كرهه (8).
وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يُعرَف صاحبها حتى يُفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها ، وإلا فكل أحد يُعبِّر عن نفسه بـ"أنا" ، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان ، الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : الاستئناس : الاستئذان. وكذا قال غيرُ واحد.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في هذه الآية : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا } (9)
__________
(1) سنن أبي داود برقم (5185) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10157) ، (50159) من طريق عبد الله ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سعد بن عبادة زائرا ، فذكر الحديث.
(2) في أ : "ليكون".
(3) في أ : "بشر".
(4) سنن أبي داود برقم (5186).
(5) سنن أبي داود برقم (5174).
(6) سنن أبي داود برقم (5175).
(7) صحيح البخاري برقم (6902) وصحيح مسلم برقم (2158).
(8) صحيح البخاري برقم (6250) وصحيح مسلم برقم (2155) وسنن أبي داود برقم (5187) وسنن الترمذي برقم (2711) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10160) وسنن ابن ماجه برقم (3709).
(9) في ف ، أ زيادة : "على أهلها".

(6/37)


قال : إنما هي خطأ من الكاتب ، "حَتَّى تَسْتَأذنُوا وَتُسَلِّمُوا".
وهكذا رواه (1) هُشَيم ، عن أبي بشر - وهو جعفر بن إياس - به. وروى معاذ بن سليمان ، عن جعفر بن إياس ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، بمثله ، وزاد : وكان ابن عباس يقرأ : "حَتَّى تَسْتَأذنُوا وَتُسَلِّمُوا" ، وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب رضي الله عنه.
وهذا غريب جدًّا عن ابن عباس.
وقال هُشَيْم (2) أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم قال : في مصحف ابن مسعود : "حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا". وهذا أيضًا رواية عن ابن عباس ، وهو اختيار ابن جرير.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح ، حدثنا ابن جُرَيْج ، أخبرني عمرو بن أبي سفيان : أن عمرو بن أبي صفوان أخبره ، أن كَلَدَةَ بن الحنبل أخبره ، أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بِلبَأ وجَدَايَة وضَغَابيس ، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي. قال : فدخلتُ عليه ولم أسلم ولم أستأذن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ارجع فقل : السلام عليكم ، أأدخل ؟" وذلك بعدما أسلم صفوان.
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج ، به (3) وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديثه.
وقال أبو داود : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو الأحوَص ، عن منصور ، عن رِبْعي قال : حدثنا (4) رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في بيته ، فقال : أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه : "اخرج إلى هذا فعلِّمه الاستئذان ، فقل له : قل : السلام عليكم ، أأدخل ؟" فسمعه الرجل فقال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل (5).
وقال هُشَيْم : أخبرنا منصور ، عن ابن سِيرِين - وأخبرنا يونس بن عبيد ، عن عَمْرو بن سعيد الثقفي - أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أألج - أو : أنلج ؟ - فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمة له ، يقال لها روضة : "قومي إلى هذا فعلميه ، فإنه لا يحسن يستأذن ، فقولي له يقول : السلام عليكم ، أأدخل". فسمعها الرجل ، فقالها ، فقال : "ادخل" (6).
وقال الترمذي : حدثنا الفضل بن الصباح ، حدثنا سعيد بن زكريا ، عن عَنْبَسَة بن عبد الرحمن ، عن محمد بن زاذان ، عن محمد بن المنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "السلام قبل الكلام" (7).
ثم قال الترمذي : عنبسة ضعيف الحديث ذاهب ، ومحمد بن زاذان مُنكَر الحديث.
وقال هُشَيْم : قال مغيرة : قال مجاهد : جاء ابن عمر من حاجة ، وقد آذاه الرمضاء ، فأتى فُسْطَاط امرأة من قريش ، فقال : السلام عليكم ، أأدخل ؟ قالت : ادخل بسلام. فأعاد ، فأعادت ،
__________
(1) في أ : "روى".
(2) في أ : "سفيان".
(3) المسند (3/414).
(4) في أ : "جاء".
(5) سنن أبي داود برقم (5177).
(6) رواه الطبري في تفسيره (18/87).
(7) سنن الترمذي برقم (2699).

(6/38)


وهو يُرَاوح بين قدميه ، قال : قولي : ادخل. قالت : ادخل ، فدخل (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو نعيم الأحول ، حدثنا خالد بن إياس ، حدثتني جدتي أم إياس قالت : كنت في أربع نسوة نستأذن [على عائشة] (2) فقلت : ندخل ؟ قالت : لا قلن (3) لصاحبتكن : تستأذن. فقالت : السلام عليكم ، أندخل ؟ قالت : ادخلوا ، ثم قالت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } [الآية] (4).
وقال هُشَيْم : أخبرنا أشعث بن سَوَّار ، عن كُرْدُوس ، عن ابن مسعود قال : عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم. قال أشعث ، عن عدي بن ثابت : إن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله ، إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها ، والد ولا ولد ، وإنه لا يزال يدخل عليَّ رجل من أهلي ، وأنا على تلك الحال ؟ قال : فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } (5).
وقال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، قال : ثلاث آيات جَحَدها الناس : قال الله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات : 13] ، قال : ويقولون : إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتًا. قال : والإذن كله قد جحده الناس. قال : قلت : أستأذن على أخواتي أيتام في حجري ، معي في بيت واحد ؟ قال : نعم. فرددت ليرخِّص (6) لي ، فأبى. قال : تحب أن تراها عريانة ؟ قلت : لا. قال : فاستأذن. قال : فراجعته أيضًا ، فقال : أتحب أن تطيع الله ؟ قلت : نعم. قال : فاستأذن.
قال ابن جُرَيْج : وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال : ما من امرأة أكره إلي أن أرى عريتها من ذات محرم. قال : وكان يشدد في ذلك.
وقال ابن جريج ، عن الزهري : سمعت هُزَيل بن شُرَحْبِيل الأوْدِيّ الأعمى ، أنه سمع ابن مسعود يقول : عليكم الإذن على أمهاتكم.
وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا.
وهذا محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به ، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها.
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا القاسم ، [قال] (7) حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن حازم ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن يحيى بن الجزار ، عن ابن أخي زينب - امرأة عبد الله بن مسعود - ، عن زينب ، رضي الله عنها ، قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب ، تنحنح وبزق ؛ كراهية (8) أن يهجُم منا على أمر يكرهه (9). إسناد صحيح.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان الواسطي ، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر ، حدثنا
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (18/87).
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في هـ ، أ : "قلت" ، والمثبت من ف.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) رواه الطبري في تفسيره (18/87).
(6) في أ : "علي لمن خضرني".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف : "كراهة".
(9) تفسير الطبري (18/88).

(6/39)


الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي هُبَيْرة (1) قال : كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس - تكلم ورفع صوته.
[و] (2) قال مجاهد : { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } قال : تنحنحوا - أو (3) تَنَخَّموا.
وعن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، أنه قال : إذا دخل الرجل بيته ، استحب له أن يتنحنح ، أو يحرك نعليه.
ولهذا جاء في الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه نَهَى أن يطرق الرجل أهلَه طُروقًا - وفي رواية : ليلا يَتَخوَّنهم (4).
وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهارًا ، فأناخ بظاهرها ، وقال : "انتظروا حتى تدخل عشاء - يعني : آخر النهار - حتى تمتشط الشَّعثَة وتستحدّ المُغَيبة" (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدَّثنا أبي ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الرحمن (6) بن سليمان ، عن واصل بن السائب ، حدَّثني أبو سَوْرة ابن أخي أبي أيوب ، عن أبي أيوب قال : قلت : يا رسول الله ، هذا السلام ، فما الاستئناس ؟ قال : "يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ، ويتنحنح فَيؤذنُ أهل البيت". هذا حديث غريب (7).
وقال قتادة في قوله : { حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } قال : هو الاستئذان. [قال : وكان يقال : الاستئذان] (8) ثلاث ، فمن لم يؤذن له فيهن ، فليرجع. أما الأولى : فليسمع (9) الحي ، وأما الثانية : فليأخذوا حذرهم ، وأما الثالثة : فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا رَدّوا. ولا تَقِفَنَّ على باب قوم ردوك عن بابهم ؛ فإن للناس حاجات ولهم أشغال ، والله أولى بالعذر.
وقال مقاتل بن حيَّان في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه ، لا يسلم عليه ، ويقول : حُيِّيتَ صباحًا وحييت مساء ، وكان ذلك تحية القوم بينهم. وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم ، ويقول : "قد دخلتُ". فيشق ذلك على الرجل ، ولعله يكون مع أهله ، فغَيَّر الله ذلك كله ، في ستر وعفة ، وجعله نقيًا نزهًا من الدنس والقذر والدرَن ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا }.
__________
(1) في ف ، أ : "عبيدة".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في أ : "و".
(4) صحيح البخاري برقم (5243 ، 5244) وصحيح مسلم برقم (715) من حديث جابر ، رضي الله عنه.
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (5247) من حديث جابر ، رضي الله عنه.
(6) في هـ : "عبد الرحيم".
(7) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (8/607) ومن طريقه ابن ماجه في السنن برقم (3707) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/178) ، حدثنا عبيد بن غنام ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، به. قال البوصيري في الزوائد (3/171) : "هذا إسناد ضعيف".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ف ، أ : "فليستمع".

(6/40)


قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)

وهذا الذي قاله مقاتل حسن ؛ ولهذا قال : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ } يعني : الاستئذان خير لكم ، بمعنى : هو خير للطرفين (1) : للمستأذن ولأهل البيت ، {. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }.
وقوله : { فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } ، وذلك لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه ، فإن شاء أذن ، وإن شاء لم يأذن { وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } أي : إذا رَدُّوكم من الباب قبل الإذن أو بعده { فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } أي : رجوعكم (2) أزكى لكم وأطهر { وَاللهُ بِمَا تَعْملُونَ عَلِيم }.
وقال قتادة : قال بعض المهاجرين : لقد طلبتُ عمري كلَّه هذه الآية فما أدركتها : أن أستأذنَ على بعض إخواني ، فيقول لي : "ارجع" ، فأرجع وأنا مغتبط (3) [لقوله] (4) ، { وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }.
وقال سعيد بن جبير : { وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا } أي : لا تقفوا على أبواب الناس.
وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } هذه الآية الكريمة أخصُّ من التي (5) قبلها ، وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد ، إذا كان له (6) فيها متاع ، بغير إذن ، كالبيت المعد للضيف ، إذا أذن له فيه أول مرة ، كفى.
قال ابن جريج : قال ابن عباس : { لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } ، ثم نسخ واستثني فقال { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ } : وكذا روي عن عكرمة ، والحسن البصري.
وقال آخرون : هي بيوت التجار ، كالخانات (7) ومنازل الأسفار ، وبيوت مكة ، وغير ذلك. واختار ذلك ابن جرير ، وحكاه ، عن جماعة. والأول أظهر ، والله أعلم.
وقال مالك عن زيد بن أسلم : هي بيوت الشَّعر.
{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) }.
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم ، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه (8) ، وأن يغضوا (9) أبصارهم عن المحارم ، فإن اتفق أن وقع البصر على مُحرَّم من غير قصد ، فليصرف بصره عنه سريعًا ، كما رواه مسلم في صحيحه ، من حديث يونس بن عُبَيد ، عن عمرو بن سعيد ، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير ، عن جده جرير بن عبد الله البجلي ، رضي الله عنه ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن نظرة الفجأة ، فأمرني أن أصرفَ بَصَري.
وكذا رواه الإمام أحمد ، عن هُشَيْم ، عن يونس بن عبيد ، به. ورواه أبو داود والترمذي
__________
(1) في ف ، أ : "من الطرفين".
(2) في أ : "رجعوكم".
(3) في أ : "متغيط".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في أ : "الذي".
(6) في ف ، أ : "لكم".
(7) في أ : "في الخانات".
(8) في ف : "إليهم".
(9) في ف : "يغمصوا".

(6/41)


والنسائي ، من حديثه أيضًا (1). وقال الترمذي : حسن صحيح. وفي رواية لبعضهم : فقال : "أطرقْ بصرك" ، يعني : انظر إلى الأرض. والصرف أعم ؛ فإنه قد يكون إلى الأرض ، وإلى (2) جهة أخرى ، والله أعلم.
وقال أبو داود : حدثنا إسماعيل بن موسى الفَزَاري ، حدثنا شَريك ، عن أبي ربيعة الإيادي ، عن عبد الله بن بُرَيْدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : "يا علي ، لا تتبع النظرة النظرةَ ، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة"
ورواه الترمذي من حديث شريك (3) ، وقال : غريب ، لا نعرفه إلا من حديثه.
وفي الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إياكم والجلوس على الطرقات". قالوا : يا رسول الله ، لا بد لنا من مجالسنا ، نتحدث فيها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أبيتم ، فأعطوا الطريق حقَّه". قالوا : وما حقّ الطريق يا رسول الله ؟ قال : "غَضُّ البصر ، وكَفُّ الأذى ، وردّ السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر" (4).
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا فضل (5) بن جبير : سمعت أبا أمامة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "اكفلوا لي بِستّ أكفل لكم بالجنة : إذا حدَّث أحدكم فلا يكذب ، وإذا اؤتمن فلا يَخُن ، وإذا وَعَد فلا يخلف. وغُضُّوا أبصاركم ، وكُفُّوا أيديكم ، واحفظوا فروجكم" (6).
وفي صحيح البخاري : "من يكفل (7) لي ما بين لَحْيَيه وما بين رجليه ، أكفل له الجنة" (8).
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال : كل ما عُصي الله به ، فهو كبيرة. وقد ذكر الطَّرْفين فقال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ }.
ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب ، كما قال بعض السلف : "النظر سهام سم إلى القلب" ؛ ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك ، فقال : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ }. وحفظُ الفَرج تارةً يكون بمنعه من الزنى ، كما قال { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [المعارج : 29 ، 30] وتارة يكون بحفظه من النظر إليه ، كما جاء في الحديث في مسند أحمد (9) والسنن :
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2159) والمسند (4/361) وسنن أبي داود برقم (2148) وسنن الترمذي برقم (2776) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9233).
(2) في أ : "أو إلى".
(3) سنن أبي داود برقم (2149) وسنن الترمذي برقم (2777).
(4) صحيح البخاري برقم (2465) وصحيح مسلم برقم (2121) من حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه.
(5) في هـ : "فضال".
(6) رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (7/392) من طريق أبي القاسم البغوي ، به. ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/314) وابن حبان في المجروحين (2/204) من طريق فضال بن جبير. ويقال : ابن زبير ، به. وقال ابن حبان : "فضال بن جبير لا يحل الاحتجاج به".
(7) في أ : "كفل".
(8) صحيح البخاري برقم (6474) من حديث سهل بن سعد ، رضي الله عنه.
(9) في أ : "المسند".

(6/42)


احفظ عورتك ، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" (1).
{ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } أي : أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم ، كما قيل : "مَنْ حفظ بصره ، أورثه الله نورًا في بصيرته". ويروى : "في قلبه".
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عتاب ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن عُبَيْد الله بن زَحْر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة [أوّل مَرّة] (2) ثم يَغُضّ بصره ، إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها" (3).
ورُوي هذا مرفوعًا عن ابن عمر ، وحذيفة ، وعائشة ، رضي الله عنهم (4) ولكن في إسنادها ضعف ، إلا أنها في الترغيب ، ومثله يتسامح فيه.
وفي الطبراني من طريق عبيد الله بن زَحْر ، ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة مرفوعا : "لَتغضُنَّ أبصاركم ، ولتحفظن فروجكم ، ولتقيمُنّ وجوهكم - أو : لتكسفن وجوهكم" (5).
وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن زهير التُّسْتُري قال : قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقرئ ، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر ، حدثنا هُرَيْم بن سفيان ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم ، من تركه مخافتي ، أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه" (6).
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ، كما قال تعالى : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [غافر : 19].
وفي الصحيح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كُتِبَ على ابن آدم حَظّه من الزنى ، أدرَكَ ذلك لا محالة. فَزنى العينين : النظر. وزنى اللسان : النطقُ. وزنى الأذنين : الاستماع. وزنى اليدين : البطش. وزنى الرجلين : الخطى. والنفس تمَنّى وتشتهي ، والفرج يُصَدِّق ذلك أو يُكذبه".
__________
(1) المسند (5/ 3 ، 4) وسنن أبي داود برقم (4017) وسنن ابن ماجه برقم (1920) من حديث معاوية بن حيدة ، رضي الله عنه.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) المسند (5/264). وفي إسناده عبيد الله بن زحر ، قال ابن حبان : "يروي الموضوعات عن الأثبات وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات ، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم أبو عبد الرحمن ، لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم".
(4) أما حديث حذيفة ، فرواه الحاكم في المستدرك (4/314) من طريق إسحاق القرشي ، عن هشيم ، عن عبد الرحمن ، عن إسحاق ، عن محارب ، عن صلة بن زفر ، عن حذيفة ، رضي الله عنه ، وصححه الحاكم ، وتعقبه الذهبي. قلت : إسحاق واه وعبد الرحمن هو الواسطي ضعفوه. وأما حديث ابن عمر ، فرواه أبو نعيم في الحلية (6/101) من طريق أبي اليمان ، عن أبي المهدي ، عن أبي الزاهرية ، عن كثير بن مرة ، عن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، وإسناده ضعيف جدا.
(5) المعجم الكبير (8/246) وعبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد والقاسم ضعفاء.
(6) المعجم الكبير (10/214) وقال الهيثمي في المجمع (8/63) : "وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف".

(6/43)


وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

رواه البخاري تعليقًا ، ومسلم مسندًا من وجه آخر (1) بنحو ما تقدم.
وقد قال كثير من السلف : إنهم كانوا ينهَون أن يحدَّ الرجل بَصَره (2) إلى الأمرد. وقد شَدَّد كثير من أئمة الصوفية في ذلك ، وحَرَّمه طائفة من أهل العلم ، لما فيه من الافتتان ، وشَدّد آخرون في ذلك كثيرًا جدًا.
وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو سعيد المدني (3) ، حدثنا عمر بن سهل المازني ، حدثني عمر بن محمد بن صُهْبَان ، حدثني صفوان بن سليم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل عين باكية (4) يوم القيامة ، إلا عينًا غَضّت عن محارم الله ، وعينًا سهِرت في سبيل الله ، وعينًا يخرج منها مثل رأس الذباب ، من خشية الله ، عز وجل" (5).
{ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) }
هذا (6) أمْرٌ من الله تعالى للنساء المؤمنات ، وغَيْرَة (7) منه لأزواجهنّ ، عباده المؤمنين ، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات. وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكره مقاتل بن حيَّان قال : بلغنا - والله أعلم - أن جابر بن عبد الله الأنصاري حَدَّث : أن "أسماء بنت مُرْشدَة" كانت في محل لها في بني حارثة ، فجعل النساء يدخلن عليها غير مُتَأزّرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل ، وتبدو صدورهن وذوائبهن ، فقالت أسماء : ما أقبح هذا. فأنزل الله : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } الآية.
فقوله تعالى : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } أي : عما حَرَّم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن. ولهذا ذهب [كثير من العلماء] (8) إلى أنه : لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا. واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي ، من حديث الزهري ، عن نبهان - مولى أم سلمة - أنه حدثه : أن أم سلمة حَدَّثته : أنها كاانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة ، قالت : فبينما نحن عنده أقبل ابنُ أمّ مكتوم ، فدخل عليه ، وذلك بعدما أُمِرْنا بالحجاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "احتجبا منه" فقلت : يا رسول الله ، أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6343) وصحيح مسلم برقم (2657).
(2) في أ : "نظره".
(3) في أ : "المقبري".
(4) في أ : "زانية".
(5) ورواه أبو نعيم في الحلية (3/163) من طريق داود بن عطاء ، عن عمر بن صهبان ، عن صفوان ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، به. فلا أدري أسقط أبو سلمة من إسناد ابن أبي الدنيا أم لا ؟ وعمر بن صهبان منكر الحديث اتفق الأئمة على تضعيفه.
(6) في ف ، أ : "وهذا".
(7) في أ : "وعزة".
(8) زيادة من ف ، أ.

(6/44)


فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أو عمياوان (1) أنتما ؟ ألستما تبصرانه" (2).
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة ، كما ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد ، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه ، وهو يسترها منهم حتى مَلَّت ورجعت (3).
وقوله : { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } قال سعيد بن جُبَيْر : ، عن الفواحش. وقال قتادة وسفيان : عما لا يحل لهن. وقال مقاتل : ، عن الزنى. وقال أبو العالية : كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج ، فهو من الزنى ، إلا هذه الآية : { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } ألا يراها أحد.
وقال (4) : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي : لا يُظهرْنَ شيئا من الزينة للأجانب ، إلا ما لا يمكن إخفاؤه.
وقال ابن مسعود : كالرداء والثياب. يعني : على ما كان يتعاناه نساء العرب ، من المِقْنعة التي تُجَلِّل ثيابها ، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه ؛ لأن هذا لا يمكن إخفاؤه. [ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها ، وما لا يمكن إخفاؤه. وقال] (5) بقول ابن مسعود : الحسن ، وابن سيرين ، وأبو الجوزاء ، وإبراهيم النَّخَعي ، وغيرهم.
وقال الأعمش ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قال : وجهها وكفيها والخاتم. ورُوي عن ابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، والضحاك ، وإبراهيم النَّخَعي ، وغيرهم - نحوُ ذلك. وهذا يحتمل أن يكون تفسيرًا للززينة التي نهين عن إبدائها ، كما قال أبو إسحاق السَّبيعي ، عن أبي الأحْوَص ، عن عبد الله قال في قوله : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } : الزينة القُرْط والدُّمْلُج والخلخال والقلادة. وفي رواية عنه بهذا الإسناد قال : الزينة زينتان : فزينة لا يراها إلا الزوج : الخاتم والسوار ، [وزينة يراها الأجانب ، وهي] (6) الظاهر من الثياب.
وقال الزهري : [لا يبدو] (7) لهؤلاء الذين سَمَّى الله ممن لا يحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر ، وأما عامة الناس فلا يبدو منها إلا الخواتم.
وقال مالك ، عن الزهري : { إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } الخاتم والخلخال.
ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين ، وهذا هو المشهور عند الجمهور ، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه :
حدثنا يعقوب بن كعب الإنطاكي ومُؤَمَّل بن الفضل الحَرَّاني قالا حدثنا الوليد ، عن سعيد بن بَشِير ، عن قتادة ، عن خالد بن دُرَيك ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها وقال : "يا أسماء ، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم
__________
(1) في أ : "أفعمياوان".
(2) سنن أبي داود برقم (4112) وسنن الترمذي برقم (2778).
(3) صحيح البخاري برقم (454).
(4) في أ : "وقوله".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) زيادة من ف ، أ.

(6/45)


يصلح أن يُرَى منها إلا هذا" وأشار إلى وجهه وكفيه (1).
لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي : هذا مرسل ؛ خالد بن دُرَيك لم يسمع من عائشة ، فالله أعلم.
وقوله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } يعني : المقانع يعمل لها صَنفات ضاربات على صدور النساء ، لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها ؛ ليخالفن شعارَ نساء أهل الجاهلية ، فإنهن لم يكن يفعلن ذلك ، بل كانت المرأة تمر بين الرجال مسفحة بصدرها ، لا يواريه شيء ، وربما أظهرت (2) عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها. فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن ، كما قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ } [ الأحزاب : 59]. وقال في هذه الآية الكريمة : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } والخُمُر : جمع خِمار ، وهو ما يُخَمر به ، أي : يغطى به الرأس ، وهي التي تسميها الناس المقانع.
قال سعيد بن جبير : { وَلْيَضْرِبْن } : وليشددن { بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } يعني : على النحر والصدر ، فلا يرى منه شيء.
وقال البخاري : وقال أحمد بن شَبِيب (3) : حدَّثنا أبي ، عن يونس ، عن (4) ابن شِهَاب ، عن عُرْوَةَ ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شقَقْنَ مُرُوطهن فاختمرن به (5) (6).
وقال أيضا : حدثنا أبو نُعَيم ، حدثنا إبراهيم بن نافع ، عن الحسن بن مسلم ، عن صَفيّة بنت شيبة ؛ أن عائشة ، رضي الله عنها ، كانت تقول (7) : لما نزلت هذه الآية : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } : أخذن أزرهن فَشَقَقنها من قبل الحواشي ، فاختمرن بها (8).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثني الزنجيّ بن خالد ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن صفية بنت شيبة قالت : بينا نحن عند عائشة ، قالت : فذكرنا نساء قريش وفضلهن. فقالت عائشة ، رضي الله عنها : إن لنساء قريش لفضلا وإني - والله - وما رأيت أفضلَ من نساء الأنصار أشدّ تصديقًا بكتاب الله ، ولا إيمانًا بالتنزيل. لقد أنزلت سورة النور : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } ، انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته ، وعلى كل ذي قرابة (9) ، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مِرْطها المُرَحَّل فاعتجرت به ، تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتابه ، فأصبحْنَ وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح معتجرات ، كأن على رؤوسهن الغربان.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (4104).
(2) في ف : "ظهرت".
(3) في هـ : "حدثنا أحمد بن شبيب" وفي ف ، أ : "حدثنا أحمد بن شبيب قال" والمثبت من البخاري.
(4) في ف ، أ : "قال".
(5) في ف : "بها" وفي أ : "بهن".
(6) صحيح البخاري برقم (4758).
(7) في هـ ، ف : "رضي الله عنها قالت : لما" ، والمثبت من البخاري.
(8) صحيح البخاري برقم (4759).
(9) في ف : "قرابته".

(6/46)


ورواه أبو داود من غير وجه ، عن صفية بنت شيبة ، به (1).
وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أن قُرَّةَ بن عبد الرحمن أخبره ، عن ابن شهاب ، عن عُرْوَة ، عن عائشة ؛ أنها قالت : يرحم الله النساء المهاجرات الأوَل ، لما أنزل الله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } شَقّقن أكثَف مروطهن فاختمرن به. ورواه أبو داود من حديث ابن وهب ، به (2).
وقوله : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ } يعني : أزواجهن ، { أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } كل هؤلاء محارم المرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها ، ولكن من غير اقتصاد وتبهرج (3).
وقال ابن المنذر : حدثنا موسى - يعني : ابن هارون - حدثنا أبو بكر - يعني ابن أبي شيبة - حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا داود ، عن الشعبي وعِكْرمَة في هذه الآية : { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ } - حتى فرغ منها قال : لم يذكر العم ولا الخال ؛ لأنهما ينعَتان (4) لأبنائهما ، ولا تضع خمارها عند العم والخال فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله ، فتتصنع له ما لا يكون بحضرة غيره.
وقوله : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } يعني : تُظهر زينتها أيضًا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة ؛ لئلا تصفهن لرجالهن ، وذلك - وإن كان محذورًا في جميع النساء - إلا أنه في نساء أهل الذمة أشدّ ، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع ، وأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تباشر المرأةَ المرأةَ ، تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها". أخرجاه في الصحيحين ، عن ابن مسعود (5).
وقال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن هشام بن الغاز ، ، عن عبادة بن نُسَيّ ، عن أبيه ، عن الحارث بن قيس قال : كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة : أما بعد ، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك ، فانْهَ مَنْ قِبَلَك فلا (6) يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها (7).
وقال مجاهد في قوله : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } قال : نساؤهن المسلمات ، ليس المشركات من نسائهن ، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي المشركة.
وروى عَبد في تفسيره (8) عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } ، قال : هن المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية ، وهو النَّحْر والقُرْط والوٍشَاح ، وما لا يحل أن يراه إلا محرم.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (4100 ، 4101).
(2) تفسير الطبري (18/94) وسنن أبي داود برقم (4102).
(3) في أ : "بهرج".
(4) في أ : "يتبعان".
(5) صحيح البخاري برقم (5241).
(6) في ف ، أ : "فإنه لا".
(7) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/95) من طريق سعيد بن منصور ، به.
(8) في ف : "تفسير".

(6/47)


وروى سعيد : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن مجاهد قال : لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة ؛ لأن الله تعالى يقول : { أَوْ نِسَائِهِنَّ } فليست (1) من نسائهن.
وعن مكحول وعبادة بن نُسَيّ : أنهما كرها أن تقبل النصرانيةُ واليهودية والمجوسية المسلمة.
فأما ما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو عمير ، حدثنا ضَمْرَة قال : قال ابن عطاء ، عن أبيه : ولما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدس ، كان قَوَابل نسائهم اليهوديات والنصرانيات فهذا - إن صح - مَحمولٌ على حال الضرورة ، أو أن ذلك من باب الامتهان ، ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد ، والله أعلم.
وقوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } قال ابن جُرَيج (2) : يعني : من نساء المشركين ، فيجوز لها أن تظهر [زينتها لها وإن كانت مشركة ؛ لأنها أمتها. وإليه ذهب سعيد بن المسيَّب. وقال الأكثرون : بل يجوز لها أن تظهر] (3) على رقيقها من الرجال والنساء ، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود :
حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا أبو جميع سالم بن دينار ، عن ثابت ، عن أنس ، أن النبي (4) صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها. قال : وعلى فاطمة ثوب إذا قَنَّعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : "إنه ليس عليك بأس ، إنما هو أبوك وغلامك" (5).
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه [في] (6) ترجمة حُدَيْج الخَصِيّ - مولى معاوية - أن عبد الله بن مَسْعَدَة الفزاري كان أسود شديد الأدمة ، وأنه قد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهبه لابنته فاطمة ، فربته ثم أعتقته ، ثم قد كان بعد ذلك كله مع معاوية أيام صفين ، وكان من أشد الناس على عليّ بن أبي طالب ، رضي الله عنه (7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة ، عن الزهري ، عن نَبْهَان ، عن أم سلمة ، ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا كان لإحداكن مُكَاتَب ، وكان له ما يؤدي ، فلتحتجب منه".
ورواه أبو داود ، عن مُسَدَّد ، عن سفيان ، به (8).
وقوله : { أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ } يعني : كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء ، وهم مع ذلك في عقولهم وَله وخَوَث (9) ، ولا همَّ لهم إلى النساء ولا يشتهونهن.
قال ابن عباس : هو المغفل الذي لا شهوة له.
وقال مجاهد : هو الأبْلَه.
وقال عكرمة : هو المخَنَّث الذي لا يقوم زُبُّه. وكذلك قال غير واحد من السلف.
وفي الصحيح من حديث الزهري ، عن عُرْوَةَ ، عن عائشة ؛ أن مخنثًا كان يدخل على أهل
__________
(1) في ف : "فليس" ، وفي أ : "فلسن".
(2) في أ : "جرير".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف : "نبي الله".
(5) سنن أبي داود برقم (4106).
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) تاريخ دمشق (4/278 "المخطوط").
(8) المسند (6/289) وسنن أبي داود برقم (3928).
(9) في ف ، أ : "وحوب".

(6/48)


رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ينَعت امرأة : يقول إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا ، لا يدخلَنّ عليكُنَ" فأخرجه ، فكان بالبيداء يدخل يوم كل جمعة يستطعم (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا هشام بن عُرْوَةَ ، عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة قالت : دخل عليها [رسول الله صلى الله عليه وسلم] (2) وعندها مخنث ، وعندها [أخوها] (3) عبد الله بن أبي أمية [والمخنث يقول لعبد الله : يا عبد الله بن أبي أمية] (4) إن فتح الله عليكم الطائف غدًا ، فعليك بابنة غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر (5) بثمان. قال : فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأم سلمة : "لا يدخلن هذا عليك".
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث هشام بن عروة ، به (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث ، وكانوا يَعُدّونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه ، وهو ينعت امرأة. فقال : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا ؟ لا يدخلَنَّ عليكم هذا" فحجبوه.
ورواه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي من طريق عبد الرزاق ، به (7).
وقوله : { أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } يعني : لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهنّ من كلامهن (8) الرخيم ، وتعطفهن في المشية وحركاتهن ، فإذا كان الطفل صغيرًا لا يفهم ذلك ، فلا بأس بدخوله على النساء.فأما إن كان مراهقا أو قريبا منه ، بحيث يعرف ذلك ويدريه ، ويفرق بين الشوهاء والحسناء ، فلا يمكن من الدخول على النساء. وقد ثبت في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إياكم والدخول على النساء". قالوا : يا رسول الله ، أفرأيت الحَمْو ؟ قال : "الحَمْو الموت".
وقوله : { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت (9) تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت - لا يسمع صوته - ضربت برجلها الأرض ، فيعلم الرجال طنينه ، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك. وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستورًا ، فتحركت بحركة لتظهر (10) ما هو خفي ، دخل في هذا النهي ؛ لقوله تعالى : { وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } : ومن ذلك أيضا أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليَشْتَمَّ (11) الرجال طيبها ، فقد قال أبو عيسى الترمذي :
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2181) وزيادة : "فأخرجه ، فكان بالبيداء يدخل كل يوم جمعة.... الحديث" أخرجها أبو داود في السنن برقم (4109) من طريق الزهري ، به ، وليست في صحيح مسلم.
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(4) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(5) في ف ، أ : "وتذهب".
(6) المسند (6/290) وصحيح البخاري برقم (5887) وصحيح مسلم برقم (2180).
(7) المسند (6/152) وصحيح مسلم برقم (2181) وسنن أبي داود برقم (4108) والنسائي في السنن الكبرى (9247).
(8) في ف : "كلامهم".
(9) في ف : "كانت المرأة إذا كانت في الجاهلية".
(10) في ف : "ليظهر".
(11) في أ : "ليشم".

(6/49)


حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد القَّطَّان ، عن ثابت بن عُمَارة الحنفي ، عن غُنَيْم بن قيس ، عن أبي موسى رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كل عين زانية ، والمرأة إذا استعطرت فمرَّت بالمجلس فهي كذا وكذا" يعني زانية (1).
قال : وفي الباب ، عن أبي هريرة ، وهذا حسن صحيح.
رواه أبو داود والنسائي ، من حديث ثابت بن عمارة ، (2) به.
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، عن عاصم بن (3) عبيد الله ، عن عبيد مولى أبي رُهْم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لقيتْه امرأة وجد منها ريح الطيب ، ولذيلها إعصار فقال : يا أمة الجبار ، جئت من المسجد ؟ قالت : نعم. قال لها : [وله] (4) تَطَيَّبتِ ؟ قالت : نعم. قال : إني سمعت حبي أبا القاسم (5) صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يقبل الله صلاة امرأة تَطَيبت لهذا المسجد ، حتى ترجع فتغتسل غُسلها من الجنابة".
ورواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن سفيان - هو ابن عيينة - (6) به.
وروى الترمذي أيضًا من حديث موسى بن عُبَيدة ، عن أيوب بن خالد ، عن ميمونة بنت سعد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الرافلة في الزينة في غير أهلها ، كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها" (7).
ومن ذلك أيضا أنهن يُنهَين عن المشي في وسط الطريق ؛ لما فيه من التبرج. قال أبو داود :
حدثنا القَعْنَبِيّ ، حدثنا عبد العزيز - يعني : ابن محمد - عن (8) أبي اليمان ، عن شداد بن أبي عمرو بن حماس ، عن أبيه ، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري ، عن أبيه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد - وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء : "استأخرن ، فإنه ليس لكن أن تَحْققْن (9) الطريق ، عليكن بحافات الطريق" ، فكانت المرأة تلصق بالجدار ، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار ، من لصوقها به (10).
وقوله : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : افعلوا ما آمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة ، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة ، فإن الفَلاح كل الفَلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله ، وترك ما نهيا (11) عنه ، والله تعالى هو المستعان [وعليه التكلان] (12).
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2786).
(2) سنن أبي داود برقم (4173) وسنن النسائي (8/153).
(3) في ف : "عن".
(4) زيادة من ف ، أ ، وأبي داود.
(5) في ف : "رسول الله".
(6) سنن أبي داود برقم (4174) وسنن ابن ماجه برقم (4002).
(7) سنن الترمذي برقم (1167) وقال الترمذي : "وهذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة ، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث من قبل حفظه وهو صدوق ، وقد رواه بعضهم عن موسى بن عبيدة ولم يرفعه".
(8) في ف : "ابن".
(9) في ف : "تحتضن" ، وفي أ : "تختص".
(10) سنن أبي داود برقم (5272).
(11) في أ : "ما نهاه".
(12) زيادة من ف ، أ.

(6/50)


وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

{ وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) }
اشتملت هذه الآيات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة ، والأوامر المبرمة ، فقوله تعالى : { وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } : هذا أمر بالتزويج. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه ، على كل من قَدَر عليه. واحتجوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : "يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". أخرجاه من حديث ابن مسعود (1).
وجاء في السنن - من غير وجه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تَزَوَّجوا ، توالدوا ، تناسلوا ، فإني مُبَاهٍ بكم الأمم يوم القيامة" (2) وفي رواية : "حتى بالسقط".
الأيامى : جمع أيِّم ، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها ، وللرجل الذي لا زوجة له. وسواء كان قد تزوج ثم فارق ، أو لم يتزوج واحد منهما ، حكاه الجوهري عن أهل اللغة ، يقال : رجل أيّم وامرأة أيّم أيضا.
وقوله تعالى : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : رغبهم الله في التزويج ، وأمر به الأحرار والعبيد ، ووعدهم عليه الغنى ، فقال : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن خالد الأزرق ، حدثنا عمر بن عبد الواحد ، عن سعيد - يعني : ابن عبد العزيز - قال : بلغني أن أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، قال : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ، ينجز [لكم] (3) ما وعدكم من الغنى ، قال : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }.
وعن ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح ، يقول الله تعالى : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } رواه (4) ابن جرير ، وذكر البغوي عن عمر بنحوه.
وعن الليث ، عن محمد بن عَجْلان ، عن سعيد المقْبُرِي ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة حَقٌّ على الله عَوْنهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتَب يريد الأداء ، والغازي في سبيل الله". رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه (5)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5066) وصحيح مسلم برقم (1400).
(2) سنن أبي داود برقم (2050) وسنن النسائي (6/65).
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "ورواه".
(5) المسند (2/251) وسنن الترمذي برقم (1655) وسنن النسائي (6/61) وسنن ابن ماجه برقم (2518).

(6/51)


وقد زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد إلا إزاره (1) ، ولم يقدر على خاتم من حديد ، ومع هذا فزوّجه بتلك المرأة ، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما يحفظه من القرآن.
والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه [وإياها] (2) ما فيه كفاية له ولها. فأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث : "تزوجوا فقراء يغنكم الله" ، فلا أصل له ، ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن ، وفي القرآن غنية عنه ، وكذا (3) هذا الحديث الذي أوردناه. ولله الحمد.
وقوله تعالى : { وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله }. هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجًا [بالتعفف] (4) عن الحرام ، كما قال - عليه الصلاة والسلام (5) - : "يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغَضُّ للبصر ، وأحْصَنُ للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء".
وهذه (6) الآية مطلقة ، والتي في سورة النساء أخص منها ، وهي قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } ، إلى أن قال : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [النساء : 25] أي صبركم عن تزويج الإماء خير ؛ لأن الولد يجيء رقيقا ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
قال عكرمة في قوله : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا } قال : هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي ، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض (7) حاجته منها ، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات [والأرض] (8) حتى يغنيه الله.
وقوله : { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب منهم عبيدهم الكتابة أن يكاتبوا (9) ، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيِّده المال الذي شارطه على أدائه. وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمرُ إرشاد واستحباب ، لا أمر تحتم وإيجاب ، بل السيد مخير ، إذا طلب منه عبده الكتابة إن شاء كاتبه ، وإن شاء لم يكاتبه.
وقال الثوري ، عن جابر ، عن الشعبي : إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه.
وقال ابن وهب ، عن إسماعيل بن عياش ، عن رجل ، عن عطاء بن أبي رَبَاح : إن يشأ يكاتبه وإن لم يشأ لم يكاتبه (10) ، وكذا قال مُقاتل بن حَيَّان ، والحسن البصري.
وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبدُه ذلك ، أن يجيبه إلى ما طلب ؛ أخذًا بظاهر هذا الأمر :
قال البخاري : وقال روح ، عن ابن جُرَيْج قلت لعطاء : [أواجب عليّ إذا علمت له مالا أن أكاتبه ؟ قال : ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو بن دينار : قلت لعطاء] (11) ، أتأثُرُه عن أحد ؟ قال : لا. ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره ، أن سيرين سأل أنسًا المكاتبةَ - وكان كثير المال ، فأبى.
__________
(1) في أ : "الإزارة".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف : "وكذلك".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف : "صلى الله عليه وسلم".
(6) في ف : "فهذه".
(7) في ف : "فليقض".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ف : "يكاتبوهم".
(10) في ف ، أ : "إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه".
(11) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.

(6/52)


فانطلق إلى عمر بن الخطاب فقال : كاتبه. فأبى ، فضربه بالدّرة ، ويتلو عمر ، رضي الله عنه : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } (1) ، فكاتبه (2)
هكذا ذكره البخاري تعليقا (3). ورواه عبد الرزاق : أخبرنا ابن جريج قال : قلت لعطاء : أواجب عليّ إذا علمت له مالا أن أكاتبه ؟ قال : ما أراه إلا واجبًا. وقال عمرو (4) بن دينار ، قال : قلت لعطاء : أتأثره عن أحد ؟ قال : لا (5)
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك : أن سيرين أراد أن يكاتبه ، فتلكأ عليه ، فقال له عمر : لتكاتِبَنَّه. إسناد صحيح (6).
وقال سعيد بن منصور : حدثنا هُشَيْم بن جُوَيْبِر ، عن الضحاك قال : هي عَزْمة.
وهذا هو القول القديم من قولي الشافعي ، رحمه الله ، وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : (7) لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه" (8).
وقال ابن وهب : قال مالك : الأمر عندنا أنْ ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك ، ولم أسمع أحدًا من الأئمة أكره أحدًا على أن يكاتب عبده. قال مالك : وإنما ذلك أمر من الله ، وإذن منه للناس ، وليس بواجب.
وكذا قال الثوري ، وأبو حنيفة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم. واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الآية.
وقوله : { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } ، قال بعضهم : أمانة. وقال بعضهم : صدقا. [وقال بعضهم : مالا] (9) وقال بعضهم : حيلة وكسبا.
وروى أبو داود في كتاب المراسيل ، عن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } قال : "إن علمتم فيهم حرفة ، ولا ترسلوهم كَلا (10) على الناس".
وقوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } اختلف المفسرون فيه ، فقال قائلون : معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها ، ثم قال بعضهم : مقدار الربع. وقيل : الثلث. وقيل : النصف. وقيل : جزء من الكتابة من غير واحد.
وقال آخرون : بل المراد من قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكوات. وهذا قول الحسن ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وأبيه ، ومقاتل بن حيان. واختاره ابن جرير.
__________
(1) في ف : "وكاتبوهم" وهو خطأ.
(2) صحيح البخاري (5/184) "فتح".
(3) في أ : "معلقا".
(4) في أ : "عمر".
(5) ورواه الطبري في تفسيره (18/98) من طريق عبد الرزاق به.
(6) تفسير الطبري (18/98).
(7) في ف : "صلى الله عليه وسلم".
(8) رواه أحمد في مسنده (5/72) من حديث عم أبي حرة الرقاشي ، وفي (5/425) من حديث أبي حميد الساعدي ، وفي (3/423) من حديث عمرو بن يثربي.
(9) زيادة من ف ، أ.
(10) في ف ، أ : "كلايا".

(6/53)


وقال إبراهيم النَّخَعِيّ في قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قال : حَثَّ الناس عليه (1) مولاه وغيره. وكذلك قال بُرَيْدة بن الحُصَيب الأسلمي ، وقتادة.
وقال ابن عباس : أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدَّمَ في الحديث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ثلاثة حق على الله عونهم" : فذكر منهم المكاتَب يريد الأداء ، والقول الأول أشهر.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا وَكِيع ، عن ابن شَبِيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن عمر ؛ أنه كاتب عبدًا له ، يكنى أبا أمية ، فجاء بنجمه حين حل ، فقال : يا أبا أمية ، اذهب فاستعن به في مكاتبتك. قال : يا أمير المؤمنين ، لو تركتَه حتى يكون من آخر نجم ؟ قال : أخاف ألا أدرك ذلك. ثم قرأ : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قال عكرمة : كان (2) أول نجم أدّي في الإسلام.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا هارون بن المغيرة ، عن عنبسَةَ ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتَبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه ، مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته. ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته ، وضع عنه ما أحب (3).
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } قال : يعني : ضعوا عنهم من مكاتبتهم. وكذلك قال مجاهد ، وعطاء ، والقاسم بن أبي بَزَّة ، وعبد الكريم بن مالك الجَزَريّ ، والسدي.
وقال محمد بن سيرين في قوله : { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } : كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتَبه طائفة من مكاتبته.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا الفضل بن شاذان المقرئ ، أخبرنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف ، عن ابن جُرَيْج ، أخبرني عطاء بن السائب : أن عبد الله بن جندب أخبره ، عن علي ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ربع الكتابة" (4).
وهذا حديث غريب ، ورفعه منكر ، والأشبه أنه موقوف على عليّ ، رضي الله عنه ، كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي ، رحمه الله (5).
وقوله : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الآية : كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة ، أرسلها تزني ، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كلّ وقت. فلما جاء الإسلام ، نهى الله المسلمين (6) عن ذلك.
وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة - فيما ذكره غير واحد من المفسرين ، من السلف والخلف - في شأن عبد الله بن أبي بن سلول [المنافق] (7) فإنه كان له إماء ، فكان يكرههن على البِغاء طلبا لخَراجهن ، ورغبة في أولادهن ، ورئاسة منه فيما يزعم [قبحه الله ولعنه] (8)
__________
(1) في ف ، أ : "على".
(2) في ف ، أ : "فكان".
(3) تفسير الطبري (18/101).
(4) ورواه عبد الرزاق في المصنف برقم (15589) من طريق ابن جريج ، به. وقال : "قال ابن جريج : وأخبرني غير واحد ، عن عطاء بن السائب أنه كان يحدث بهذا الحديث ، لا يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم".
(5) ورواه عبد الرزاق في مصنفه برقم (15590) من طريق معمر ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، به.
(6) في ف ، أ : "المؤمنين".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) زيادة من ف ، أ.

(6/54)


[ذكر الآثار (1) الواردة في ذلك] (2)
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزَّار ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا أحمد بن داود الواسطي ، حدثنا أبو عمرو اللخمي - يعني : محمد بن الحجاج - حدثنا محمد ابن إسحاق ، عن الزهري قال : كانت جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول ، يقال لها : معاذة ، يكرهها على الزنى ، فلما جاء الإسلام نزلت : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } إلى قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (3)
وقال الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر في هذه الآية : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } قال : نزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها : مُسَيْكَة ، كان يكرهها على الفجور - وكانت لا بأس بها - فتأبى. فأنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية إلى قوله { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (4).
وروى النسائي ، من حديث ابن جُرَيْج ، عن أبي الزبير ، عن جابر نحوه (5)
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا علي بن سعيد ، حدثنا الأعمش ، حدثني أبو سفيان ، عن جابر قال : كان لعبد الله بن أُبَيٍّ ابنِ سلولَ جارية يقال لها : مسيكة ، وكان يكرهها على البغاء ، فأنزل الله : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } ، إلى قوله : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان طلحة بن نافع ، فدل على بطلان قول من قال : "لم يسمع منه ، إنما هو صحيفة" حكاه البزار.
قال أبو داود الطيالسي ، عن سليمان بن معاذ ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ؛ أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية ، فولدت أولادًا من الزنى ، فقال لها : ما لك لا تزنين ؟ قالت (6) لا والله لا أزني. فضربها ، فأنزل الله عز وجل : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } (7)
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري : أن رجلا من قريش أُسر يوم بدر ، وكان عند عبد الله بن أُبَيّ أسيرًا ، وكانت لعبد الله بن أُبيّ جارية يقال لها : معاذة ، وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها ، وكانت مسلمة (8). وكانت تمتنع منه لإسلامها ، وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها ، رجاء أن تحمل للقرشي ، فيطلب فداء ولده ، فقال تبارك وتعالى : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } (9)
__________
(1) في أ : "الأحاديث".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) مسند البزار برقم (2240) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/83) : "فيه محمد بن الحجاج اللخمي وهو كذاب".
(4) رواه الطبري في تفسيره (18/103) من طريق الأعمش ، به.
(5) النسائي في السنن الكبرى برقم (11365) من طريق ابن جريج ، عن أبي الزبير ، به.
(6) في ف : "فقالت".
(7) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/284) من طريق أبي داود الطيالسي ، به.
(8) في أ : "تسلم".
(9) تفسير عبد الرزاق (2/50).

(6/55)


وقال السدي : أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ، وكانت له جارية تدعى معاذة ، وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها ، إرادة الثواب منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر ، رضي الله عنه فشكت إليه ذلك ، فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره بقبضها. فصاح عبد الله بن أبي : من يَعْذُرني من محمد ، يغلبنا على مملوكتنا ؟ فأنزل الله فيهم هذا.
وقال مُقَاتِل بن حَيَّان : بلغنا - والله أعلم - أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما ، إحداهما اسمها مُسَيْكَة ، وكانت للأنصاريّ ، وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي ، وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة ، فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرتا ذلك له ، فأنزل الله في ذلك { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ } يعني : الزنى.
وقوله : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } هذا خرج مخرج الغالب ، فلا مفهوم له.وقوله : { لِتَبْتَغُوا عَرَضَ [الْحَيَاةِ] الدُّنْيَا } (1) أي : من خَرَاجهن ومهورهن وأولادهن. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن كسب الحجَّام ، ومهر البَغيّ وحُلْوان الكاهن (2) - وفي رواية : "مهر البغي خبيث ، وكسب الحجَّام خبيث ، وثمن الكلب خبيث" (3)
وقوله : { وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [أي : لهن ، كما تقدم في الحديث عن جابر.
وقال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم] (4) وإثمهن على من أكرههن : وكذا قال مجاهد ، وعطاء الخراساني ، والأعمش ، وقتادة.
وقال أبو عبيد : حدثني إسحاق الأزرق ، عن عَوْف ، عن الحسن في هذه الآية : { فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ } قال : لهن والله. لهن والله.
وعن الزهري قال : غفور لهن ما أُكْرهْن عليه.
وعن زيد بن أسلم قال : غفور رحيم للمكرهات.
حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله ، حدثني ابن لَهِيعَة ، حدثني عطاء ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : في قراءة عبد الله بن مسعود : "فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ لَهُنَّ غَفُورٌ (5) رَّحِيمٌ" وإثمهن على من أكرههن.
وفي الحديث المرفوع ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "رُفِع عن أمَّتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه". (6)
__________
(1) زيادة من ف ، أ. وهو الصواب.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (2237) ومسلم في صحيحه برقم (1567) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه : "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن" وأما كسب الحجام ، فروى ابن ماجه في السنن برقم (2165) من حديث عقبة بن عمرو : "نهى النبي صلى الله عليه وسلم ، عن كسب الحجام".
(3) رواه أحمد في مسنده (3/464) من حديث رافع بن خديج ، رضي الله عنه.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف : "غفور لهن".
(6) رواه ابن ماجه في السنن برقم (2043) وقد سبق الكلام عليه في سورة الأعراف.

(6/56)


اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)

ولما فصل تعالى (1) هذه الأحكام وبَيَّنها قال : { وَلَقَدْ أَنزلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ } يعني : القرآن فيه آيات واضحات مفسرات ، { وَمَثَلا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : خبرا عن الأمم الماضية ، وما حلَّ بهم في مخالفتهم أوامرَ الله تعالى (2) ، كما قال تعالى : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ } [الزخرف : 56]
{ وَمَوْعِظَةً } أي : زاجرًا عن ارتكاب المآثم والمحارم { لِلْمُتَّقِينَ } أي : لمن اتقى الله وخافه.
قال علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، في صفة القرآن : فيه حكم ما بينكم ، وخبر ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وهو الفَصْل ليس بالهَزْل ، مَنْ تركه من جَبَّار قَصَمَه الله ، ومن ابتغى الهدى من (3) غيره أضله الله.
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { اللَّهُ نُورُ السَّموَاتِ وَالأرْضِ } يقول : هادي أهل السموات والأرض.
وقال ابن جُرَيْج : قال مجاهد وابن عباس في قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } يدبر الأمر فيهما ، نجومهما وشمسهما وقمرهما.
وقال ابن جرير : حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرَقِّي ، حدثنا وهب بن راشد ، عن فَرْقَد ، عن أنس بن مالك قال : إن إلهي يقول : نوري هداي.
واختار هذا القول ابن جرير ، رحمه الله.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب في قول الله تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } قال : هو المؤمن الذي جعل [الله] (4) الإيمان والقرآن في صدره ، فضرب الله مثله فقال : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } فبدأ بنور نفسه ، ثم ذكر نور المؤمن فقال : مثل نور من آمن به. قال : فكان أُبي بن كعب يقرؤها : "مثل نور من آمن به (5) فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره.
وهكذا قال (6) سعيد بن جُبير ، وقيس بن سعد ، عن ابن عباس أنه قرأها كذلك : "نور من آمن بالله".
وقرأ بعضهم : "اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ" ".
وعن الضحاك : "اللَّهُ نَوَّر السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ".
__________
(1) في ف ، أ : "ولما فصل تبارك وتعالى".
(2) في ف ، أ : "عز وجل".
(3) في أ : "في".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في أ : "بالله".
(6) في ف : "روى".

(6/57)


وقال السدي في قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } : فبنوره أضاءت السموات والأرض.
وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف : "أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحل بي غَضبك أو ينزل بي سَخَطُك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك (1) " (2).
وفي الصحيحين ، عن ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه سلم إذا قام من الليل يقول : "اللهم لك الحمد ، أنت قَيّم السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت نور السموات والأرض ومن فيهن" الحديث (3).
وعن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور العرش من نور وجهه.
وقوله : { مَثَلُ نُورِهِ } في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى الله ، عز وجل ، أي : مثل هداه في قلب المؤمن ، قاله ابن عباس { كمشكاة }.
والثاني : أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام : تقديره : مثل نور المؤمن الذي في قلبه ، كمشكاة. فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى ، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه ، كما قال تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } [هود : 17] ، فشبه قلب (4) المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري ، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل ، الذي لا كدر فيه ولا انحراف.
فقوله (5) : { كَمِشْكَاةٍ } : قال ابن عباس ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب ، وغير واحد : هو موضع الفتيلة من القنديل. هذا هو المشهور ؛ ولهذا قال بعده : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } ، وهو الذُّبالة التي تضيء.
وقال العوفي ، عن ابن عباس [في] (6) قوله : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } : وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره ، فقال : { اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ }. والمشكاة : كوَّة في البيت - قال : وهو مثل ضَرَبه الله لطاعته (7). فسمَّى الله طاعَتَه نُورًا ، ثم سَمَاها أنواعا شَتَّى.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : الكوة بلُغة الحبشة. وزاد غيره فقال : المشكاة : الكوة التي لا منفذ لها. وعن مجاهد : المشكاة : الحدائد التي يعلق بها القنديل.
والقول الأول أولى ، وهو : أن المشكاة هي موضع الفَتيلة من القنديل ؛ ولهذا قال : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } وهو النور الذي في الذُّبالة.
__________
(1) في ف ، أ : "بالله".
(2) رواه ابن هشام في السيرة النبوية (1/420) ، عن ابن إسحاق.
(3) صحيح البخاري برقم (1120) وصحيح مسلم برقم (769).
(4) في ف ، أ : "القلب".
(5) في أ : "وقوله".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ف : "لأهل طاعته".

(6/58)


قال أبيً بن كعب : المصباح : النور ، وهو القرآن والإيمان الذي في صدره.
وقال السُّدِّي : هو السراج.
{ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } أي : هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية.
قال أبيّ بن كعب وغير واحد : وهي نظير قلب المؤمن. { الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } : قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة ، من الدّر ، أي : كأنها كوكب من دُرّ.
وقرأ آخرون : "دِرّيء" و"دُرِّيء" بكسر الدال وضمها مع الهمز ، من الدَرْء وهو الدفع ؛ وذلك أن النجم إذا رُمي به يكون أشدّ استنارة من سائر الأحوال ، والعرب تسمي ما لا يعرف من الكواكب دراريّ.
قال أبيّ بن كعب : كوكب مضيء. وقال قتادة : مضيء مبين ضخم. { يُوقَدُ (1) مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } أي : يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة { زيتونة } بدل أو عطف بيان { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } أي : ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار ، ولا في غربيها فيتقلّص عنها الفيء قبل الغروب ، بل هي في مكان وسط ، تَفْرَعه (2) الشمس من أول النهار إلى آخره ، فيجيء زيتها معتدلا صافيا مشرقا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد ، أخبرنا عمرو بن أبي قيس ، عن سِمَاك بن حرب ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : شجرة بالصحراء ، لا يظلها جبل ولا شجر ولا كهف ، ولا يواريها شيء ، وهو أجود لزيتها.
وقال يحيى بن سعيد القَطَّان ، عن عمران بن حُدَيْر ، عن عكرمة ، في قوله : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي بصحراء ، وذلك أصفى لزينتها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نُعَيْم ، حدثنا عُمَر بن فَرُّوخ ، عن حبيب بن الزبير ، عن عكرمة - وسأله رجل عن : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال (3) تلك [زيتونة] (4) بأرض فلاة ، إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها ، وإذا غربت غربت عليها فذاك أصفى ما يكون من الزيت.
وقال مجاهد في قوله : { [ زَيْتُونَةٍ ] لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } (5) قال : ليست بشرقية ، لا تصيبها الشمس إذا غربت ، ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت ، [ولكنها شرقية وغربية ، تصيبها إذا طلعت] (6) وإذا غربت.
وقال سعيد بن جُبَيْر في قوله { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ } قال : هو أجود الزيت. قال : إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق ، فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس ، فالشمس تصيبها بالغداة والعَشِيّ ، فتلك لا تعد شرقية ولا غربية.
وقال السدي [في] (7) قوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } يقول : ليست بشرقية يحوزها
__________
(1) في ف ، أ : "توقد".
(2) في هـ ، أ : "تقصرها" والمثبت من ف.
(3) في ف ، أ : "فقال".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) زيادة من ف ، أ.

(6/59)


المشرق ، ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق ، ولكنها على رأس جبل ، أو في صحراء ، تصيبها الشمس النهارَ كلَّه.
وقيل : المراد بقوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } أنها في وسط الشجر ، وليست بادية للمشرق ولا للمغرب.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبي بن كعب ، في قول الله تعالى : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : فهي خضراء ناعمة ، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت ، لا إذا طلعت ولا إذا غربت. قال : فكذلك هذا المؤمن ، قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن ، وقد ابتلي بها فيثبته الله فيها ، فهو بين أربع خلال : إن قال صَدَق ، وإن حكم عدل ، وإن ابتلي صبر ، وإن أعطي شكر ، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا مُسَدَّد قال : حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي وسط الشجر ، لا تصيبها الشمس شرقا ولا غربا.
وقال عطية العوفي : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي شجرة في موضع من الشجر ، يرى ظل ثمرها في ورقها ، وهذه من الشجر لا تطلع عليها الشمس ولا تغرب.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكِي ، حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، في قوله تعالى : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } ليست شرقية ليس فيها غرب ، ولا غربية ليس فيها شرق ، ولكنها شرقية غربية.
وقال محمد بن كعب القُرَظي : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : هي القبْلية.
وقال زيد بن أسلم : { لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : الشام.
وقال الحسن البصري : لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية ، ولكنه مثل ضربه الله لنوره.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { توقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } قال : رجل صالح { زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ } قال : لا يهودي ولا نصراني.
وأولى هذه الأقوال القولُ الأول ، وهو أنها في مستوى من الأرض ، في مكان فسيح بارز ظاهر ضاح للشمس ، تَفْرعه من أول النهار إلى آخره ، ليكون ذلك أصفى لزينتها وألطف ، كما قال غير واحد ممن تقدم ؛ ولهذا قال : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني : لضوء إشراق الزيت.
وقوله : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قال العوفي ، عن ابن عباس : يعني بذلك إيمان العبد وعمله.
وقال مجاهد ، والسدي : يعني نور النار ونور الزيت.
وقال أبي بن كعب : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } فهو يتقلب في خمسة من النور ، فكلامه نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة.
وقال شِمْر بن عَطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : حدثني عن قول الله : { يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ }

(6/60)


قال : يكاد محمد يبين للناس ، وإن (1) لم يتكلم ، أنه نبي ، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء.
وقال السُّدِّي في قوله : { نُورٌ عَلَى نُورٍ } قال : نور النار ونور الزيت ، حين اجتمعا أضاءا ، ولا يضيء واحد بغير صاحبه [كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا ، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه] (2)
وقوله : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : يرشد الله إلى هدايته من يختاره ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني ربيعة بن يزيد ، عن عبد الله [بن] (3) الديلمي ، عن عبد الله بن عمرو ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله خلق خلقه في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ ، فمن أصاب يومئذ من نوره اهتدى ، ومن أخطأه ضل. فلذلك أقول : جفَّ القلم على علم الله عز وجل" (4)
طريق أخرى عنه : قال البزار : حدثنا أيوب (5) بن سُوَيْد ، عن يحيى بن أبي عمرو الشَّيباني ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله خلق خلقه في ظلمة ، فألقى عليهم نورًا من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه (6) ضل.[ورواه البزار ، عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر ، بلفظه وحروفه] (7) (8).
وقوله تعالى : { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } لما ذكر تعالى هذا مثلا لنور هداه في قلب المؤمن ، ختم الآية بقوله : { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر : حدثنا أبو معاوية - يعني (9) شيبان - ، عن ليث ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي البَخْتَري ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يُزهرُ ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مُصْفَح : فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن ، سراجه فيه نوره. وأما القلب الأغلف فقلب الكافر. وأما القلب المنكوس فقلب [المنافق] (10) عَرَفَ ثم أنكر. وأما القلب المُصْفَح فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يَمُدّها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القُرحة يَمُدَّها القيح والدم ، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه". إسناده جيد (11) ولم يخرجوه.
__________
(1) في ف ، أ : "ولو".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(4) المسند (2/176).
(5) في ف ، أ : "قال البزار : حدثنا شهاب بن عثمان حدثنا أيوب".
(6) في ف ، أ : "أخطأ".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) مسند البزار برقم (2145) "كشف الأستار" ورواه أحمد في مسنده (2/197) من طريق محمد بن مهاجر ، عن عروة بن رويم ، عن ابن الديلمي ، عن عبد الله بن عمرو ، به.
(9) في هـ : "حدثنا" والمثبت من ف ، أ ، والمسند.
(10) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(11) المسند (3/17).

(6/61)


فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36)

{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) }

(6/62)


رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)

{ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) }
لما ضرب الله تعالى [مثل] (1) قلب المؤمن ، وما فيه من الهدى والعلم ، بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقّد من زيت طيب ، وذلك كالقنديل ، ذكر محلها وهي المساجد ، التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض ، وهي بيوته التي يعبد فيها ويُوَحّد ، فقال : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } أي : أمر الله تعالى برفعها ، أي : بتطهيرها من الدنس واللغو ، والأفعال والأقوال التي لا تليق فيها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } قال : نهى الله سبحانه عن اللغو فيها. وكذا قال عكرمة ، وأبو صالح ، والضحاك ، ونافع بن جبير ، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة (2) وسفيان بن حسين ، وغيرهم من علماء المفسرين. (3)
وقال قتادة : هي هذه المساجد ، أمر الله ، سبحانه ، ببنائها ورفعها ، وأمر بعمارتها وتطهيرها. وقد ذكر لنا أن كعبًا كان يقول : إن في التوراة مكتوبًا : " ألا إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ، ثم زارني في بيتي أكرمته ، وحَقّ على المَزُور كرامةُ الزائر". رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره.
وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد ، واحترامها وتوقيرها ، وتطييبها وتبخيرها. وذلك له محل مفرد يذكر فيه ، وقد كتبت في ذلك جزءًا على حدَة ، ولله الحمد والمنة. ونحن بعون الله تعالى نذكر (4) هاهنا طرفا من ذلك ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة وعليه التكلان :
فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله ، بنى الله له مثله في الجنة". أخرجاه في الصحيحين (5).
وروى ابن ماجه ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله ، بنى الله له بيتا في الجنة" (6).
وللنسائي عن عمرو بن عَبَسَة (7) مثله (8). والأحاديث في هذا كثيرة جدا.
وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور ، وأن تنظف
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف ، أ : "خيثمة".
(3) في ف ، أ : "التفسير".
(4) في ف : "سنذكر".
(5) صحيح البخاري برقم (450) وصحيح مسلم برقم (533).
(6) سنن ابن ماجه برقم (735) من طريق الوليد بن أبي الوليد عن عثمان بن عبد الله عن عمر. وقال البوصيري في الزوائد (1/260) : "هذا إسناد مرسل ، عثمان بن عبد الله بن سراقة روى عن عمر وهو جده لأمه ، ولم يسمع منه. قاله المزي".
(7) في أ : "عنبسة".
(8) سنن النسائي (2/31).

(6/62)


وتطيب (1). رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي. ولأحمد وأبي داود ، عن سَمُرة بن جُنْدب نحوه. (2)
وقال البخاري : قال عمر : ابن للناس ما يكنهم ، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس (3).
وروى ابن ماجه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما ساء عملُ قوم قطّ إلا زخرفوا مساجدهم". (4) وفي إسناده ضعف.
وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أمِرْتُ بتشييد المساجد". قال ابن عباس : لَتُزَخرفُنّها كما زَخْرَفت اليهود والنصارى (5)
وعن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد". رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي (6)
وعن بُرَيْدَةَ أن رَجُلا أنشدَ في المسجد ، فقال : من دعا إلى الجمل الأحمر ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا وجدت ، إنما بُنِيت المساجد لما بنيت له". رواه مسلم. (7)
وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن البيع والابتياع ، وعن تناشد الأشعار في المساجد. رواه أحمد وأهل السنن (8) ، وقال الترمذي : حسن.
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه سلم : قال : "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد ، فقولوا : لا أربح الله تجارتك. وإذا رأيتم من يَنشُد ضالة في المسجد ، فقولوا : لا رَدَّ الله عليك". رواه الترمذي ، وقال : حسن غريب. (9)
وقد روى ابن ماجه وغيره ، من حديث ابن عمر مرفوعًا ، قال : "خصال لا تنبغي في المسجد : لا يُتَّخذُ طريقًا ، ولا يُشْهَرُ فيه سلاح ، ولا يُنبَض فيه بقوس ، ولا ينثر فيه نبل ، ولا يُمرّ فيه بلحم نِيء : ولا يُضرَبُ فيه حَدٌّ ، ولا يُقْتَص فيه من أحد ، ولا يُتَّخذ سوقًا" (10).
وعن واثلة بن الأسقع ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "جَنِّبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم ، وشراءكم وبيعكم ، وخصوماتكم ورفع أصواتكم ، وإقامة حدودكم وسل سيوفكم ، واتخذوا على أبوابها المطاهر ، وجَمّروها في الجُمَع".
__________
(1) المسند (6/279) وسنن أبي داود برقم (455) وسنن الترمذي برقم (594) وسنن ابن ماجه برقم (759).
(2) المسند (5/17) وسنن أبي داود برقم (456).
(3) صحيح البخاري (1/539) "فتح".
(4) سنن ابن ماجه برقم (741) من طريق جبارة بن المغلس عن عبد الكريم بن عبد الرحمن عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب ، به. قال البوصيري في الزوائد (1/262) : "هذا إسناد فيه جبارة بن المغلس وقد اتهم".
(5) سنن أبي داود برقم (448).
(6) المسند (3/134) وسنن أبي داود برقم (449) وسنن النسائي (2/32) وسنن ابن ماجه برقم (739).
(7) صحيح مسلم برقم (569).
(8) المسند (2/179) وسنن أبي داود برقم (1079) وسنن الترمذي برقم (322) وسنن النسائي (2/47) وسنن ابن ماجه برقم (749).
(9) سنن الترمذي برقم (3121).
(10) سنن ابن ماجه برقم (748) وقال البوصيري في الزوائد (1/264) : "هذا إسناد فيه زيد بن جبيرة. قال ابن عبد البر : أجمعوا على أنه ضعيف".

(6/63)


ورواه ابن ماجه أيضًا (1) وفي إسنادهما (2) ضعف.
أما أنه "لا يتخذ طريقًا" فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا وَجَد مندوحة عنه. وفي الأثر : "إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه".
وأما أنه "لا يشهر فيه بسلاح (3). ولا ينبض فيه بقوس ، ولا ينثر فيه نبل (4). فلما يخشى من إصابة بعض الناس به ، لكثرة المصلين فيه ؛ ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها ؛ لئلا يؤذي أحدًا ، كما ثبت في الصحيح (5).
وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه ، فَلِما يخشى من تقاطر الدم منه ، كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث.
وأما أنه "لا يضرب فيه حد ولا يقتص" ، فلما يخشى من إيجاد نجاسة فيه من المضروب أو المقطوع.
وأما أنه "لا يتخذ سوقًا" ، فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه ، فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ، (6) لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد : "إن المساجد لم تبن لهذا ، إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها". ثم أمر بسَجْل من ماء ، فأهريق على بوله (7).
وفي الحديث الثاني : "جَنِّبوا مساجدكم صبيانكم" ، وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم ، وقد كان عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، إذا رأى صبيانًا يلعبون في المسجد (8) ، ضربهم بالمِخْفَقَة - وهي الدِّرَّة - وكان يَعُسّ (9) المسجد بعد العشاء ، فلا يترك فيه أحدًا.
"ومجانينكم" يعني : لأجل ضعف عقولهم ، وسَخْر الناس بهم ، فيؤدي إلى (10) اللعب فيها ، ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ، ونحو ذلك.
"وبيعكم وشراءكم" كما تقدم.
"وخصوماتكم" يعني : التحاكم والحكم فيه ؛ ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد ، بل يكون في موضع غيره ؛ لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والعياط (11) الذي لا يناسبه ؛ ولهذا قال بعده : "ورفع أصواتكم".
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا الجُعَيْد (12) بن عبد الرحمن قال : حدثني (13) يزيد بن خُصَيفَة (14) ، عن السائب بن يَزيدَ الكنْديِّ قال : كنت قائمًا في المسجد ، فحصبني رجل ، فنظرت فإذا عمر (15) بن الخطاب ، فقال : اذهب فأتني بهذين. فجئته بهما ، فقال : من أنتما ؟ أو : من أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف. قال : لو كنتما من أهل
__________
(1) سنن ابن ماجه برقم (750) وقال البوصيري في الزوائد (1/265) : "هذا إسناد ضعيف ، أبو سعيد هو محمد بن سعيد المصلوب ، قال أحمد : عمدا كان يضع الحديث ، ثم قال : والحارث بن نبهان ضعيف".
(2) في ف ، أ : "إسناده".
(3) في أ : "السلام".
(4) في ف : "بنبل".
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (2615) من حديث أبي موسى الأشعري.
(6) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (284) من حديث أنس بن مالك ، رضي الله عنه.
(8) في ف : "فيه".
(9) في ف ، أ : "يفتش".
(10) في أ : "على".
(11) في أ : "والغياظ".
(12) في ف ، أ : "الجعد".
(13) في ف ، أ : "عن".
(14) في ف ، أ : "حفصة".
(15) في ف ، أ : "فإذا هو عمر".

(6/64)


البلد لأوجعتكما : ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وقال النسائي : حدثنا سُوَيْد بن نصر ، عن عبد الله بن المبارك ، عن شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال : سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال : أتدري أين أنت ؟ وهذا أيضًا صحيح. (2)
وقوله : "وإقامة حدودكم ، وسل سيوفكم" : تقدما. (3)
وقوله : "واتخذوا على أبوابها المطاهر" يعني : المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة. وقد كانت قريبًا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم آبار (4) يستقون منها ، فيشربون ويتطهرون ، ويتوضؤون وغير ذلك.
وقوله : "وجمِّروها في الجُمَع" يعني : بخروها في أيام الجُمَع لكثرة اجتماع الناس يومئذ.
وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبيد الله ، حدثنا عبد الرحمن (5) بن مهدي ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع عن ابن عمر ؛ أن عمر كان يُجَمِّر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة. إسناده حسن لا بأس به (6) والله أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "صلاة الرجل في الجماعة تُضَعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه ، خمسًا وعشرين ضعفًا. وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه (7) ثم خرج إلى المسجد ، لا يخرجه إلا الصلاة ، لم يَخطُ خَطوة إلا رُفع له بها درجة ، وحطّ عنه بها خطيئة ، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مُصَلاه : اللهم صل عليه ، اللهم ارحمه ، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة" (8)
وعند الدارقطني مرفوعًا : "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (9).
وفي السنن : "بشِّر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة" (10).
والمستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى ، وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عَمرو (11) رضي الله عنه (12) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال :
__________
(1) صحيح البخاري برقم (470).
(2) وذكره المزي في تحفة الأشراف (8/4) وعزاه للنسائي في السنن الكبرى في المواعظ.
(3) في أ : "تقدم".
(4) في أ : "أباريق".
(5) في أ : "عبد الله".
(6) مسند أبي يعلى (1/170).
(7) في ف ، أ : "الوضوء".
(8) صحيح البخاري برقم (647) وصحيح مسلم برقم (649) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(9) سنن الدارقطني (1/420) من طريق سليمان بن داود اليمامي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا ، به. وقد رواه الحاكم في المستدرك (1/246) والبيهقي في السنن الكبرى (3/57) من طريق سليمان بن داود ، به. وسليمان بن داود مجمع على تضعيفه. ومن حديث جابر ، رواه الدارقطني أيضا في السنن (1/420) من طريق محمد بن مسكين عن عبد الله بن بكير عن محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا ، به. وقال أبو الطيب في التعليق : "فيه محمد بن مسكين ، قال الذهبي : لا يعرف وخبره منكر. وقال البخاري : في إسناد حديثه نظر".
(10) رواه أبو داود في السنن برقم (561) والترمذي في السنن برقم (223) من حديث بريدة بن الحصيب ، رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "هذا حديث غريب من هذا الوجه مرفوع ، وهو صحيح مسند وموقوف إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم".
(11) في أ : "عمر".
(12) في ف ، أ : "عنهما".

(6/65)


أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم" [قال : أقط ؟ قال : نعم] (1). قال : فإذا قال ذلك قال الشيطان : حُفظ مني سائر اليوم (2).
وروى مسلم بسنده عن أبي حميد - أو : أبي أسَيْد - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك".
ورواه النسائي عنهما ، عن النبي (3) صلى الله عليه وسلم [مثله] (4) (5).
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا دخل أحدكم المسجد ، فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم".
ورواه ابن ماجه ، وابن خزيمة وابن حِبَّان في صحيحيهما (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا لَيْث بن أبي سليم ، عن عبد الله بن حسن (7). عن أمه فاطمة بنت حسين ، عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ، ثم قال : "اللهم ، اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك". وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال : "اللهم ، اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك".
ورواه الترمذي وابن ماجه (8) ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن وإسناده ليس بمتصل ؛ لأن فاطمة بنت الحسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى.
فهذا الذي ذكرناه ، مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك لحال الطول (9). كله داخل في قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ }.
وقوله : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } أي : اسم الله ، كقوله : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } [الأعراف : 31] ، وقوله { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [الأعراف : 29] ، وقوله { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن : 18].
قال ابن عباس : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } يعني : يتلى فيها كتابه.
وقوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } أي : في البُكَرات والعَشِيَّات. والآصال : جمع أصيل ،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) لم أجده في صحيح البخاري ، وقد ذكره المزي في تحفة الأشراف وابن الأثير في جامع الأصول ولم يعزواه إلا لأبي داود في السنن برقم (466).
(3) في ف ، أ : "رسول الله".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) صحيح مسلم برقم (713) وسنن النسائي (2/53).
(6) سنن ابن ماجه برقم (773) وصحيح ابن خزيمة برقم (452) وصحيح ابن حبان برقم (2048) "الإحسان" كلهم من طريق أبي بكر الحنفي عن الضحاك بن عثمان عن المقبري عن أبي هريرة ، به. وقال البوصيري في الزوائد (1/97) : "هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات".
(7) في أ : "حسين".
(8) المسند (6/282) وسنن الترمذي برقم (314) وسنن ابن ماجه برقم (771).
(9) في ف ، أ : "لجافي القول".

(6/66)


وهو آخر النهار.
وقال سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : كل تسبيح في القرآن هو الصلاة.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني بالغدو : صلاة الغداة ، ويعني بالآصال : صلاة العصر ، وهما أول ما افترض الله من الصلاة ، فأحب أن يَذْكُرهما وأن يُذَكِّر بهما عباده.
وكذا قال الحسن ، والضحاك : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } يعني : الصلاة.
ومن قرأ من القَرَأَة (1) " يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ" - بفتح الباء من "يُسبح" على أنه مبني لما لم يسم فاعله - وقف (2) على قوله : { والآصَال } وقفًا تامًا ، وابتدأ بقوله : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } وكأنه مفسر للفاعل المحذوف ، كما قال الشاعر (3).
لِيُبْكَ يزيدُ ، ضارعٌ لخُصُومة... ومُخْتَبطٌ مما تُطيح الطّوَائحُ...
كأنه قال : من يبكيه ؟ قال : هذا يبكيه. وكأنه قيل : من يسبح له فيها ؟ قال : رجال.
وأما على قراءة مَنْ قرأ : { يسبِّح } - بكسر الباء - فجعله فعلا وفاعله : { رِجَال } فلا يحسن الوقف إلا على الفاعل ؛ لأنه تمام الكلام.
فقوله : { رِجَال } فيه إشعار بهممهم السامية ، ونياتهم وعزائمهم العالية ، التي بها صاروا عُمَّارا للمساجد ، التي هي بيوت الله في أرضه ، ومواطن عبادته وشكره ، وتوحيده وتنزيهه ، كما قال تعالى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } [الأحزاب : 23].
فأما النساء فَصَلاتهن في بيوتهن أفضل لهن ؛ لما رواه أبو داود ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها" (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رِشْدِين ، حدثني عمرو ، عن أبي السمح ، عن السائب مولى أم سلمة عن أم سلمة - رضي الله عنها ، - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "خير مساجد النساء [قعر] (5) بيوتهن" (6).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا هارون ، أخبرني عبد الله بن وهب ، حدثنا داود بن قيس ، عن عبد الله بن سُوَيد الأنصاري ، عن عمته أم حميد - امرأة أبي حميد الساعدي - أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالتت : يا رسول الله ، إني أحب الصلاة معك قال : "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي ، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك ، وصلاتك في حُجْرَتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي". قال : فأمَرَت فبُني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه (7) ، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله ، عز وجل. لم يخرجوه. (8)
__________
(1) في ف ، أ : "القراء".
(2) في ف : "ويقف".
(3) ينسب للشاعر نهشل بن حري ولغيره ، وهو من شواهد الكتاب لسيبويه (1/145) والمقتضب للمبرد (3/382) ومغني اللبيب لابن هشام الشاهد رقم (1048) ا.هـ ، مستفادا من حاشية الشعب.
(4) سنن أبي داود برقم (580).
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) المسند (6/297).
(7) في هـ : "بيوتها والله" وفي ف ، أ : "بيتها والله" والمثبت من المسند.
(8) المسند (6/371).

(6/67)


هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال ، بشرط أن لا تؤذي أحدًا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب كما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عُمَر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" (1).
رواه البخاري ومسلم ، ولأحمد وأبي داود : "وبيوتهن خير لهن" (2) وفي رواية : "وليخرجن وهن تَفِلات" (3) أي : لا ريح لهن.
وقد ثبت في صحيح مسلم ، عن زينب - امرأة ابن مسعود - قالت : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا" (4).
وفي الصحيحين عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : كان نساء المؤمنين (5) يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يرجعن متلفعات بمُرُوطهن ، ما يُعْرَفْن من الغَلَس (6).
وفي الصحيحين أيضًا عنها أنها قالت : لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهُنّ المساجد ، كما مُنعت نساء بني إسرائيل (7).
وقوله : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } ، كقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المنافقون : 9] ، وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [الجمعة : 9]
يقول تعالى : لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها ومَلاذ بَيعها وريحها ، عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم ، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم ؛ لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق ؛ ولهذا قال : { لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } أي : يقدمون طاعته ومُرَاده ومحبته على مرادهم ومحبتهم.
قال هُشَيْم : عن سَيَّار (8) : [قال] (9) حُدِّثت عن ابن مسعود أنه رأى قومًا من أهل السوق ، حيث نودي بالصلاة ، تركوا بياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة ، فقال عبد الله : هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } (10).
وهكذا روى عَمْرو بن دينار القَهْرَمَانيّ ، عن سالم ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، أنه كان في السوق (11) فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم
__________
(1) صحيح البخاري برقم (900) وصحيح مسلم برقم (442).
(2) المسند (2/76) وسنن أبي داود برقم (567) من حديث عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما.
(3) وهي في المسند (2/438) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(4) صحيح مسلم برقم (443).
(5) في ف ، أ : "المؤمنات".
(6) صحيح البخاري برقم (578) وصحيح مسلم برقم (645).
(7) صحيح البخاري برقم (869) وصحيح مسلم برقم (445).
(8) في ف ، أ : "شيبان".
(9) زيادة من ف ، أ.
(10) رواه الطبري في تفسيره (18/113).
(11) في ف ، أ : "بالسوق".

(6/68)


نزلت : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ }. رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر (2) الصنعاني ، حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم (3) حدثنا عبد الله بن بُجَيْر ، حدثنا أبو عبد رب (4) قال : قال أبو الدرداء ، رضي الله عنه : إني قمت (5) على هذا الدرج أبايع عليه ، أربح كل يوم ثلاثمائة دينار ، أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد ، أما إني لا أقول : "إن ذلك ليس بحلال" ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ }.
وقال عمرو بن دينار الأعور : كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد ، فمررنا بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخَمَّروُا متاعهم ، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد ، فتلا سالم هذه الآية : { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } ثم قال : هم هؤلاء.
وكذا قال سعيد بن أبي الحسن ، والضحاك : لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها.
وقال مطر الوَرَّاق : كانوا يبيعون ويشترون ، ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانُه في يده خفضه ، وأقبل إلى الصلاة.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس { لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } يقول : عن الصلاة المكتوبة. وكذا قال الربيع بن أنس ومقاتل بن حيان.
وقال السُّدِّي : عن الصلاة في جماعة.
وعن مقاتل بن حيان : لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة ، وأن يقيموها كما أمرهم (6) الله ، وأن يحافظوا على مواقيتها ، وما استحفظهم الله فيها.
وقوله : { يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ } أي : يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار ، أي : من شدة الفزع وعظمة الأهوال ، كما قال تعالى { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } [غافر : 18] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } [إبراهيم : 42] ، وقال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا } [الإنسان : 8 - 12].
وقال هاهنا { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا } أي : هؤلاء من الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم.
وقوله : { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } أي : يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 40] ، وقال تعالى : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام : 160] ، وقال { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة : 245] ، وقال { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } [البقرة : 261]
__________
(1) تفسير الطبري (18/113).
(2) في ف ، أ : "بكير".
(3) في أ : "هشام".
(4) في ف ، أ : "عبد ربه".
(5) في أ : "قمت".
(6) في ف ، أ : "أمر".

(6/69)


وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

كما قال هاهنا : { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
وعن ابن مسعود : أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحدًا واحدًا ، فكلهم لم يشربه لأنه كان صائمًا ، فتناوله ابن مسعود وكان مفطرًا فشربه ، ثم تلا قوله تعالى (1) { يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ } ، رواه النسائي ، وابن أبي حاتم ، من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عنه (2).
وقال [ابن أبي حاتم] (3) أيضًا : حدثنا أبي ، حدثنا سُوَيْد بن سعيد ، حدثنا علي بن مُسْهِر عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن شهر بن حَوْشَب عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ، جاء مناد فنادى بصوت يُسمع الخلائق : سيعلم أهلُ الجمع من أولى بالكرم ، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. فيقومون ، وهم قليل ، ثم يحاسب سائر الخلائق" (4).
وروى الطبراني ، من حديث بَقيَّة ، عن إسماعيل بن عبد الله الكندي ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } [فاطر : 30] قال : { أُجُورَهُمْ } يدخلهم الجنة { ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } ، الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة ، لمن صنع لهم المعروف في الدنيا (5).
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) }
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار ، كما ضرب للمنافقين في أول "البقرة" (6) مثلين ناريًا ومائيًا ، وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة "الرعد" (7) مثلين مائيًا وناريًا ، وقد تكلمنا على كل منها (8) في موضعه بما أغنى عن إعادته ، ولله الحمد والمنة.
فأما الأول من هذين المثلين : فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم ، الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات ، وليسوا في نفس الأمر على شيء ، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض عن (9) بعد كأنه بحر طام.
__________
(1) في ف ، أ : "عز وجل".
(2) ذكره المزي في تحفة الأشراف برقم (9435) وعزاه للنسائي في المواعظ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) ورواه هناد في الزهد برقم (176) من طريق أبي معاوية عن عبد الرحمن بن إسحاق ، به. وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف.
(5) المعجم الكبير للطبراني (10/248) وقال الحافظ ابن كثير عند تفسير الآية : 173 من سورة النساء : "هذا إسناد لا يثبت ، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفا فهو جيد".
(6) عند الآية : 17 ، والآية : 19.
(7) عند الآية : 17.
(8) في ف ، أ : "منهما".
(9) في ف : "من".

(6/70)


والقيعة : جمع قاع ، كجار وجيرَةٍ. والقاع أيضًا : واحد القيعان ، كما يقال : جار وجيران. وهي : الأرض المستوية المتسعة المنبسطة ، وفيه يكون السراب ، وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار. وأما الآل (1) فإنما يكون أول النهار ، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض ، فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء ، حسبه ماءً فقصده ليشرب منه ، فلما انتهى إليه { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } ، فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملا وأنه قد حَصَّل شيئًا ، فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ، ونوقش على أفعاله ، لم يجد له شيئًا بالكلية قد قُبل ، إما لعدم الإخلاص ، وإما لعدم سلوك الشرع ، كما قال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان : 23].
وقال هاهنا : { وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }. وهكذا رُوي عن أُبي بن كعب ، وابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة وغير واحد.
وفي الصحيحين (2) : أنه يقال يوم القيامة لليهود : ما كنتم تعبدون ؟ فيقولون : كنا نعبد عُزَيْر ابن الله. فيقال : كذبتم ، ما اتخذ الله من ولد ، ماذا تبغون ؟ فيقولون : أي رَبَّنَا ، عَطشنا فاسقنا. فيقال : ألا ترون ؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا ، فينطلقون فيتهافتون فيها (3).
وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب. فأما أصحاب الجهل البسيط ، وهم الطَّماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر ، الصم البكم الذين لا يعقلون ، فمثلهم كما قال تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } : قال قتادة : وهو العميق. { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } أي : لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام ، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يدري أين يذهب ، ولا [هو] (4) يعرف حال من يقوده ، بل كما يقال في المثل للجاهل : أين تذهب ؟ قال : معهم. قيل : فإلى أين يذهبون ؟ قال : لا أدري.
وقال العوفي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ } يعني بذلك : الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر ، وهي كقوله : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [البقرة : 7] ، وكقوله (5) : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [الجاثية : 23].
وقال أُبيّ بن كعب في قوله : { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } فهو يتقلب في خمسة من الظلم : كلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات ، إلى النار.
وقال الربيع بن أنس ، والسُّدِّي نحو ذلك أيضًا.
وقوله : { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } أي : من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر ، كما قال تعالى : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ } [الأعراف : 186] وهذا [في] (6)
__________
(1) في أ : "الأول".
(2) في أ : "الصحيح".
(3) صحيح البخاري برقم (4581) وصحيح مسلم برقم (183) من حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في أ : "وقوله".
(6) زيادة من ف ، أ.

(6/71)


أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)

مُقابلة ما قال في مثل المؤمنين : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ } فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نورًا ، وعن أيماننا نورًا ، وعن شمائلنا نورًا ، وأن يعظم لنا نورًا.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) }
يخبر تعالى أنه يُسَبِّحه من في السموات والأرض ، أي : من الملائكة والأناسي ، والجان والحيوان ، حتى الجماد ، كما قال تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [الإسراء : 44].
وقوله : { وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ } أي : في حال طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه ، وهو يعلم ما هي فاعلة ؛ ولهذا قال : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } أي : كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله ، عز وجل.
ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ؛ ولهذا (1) قال : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ }.
ثم أخبر تعالى : أن له ملك السموات والأرض ، فهو الحاكم المتصرف الذي لا معقب لحكمه ، وهو الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له. { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } أي : يوم القيامة ، فيحكم فيه بما يشاء ؛ { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم : 31] ، فهو الخالق المالك ، ألا له الحكم في الدنيا والأخرى ، وله الحمد في الأولى والآخرة ؟!.
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ (43) }
__________
(1) في ف ، أ : "ولذا".

(6/72)


يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)

{ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ (44) }
يذكر تعالى أنه بقدرته يسوق السحاب أول ما ينشئها وهي ضعيفة ، وهو الإزجاء { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أي : يجمعه بعد تفرقه ، { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا } أي : متراكمًا ، أي : يركب بعضه بعضًا ، { فَتَرَى الْوَدْقَ } أي المطر { يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ } أي : من خَلَله. وكذا (1) قرأها ابن عباس والضحاك.
قال عبيد بن عمير الليثي : يبعث الله المثيرة فَتَقُمّ الأرض قمًا ، ثم يبعث الله الناشئة فتنشئ السحاب ، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه ، ثم يبعث [الله] (2) اللواقح فتلقح السحاب. رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، رحمهما الله.
وقوله : { وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } : قال بعض النحاة : "من" الأولى : لابتداء الغاية ، والثانية : للتبعيض ، والثالثة : لبيان الجنس. وهذا إنما يجيء على قول من ذهب من
__________
(1) في ف ، أ : "وكذلك".
(2) زيادة من ف.

(6/72)


وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)

المفسرين إلى أن قوله : { مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } ومعناه : أن في السماء جبالَ بَرَد ينزل الله منها البرد. وأما من جعل الجبال ههنا عبارة (1) عن السحاب ، فإن "من" الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا ، لكنها بَدَل من الأولى ، والله أعلم.
وقوله : { فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } يحتمل أن يكون المراد بقوله : { فَيُصِيبُ بِهِ } أي : بما ينزل من السماء من نوعي البرد والمطر (2) فيكون قوله : { فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ } رحمة لهم ، { وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ } أي : يؤخر عنهم الغيث.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله : { فَيُصِيبُ بِهِ } أي : بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم وأشجارهم. ويصرفه عمن يشاء [أي : ] (3) رحمة بهم.
وقوله : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأبْصَارِ } أي : يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته.
وقوله { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } أي : يتصرف فيهما ، فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ثم يأخذ من هذا في هذا ، فيطول الذي كان قصيرًا ، ويقصر الذي كان طويلا. والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ } أي : لدليلا على عظمته تعالى ، كما قال الله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } [آل عمران : 190]. وما بعدها من الآيات الكريمات.
{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) }.
يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم ، في خلقه أنواع [المخلوقات] (4). على اختلاف أشكالها وألوانها ، وحركاتها وسكناتها ، من ماء واحد ، { فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } كالحية وما شاكلها ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ } كالإنسان والطير ، { وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } كالأنعام وسائر الحيوانات ؛ ولهذا قال : { يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } أي : بقدرته ؛ لأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
{ لَقَدْ أَنزلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) }.
يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحكم (5) والأمثال البينة المحكمة ، كثيرًا (6) جدًا ، وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهى ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
{ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) }
__________
(1) في ف ، أ : "كناية".
(2) في ف : "المطر والبرد".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في هـ : "من الحكم والحكم والأمثال". والمثبت من ف ، أ.
(6) في ف : "المحكمة ما هو كثير".

(6/73)


يخبر تعالى عن صفات المنافقين ، الذين يظهرون خلاف ما يبطنون ، يقولون قولا بألسنتهم : { آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي : يخالفون أقوالهم بأعمالهم ، فيقولون ما لا يفعلون ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }.
وقوله : { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ } أي : إذا طلبوا إلى اتباع الهدى ، فيما أنزل الله على رسوله ، أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه. وهذه كقوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } [النساء : 60 ، 61].
وفي الطبراني من حديث روح بن عطاء بن (1) أبي ميمونة ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن سَمُرَة مرفوعًا : "من دُعي إلى سلطان فلم يجب ، فهو ظالم لا حق له" (2).
وقوله : { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } ، أي : وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم ، جاؤوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله : { مُذْعِنِينَ } وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق ، وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ليروج باطله ثَمّ. فإذعانه أولا لم يكن عن اعتقاد منه أن ذلك هو الحق ، بل لأنه موافق لهواه ؛ ولهذا لما خالف الحقّ قصده ، عدل عنه إلى غيره ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } يعني : لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مَرَض لازم لها ، أو قد عرض لها شك في الدين ، أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم. وأيّا ما كان فهو كفر محض ، والله عليم بكل منهم ، وما هو عليه منطو من هذه الصفات.
وقوله : { بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي : بل هم الظالمون الفاجرون ، والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور ، تعالى الله ورسوله عن ذلك.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا مبارك ، حدثنا الحسن قال :
__________
(1) في ف ، أ : "عن".
(2) المعجم الكبير للطبراني (7/225) وقال الهيثمي في المجمع (4/198) : "فيه روح بن عطاء ، وثقه ابن عدي وضعفه الأئمة".

(6/74)


كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة ، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مُحِقّ أذعن ، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق. وإذا أراد أن يظلم فدُعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض ، وقال : أنطلقُ إلى فلان. فأنزل الله هذه الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كان بينه وبين أخيه شيء ، فدُعِي إلى حَكَم من حُكَّام المسلمين فأبى أن يجيب ، فهو ظالم لا حق له" (1).
وهذا حديث غريب ، وهو مرسل.
ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله ، الذين لا يبغون دينا سوى كتاب الله وسنة رسوله ، فقال : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي : سمعًا وطاعة ؛ ولهذا وصفهم تعالى بفلاح ، وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب ، فقال : { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.
وقال قتادة في هذه الآية : { أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ذُكر لنا أن عُبَادة بن الصامت - وكان عَقَبيَّا بدريا ، أحد نقباء الأنصار - أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية : ألا أنبئك بماذا عليك وَمَاذا لك ؟ قال : بلى. قال : فإن عليك السمع والطاعة ، في عسرك ويسرك ، ومَنْشَطك ومكرهك ، وأثرةً عليك. وعليك أن تقيم لسانك بالعدل ، وألا تنازع الأمرَ أهله ، إلا أن يأمروك بمعصية الله بَوَاحا ، فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله ، فاتبع كتاب الله.
وقال قتادة : وَذُكر (2) لنا أن أبا الدرداء قال : لا إسلام إلا بطاعة الله ، ولا خير إلا في جماعة ، والنصيحة لله ولرسوله ، وللخليفة وللمؤمنين عامة.
قال : وقد ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كان يقول : عُروة الإسلام شهادةُ أن لا إله إلا الله ، وإقامُ الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين.
رواه ابن أبي حاتم ، والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب الله [وسنة رسوله ، وللخلفاء الراشدين ، والأئمة إذا أمروا بطاعة الله] (3) كثيرة جدًا ، أكثر من أن تحصر في هذا المكان.
وقوله { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : فيما أمراه به وترك (4) ما نهياه (5) عنه ، { وَيَخْشَ اللَّهَ } فيما مضى من ذنوبه ، { وَيَتَقِهِ } فيما يستقبل.
وقوله { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } يعني : الذين فازوا بكل خير ، وأمنُوا من كل شر (6) في الدنيا والآخرة.
__________
(1) ورواه عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن مرسلا كما في الدر المنثور (6/213).
(2) في ف : "وذكروا".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في أ : "ويترك".
(5) في ف ، أ : "نهيا".
(6) في ف ، أ : "سوء".

(6/75)


وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)

{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) }

(6/76)


قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)

{ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) }
يقول تعالى مخبرا عن أهل النفاق ، الذين كانوا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم لئن أمرهم (1) بالخروج [في الغزو] (2) قال الله تعالى : { قُلْ لا تُقْسِمُوا } أي : لا تحلفوا.
وقوله : { طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } قيل : معناه (3) طاعتكم طاعة معروفة ، أي : قد عُلمت طاعتكم ، إنما هي قول لا فعل معه ، وكلما حلفتم كذبتم ، كما قال تعالى : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [التوبة : 96] ، وقال تعالى : { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [المنافقون : 2] ، فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ } [الحشر : 11 ، 12]
وقيل : المعنى في قوله : { طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ } أي : ليكن أمركم طاعة معروفة ، أي : بالمعروف من غير حَلف ولا إقسام ، كما يطيع الله ورسوله المؤمنون بغير حلف ، فكونوا أنتم مثلهم.
{ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : هو خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي ، فالحلف وإظهار الطاعة - والباطن بخلافه ، وإن راج على المخلوق (4) - فالخالق ، تعالى ، يعلم السر وأخفى ، لا يروج عليه شيء من التدليس ، بل هو خبير بضمائر عباده ، وإن أظهروا خلافها.
ثم قال تعالى : { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } أي : اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله.
وقوله : { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم به ، { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } أي : إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، { وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ } أي : من ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه ، { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا } ، وذلك لأنه يدعو إلى صراط مستقيم { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } [الشورى : 53].
وقوله : { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } كقوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد : 40] ، وقوله { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } [الغاشية : 21 ، 22].
وقال وهب بن مُنَبِّه : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل - يقال له : شعياء - أن قم في بني إسرائيل فإني سأطلق لسانك بوحي. فقام فقال : يا سماء اسمعي ، ويا أرض انصتي ، فإن الله يريد أن يقضي شأنًا ويدبر أمرًا هو منفذه ، إنه يريد أن يحول الريف إلى الفلاة ، والآجام (5) في الغيطان ، والأنهار في الصحاري ، والنعمة في الفقراء ، والملك في الرعاة ، ويريد أن يبعث أميا من الأميين ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سَخّاب في الأسواق ، لو يمر إلى جنب السراج لم يطفئه من سكينته ، ولو يمشي على القصب اليابس لم يسمع من تحت قدميه. أبعثه مُبَشِّرا ونذيرًا ، لا يقول
__________
(1) في ف ، أ : "أمرتهم".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف ، أ : "تقديره".
(4) في ف : "المحلوف".
(5) في أ : "الأجسام".

(6/76)


وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)

الخنَا ، أفتح به أعينا عُمْيًا ، وآذانًا صُمًّا ، وقلوبا غُلْفًا ، وأسَدِّده لكل أمر جميل ، وأهب له كل خلق كريم ، وأجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة منطقه ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والمعروف خلقه ، والحق شريعته ، والعدل سيرته ، والهدى إمامه ، والإسلام ملته ، وأحمد اسمه ، أهْدِي به بعد الضلالة ، وأعلِّم به من الجهالة ، وأرْفَعُ به بعد الخمَالة ، وأعرف به بعد النُّكْرَة ، وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العَيلَة ، وأجمع به بعد الفرقة ، وأؤلف به بين أمم متفرقة ، وقلوب مختلفة ، وأهواء متشتتة ، وأستنقذ به فئامًا من الناس عظيما من الهَلَكة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، موحدين مؤمنين مخلصين ، مصدقين بما جاءت به رُسُلي. رواه ابن أبي حاتم (1).
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) }
هذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم (2). بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض ، أي : أئمةَ الناس والولاةَ عليهم ، وبهم تصلح (3) البلاد ، وتخضع (4) لهم العباد ، ولَيُبدلَنّ بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم ، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك. وله الحمد والمنة ، فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين ، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها. وأخذ الجزية من مَجُوس هَجَر ، ومن بعض أطراف الشام ، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية - وهو المقوقس - وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة ، الذي تَملَّك بعد أصْحَمة ، رحمه الله وأكرمه.
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة ، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق ، فَلَمّ شَعَث ما وَهَى عند (5) موته ، عليه الصلاة والسلام (6) وأطَّدَ جزيرة العرب ومهدها ، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، ففتحوا طرفا منها ، وقتلوا خلقا من أهلها. وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة ، رضي الله عنه ، ومن معه من الأمراء إلى أرض الشام ، وثالثًا صحبة عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، إلى بلاد مصر ، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بُصرى ودمشق ومَخَاليفهما من بلاد حَوران وما والاها ، وتوفاه الله عز وجل ، واختار له ما عنده من الكرامة. ومَنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن استخلف عمر الفاروق ، فقام في الأمر بعده قياما تاما ، لم يَدُر الفلك بعد الأنبياء [عليهم السلام] (7) على مثله ، في قوة سيرته وكمال عدله. وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها ، وديار مصر إلى آخرها ، وأكثر إقليم فارس ، وكَسَّر كسرى وأهانه غاية الهوان ، وتقهقر إلى أقصى مملكته ، وقَصَّر قيصر ، وانتزع يده عن بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينة ، وأنفق أموالهما في سبيل الله ، كما أخبر
__________
(1) وروي عن عبد الله بن سلام وكعب الأحبار كما في الشفا للقاضي عياض (1/15).
(2) في ف ، أ : "صلوات الله وسلامه عليه".
(3) في ف ، أ : "يصلح".
(4) في ف ، أ : "ويخضع".
(5) في ف : "بعد".
(6) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(7) زيادة من ف ، أ.

(6/77)


بذلك ووعد به رسول الله ، عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة.
ثم لما كانت الدولة العثمانية ، امتدت المماليك (1) الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها ، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك : الأندلس ، وقبرص ، وبلاد القيروان ، وبلاد سَبْتَةَ مما يلي البحر المحيط ، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين ، وقتل كسرى ، وباد ملكه بالكلية. وفتحت مدائن العراق ، وخراسان ، والأهواز ، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا ، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان ، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه. وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن ؛ ولهذا ثبت في الصحيح (2) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله زَوَى لي الأرض ، فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها" (3) فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، فنسأل (4) الله الإيمان به ، وبرسوله ، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا.
قال الإمام مسلم بن الحجاج : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سَمُرَة قال : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا". ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني (5) فسألت أبي : ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : "كلهم من قريش".
ورواه البخاري من حديث شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، به (6)
وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك ، وذكر معه أحاديث أخر (7)
وهذا الحديث فيه دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادلا وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر فإن كثيرًا من أولئك لم يكن إليهم من الأمر شيء ، فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش ، يَلُون فيعدلون. وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة ، ثم لا يشترط أن يكون متتابعين ، بل يكون وجودهم في الأمة متتابعا ومتفرقا ، وقد وُجِد منهم أربعة على الولاء ، وهم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، رضي الله عنهم. ثم كانت (8) بعدهم (9) فترة ، ثم وُجِد منهم ما شاء الله ، ثم قد يُوجَد منهم مَن بقي في وقت يعلمه الله. ومنهم المهدي الذي يطابق اسمه اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنيته كنيته ، يملأ الأرض عدلا وقسطا ، كما ملئت جورًا وظلما.
وقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث سعيد بن جُمْهان ، عن سَفِينة - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (10) : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم
__________
(1) في جـ ، أ : "الممالك".
(2) في أ : "الصحيحين".
(3) صحيح مسلم برقم (2889) من حديث ثوبان ، رضي الله عنه.
(4) في ف : "ونسأل".
(5) في ف ، أ : "علي".
(6) صحيح مسلم برقم (1821) وصحيح البخاري برقم (7222).
(7) صحيح مسلم برقم (1822).
(8) في ف ، أ : "كان".
(9) في ف ، أ : "بينهم".
(10) في ف ، أ : "عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" والمثبت من المسند وسنني أبي داود والترمذي.

(6/78)


يكون ملكا عَضُوضا" (1).
وقال الربيع بن أنس ، عن أبي العالية في قوله : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } (2) الآية ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة (3) نحوا من عشر سنين ، يدعون إلى الله وحده ، وعبادته وحده لا شريك له سرًا وهم خائفون ، لا يؤمرون بالقتال ، حتى أمروا بعدُ بالهجرة إلى المدينة ، فقدموا المدينة ، فأمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين يُمْسُون في السلاح ويصبحون في السلاح ، فَغَيَّرُوا (4) بذلك ما شاء الله. ثم إن رجلا من أصحابه (5) قال : يا رسول الله ، أبدَ الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا [فيه] (6) السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن تَغْبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتَبِيًا ليست فيهم حديدة". وأنزل الله هذه الآية ، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب ، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله ، عز وجل ، قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا ، فأدخل [الله] (7) عليهم الخوف فاتخذوا الحَجَزَةَ والشرط وغَيّروا ، فَغُيَّر بهم.
وقال بعض السلف : خلافة أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، حق في كتابه ، ثم تلا هذه الآية.
وقال البراء بن عازب : نزلت هذه الآية ، ونحن في خوف شديد.
وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [الأنفال : 26].
وقوله : { كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } كما قال تعالى عن موسى ، عليه السلام ، أنه قال لقومه : { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف : 129] ، وقال تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [القصص : 5 ، 6].
وقوله : { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعديّ بن حاتم ، حين وفد عليه : "أتعرف الحيرة ؟" قال (8) : لم أعرفها ، ولكن قد (9) سمعت بها. قال : "فوالذي نفسي بيده ، ليُتمنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحِيرَة حتى
__________
(1) المسند (5/220) وسنن أبي داود برقم (4646) وسنن الترمذي برقم (2226) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8155) وقال الترمذي : "حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن جمهان" ولم ترد لفظة : "عضوض" في هذه المصادر ، وإنما وردت في حديث آخر عن أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله تعالى بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة ، وكائنا خلافة ورحمة ، وكائنا ملكا عضوضا ، وكائنا عنوة وجبرية وفسادا في الأمة... الحديث" أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8/159).
(2) في ف : "لنستخلفنهم".
(3) في ف ، أ : " بمكة وأصحابة".
(4) في ف : "فصبروا" وفي أ : "فعيروا".
(5) في ف ، أ : "الصحابة".
(6) زيادة من أ ، والدر المنثور 5/55.
(7) زيادة من أ ، والدر المنثور 5/55.
(8) في ف : "قلت له".
(9) في ف ، أ : "لم أرها وقد"

(6/79)


تطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز". قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : "نعم ، كسرى بن هرمز ، وليُبذَلَنّ المالُ حتى لا يقبله أحد". قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن افتتح (1) كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده ، لتكونن الثالثة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن أبي سلمة ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بشر هذه الأمة بالسَّناء والرفعة ، والدين والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ، لم يكن له في الآخرة نصيب" (3).
وقوله : { يعبدونني لا يشركون بي شيئا } قال الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة عن أنس ، أن معاذ بن جبل حدثه قال : بينا (4) أنا رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا آخرة الرَّحْل ، قال : "يا معاذ" ، قلت : لبيك يا رسول الله وسَعْديك. قال : ثم سار ساعة ، ثم قال : "يا معاذ بن جبل " ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك. [ثم سار ساعة ، ثم قال : "يا معاذ بن جبل" ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك"] (5). قال : "هل تدري ما حق الله على العباد" ؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال : "[فإن] (6) حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا". قال : ثم سار ساعة. ثم قال : "يا معاذ بن جبل" ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك. قال : "فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك" ؟ ، قال : قلت : الله ورسوله أعلم. قال : "فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم".
أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة (7).
وقوله : { وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك ، فقد فَسَقَ عن أمر ربه وكفى بذلك ذنبًا عظيما. فالصحابة ، رضي الله عنهم ، لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز وجل ، وأطوعهم لله - كان نصرهم بحسبهم ، وأظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب ، وأيدهم تأييدًا عظيما ، وتحكموا في سائر العباد والبلاد. ولما قَصَّر الناس بعدهم في بعض الأوامر ، نقص ظهورهم بحسبهم ، ولكن قد ثبت في الصحيحين ، من غير وجه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى اليوم (8) القيامة" وفي رواية : "حتى يأتي أمر الله ، وهم كذلك (9) ". وفي رواية : "حتى يقاتلوا الدجال". وفي رواية : "حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم ظاهرون". وكل
__________
(1) في أ : "فتح".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (3595).
(3) المسند (5/134).
(4) في أ : "بينما".
(5) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(6) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(7) المسند (5/242) وصحيح البخاري برقم (5967) وصحيح مسلم برقم (30).
(8) في ف ، أ : "يوم".
(9) في ف ، أ : "على ذلك".

(6/80)


وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)

هذه الروايات صحيحة ، ولا تعارض بينها.
{ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) }.
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بإقام الصلاة ، وهي عبادة الله وحده لا شريك له ، وإيتاء الزكاة ، وهي : الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم ، وأن يكونوا في ذلك مطيعين للرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، أي : سالكين وراءه فيما به أمرهم ، وتاركين (1) ما عنه زجرهم ، لعل الله يرحمهم بذلك. ولا شك أن من فعل ذلك أن الله سيرحمهم ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ } [التوبة : 71].
وقوله { لا تَحْسَبَنَّ } أي : [لا تظن] (2) يا محمد { الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : خالفوك وكذبوك ، { مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ } أي : لا يعجزون الله ، بل الله قادر عليهم ، وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب ؛ ولهذا قال : { وَمَأْوَاهُمُ } أي : في الدار الآخرة { النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي : بئس المآل مآلُ الكافرين ، وبئس القرار وبئس المهاد.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) }
__________
(1) في ف : "وترك".
(2) زيادة من ف ، أ.

(6/81)


وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

{ وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) }
هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض. وما تقدَّم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض. فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنَهم خَدَمُهم مما ملكَت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال : الأول من قبل صلاة الغداة ؛ لأن الناس إذ ذاك يكونون نيامًا في فرشهم { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ } أي : في وقت القيلولة ؛ لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله ، { وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ } لأنه وقت النوم ، فيُؤمَرُ الخدمُ والأطفال ألا يهجمُوا على أهل البيت في هذه الأحوال ، لما يخشى من أن يكون الرجل

(6/81)


على أهله ، ونحو ذلك من الأعمال ؛ ولهذا قال : { ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } أي : إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك ، ولا عليهم إن رأوا شيئا في غير تلك الأحوال ؛ لأنه قد أذن لهم في الهجوم ، ولأنهم { طَوَّافُونَ } عليكم ، أي : في الخدمة وغير ذلك ، ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم ؛ ولهذا رَوَى الإمام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهِرَّة : "إنها ليست بنجَس ؛ إنها من الطوافين عليكم - أو - والطوافات" (1).
ولما كانت هذه الآية محكمة ولم تنسخ بشيء ، وكان عمل الناس بها قليلا جدًا ، أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثني عبد الله بن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : قال ابن عباس : ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ [مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ] } (2) إلى آخر الآية ، والآية التي في سورة النساء : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ } [النساء : 8] ، والآية التي في الحجرات : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات : 13]
وروي أيضًا من حديث إسماعيل بن مسلم - وهو ضعيف - عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رَبَاح ، عن ابن عباس قال : غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات ، فلم يعملوا بهن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } إلى آخر الآية.
وقال أبو داود : حدثنا ابن الصباح بن سفيان وابن عبدة - وهذا حديثه - أخبرنا سفيان ، عن عبيد الله بن أبي يزيد ، سمع ابن عباس يقول : لم يؤمن بها أكثر (3) الناس - آية الإذن - وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي.
قال أبو داود : وكذلك رواه عطاء ، عن ابن عباس يأمر به (4).
وقال الثوري ، عن موسى بن أبي عائشة سألت الشعبي : { لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ، قال : لم تنسخ. قلت : فإن الناس لا يعملون بها. فقال : الله المستعان.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا ابن وهب ، أخبرنا سليمان بن بلال ، عن عمرو بن أبي عَمرو ، عن عكرمة عن ابن عباس ؛ أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن ، فقال ابن عباس : إن الله ستِّير يحب الستر ، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حِجال في بيوتهم ، فربما فاجأ الرجلَ خادمُه أو ولده أو يتيمه في حجره ،
__________
(1) الموطأ (1/23) والمسند (5/296) وسنن أبي داود برقم (75) وسنن الترمذي برقم (92) وسنن النسائي (1/55) وسنن ابن ماجه برقم (367).
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف ، أ : "كثير من".
(4) سنن أبي داود برقم (5191).

(6/82)


وهو على أهله ، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمَّى الله. ثم جاء الله بعد بالستور (1) ، فبسط [الله] (2) عليهم الرزق ، فاتخذوا الستور واتخذوا الحِجَال ، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به.
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، ورواه أبو داود ، عن القَعْنَبِيّ ، عن الدَّرَاوَرْدِيّ ، عن عمرو بن أبي عَمْرو به (3).
وقال السُّدِّي : كان أناس من الصحابة ، رضي الله عنهم ، يحبون أن يُوَاقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة ، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان ألا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن.
وقال مقاتل بن حَيَّان : بلغنا - والله أعلم - أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مُرْشدة صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما ، فجعل الناس يدخلون بغير إذن ، فقالت أسماء : يا رسول الله ، ما أقبح هذا! إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد ، غلامهما بغير إذن! فأنزل الله في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ [ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ] } (4) الآية.
ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ ، قوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
ثم قال تعالى : {. وَإِذَا بَلَغَ الأطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يعني : إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث ، إذا بلغوا الحلم ، وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال ، يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته ، وإن لم يكن في الأحوال الثلاث.
قال الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير : إذا كان الغلام رباعيا فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه ، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال. وهكذا قال سعيد بن جبير.
وقال في قوله : { كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يعني : كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه.
وقوله : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ } قال سعيد بن جُبَيْر ، ومُقَاتل بن حَيَّان ، وقتادة ، والضحاك : هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد ، { اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا } أي : لم يبق لهن تَشوُّف إلى التزويج ، { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } أي : ليس عليها من الحرج في التستر كما على غيرها من النساء.
قال أبو داود : حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن الحسين بن واقد ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة عن ابن عباس : { وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } الآية [النور : 31] فنسخ ، واستثنى من ذلك { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا } الآية (5)
قال ابن مسعود [في قوله] (6) : { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } قال : الجلباب ، أو
__________
(1) في ف : "بعده بالستور" وفي أ : "بعده الستر".
(2) زيادة من أ ، والدر المنثور 5/56.
(3) سنن أبي داود برقم (5192).
(4) زيادة من أ.
(5) سنن أبي داود برقم (4111).
(6) زيادة من أ.

(6/83)


لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

الرداء : وكذا رُوي عن ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء (1) وإبراهيم النَّخَعِيّ ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والأوزاعي ، وغيرهم.
وقال أبو صالح : تضع الجلباب ، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار.
وقال سعيد بن جُبَيْر وغيره ، في قراءة عبد الله بن مسعود : "أن يضعن من ثيابهن" وهو الجلباب من فوق الخمار فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره ، بعد أن يكون عليها خمار صَفيق.
وقال سعيد بن جبير : { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } يقول : لا يتبرجن بوضع الجلباب ، أن يرى ما عليها من الزينة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا ابن المبارك ، [حدثني سَوَّار بن ميمون ، حدثتنا طلحة بنت عاصم ، عن أم المصاعن ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : دخلت عليّ] (2) فقلت : يا أم المؤمنين ، ما تقولين في الخضاب ، والنفاض ، والصباغ ، والقُرطين ، والخلخال ، وخاتم الذهب ، وثياب الرقاق ؟ فقالت : يا معشر النساء ، قصتكن (3) كلها واحدة ، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات. أي : لا يحلّ لكنّ أن يَرَوْا منكن محرما.
وقال السدي : كان شريك لي يقال له : "مسلم" ، وكان مولى لامرأة حذيفة بن اليمان ، فجاء يوما إلى السوق وأثر الحنّاء في يده ، فسألته عن ذلك ، فأخبرني أنه خَضَب رأس مولاته - وهي امرأة حذيفة - فأنكرت ذلك. فقال : إن شئت أدخلتك عليها ؟ فقلت : نعم. فأدخلني عليها ، فإذا امرأة جليلة ، فقلت : إن مسلما حدثني أنه خضب رأسك ؟ فقالت : نعم يا بني ، إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحًا ، وقد قال الله في ذلك ما سمعت.
وقوله : { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ } أي : وترك وضعهن لثيابهن - وإن كان جائزًا - خير وأفضل لهن ، والله سميع عليم.
{ لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) }
اختلف المفسرون - رحمهم الله - في المعنى الذي رفع من أجله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض هاهنا ، فقال عطاء الخراساني ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في الجهاد.
__________
(1) في أ : "الشعبي".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في أ : "فصلن".

(6/84)


وجعلوا هذه الآية هاهنا كالتي في سورة الفتح (1) وتلك في الجهاد لا محالة ، أي : أنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد ؛ لضعفهم وعجزهم ، وكما قال تعالى في سورة براءة : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } [التوبة : 91 ، 92].
وقيل : المراد [هاهنا] (2) أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى ؛ لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات ، فربما سبقه غيره إلى ذلك. ولا مع الأعرج ؛ لأنه لا يتمكن من الجلوس ، فيفتات عليه جليسُه ، والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره ، فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم ، فأنزل الله هذه الآية رخصة في ذلك. وهذا قول سعيد بن جبير ، ومِقْسَم.
وقال الضحاك : كانوا قبل المبعث يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذرًا وتَقَزُّزًا ، ولئلا يتفضلوا عليهم ، فأنزل الله هذه الآية.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ } الآية قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه ، أو بيت أخته ، أو بيت عمته ، أو بيت خالته. فكان الزَّمنى يتحرجون (3) من ذلك ، يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم (4). فنزلت هذه الآية رخصةً لهم (5).
وقال السُّدّي : كان الرجل يدخل بيت أبيه ، أو أخيه أو ابنه ، فتُتْحفه المرأة بالشيء من الطعام ، فلا يأكل من أجل أن رَبَّ البيت ليس ثَمّ. فقال الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ } إلى قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا }.
وقوله تعالى : { وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ } ، إنما ذَكَر هذا - وهو معلوم - ليعطفَ عليه غيره في اللفظ ، وليستأديه (6) ما بعده في الحكم. وتضمن هذا بيوت الأبناء ؛ لأنه لم ينص عليهم. ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أنَّ مال الولد بمنزلة مال أبيه ، وقد جاء في المسند والسنن ، من غير وجه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أنت ومالك لأبيك" (7)
وقوله : { أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } ، إلى قوله { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } ، هذا ظاهر. وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض ، كما هو مذهب[الإمام] (8) أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل ، في المشهور عنهما.
__________
(1) عند الآية : 17.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "يحرجون".
(4) في أ : "عشيرتهم".
(5) تفسير عبد الرزاق (2/53).
(6) في أ : "ولا يساوي".
(7) المسند (2/179) وسنن أبي داود برقم (3530) وسنن ابن ماجه برقم (2292) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهما.
(8) زيادة من ف ، أ.

(6/85)


وأما قوله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } فقال سعيد بن جُبَير ، والسُّدِّي : هو خادم الرجل من عبد وقَهْرَمان ، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف.
وقال الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيدفعون مفاتحهم إلى ضُمَنائهم ، ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه. فكانوا يقولون : إنه لا يحل لنا أن نأكل ؛ إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم ، وإنما نحن أمناء. فأنزل الله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ }.
وقوله : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي : بيوت أصدقائكم وأصحابكم ، فلا جناح عليكم في الأكل منها ، إذا علمتم أن ذلك لا يَشُقُّ عليهم ولا يكرهون ذلك.
وقال قتادة : إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه.
وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : وذلك لما أنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [النساء : 29] قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو أفضل من الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد. فكف الناسُ عن ذلك ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى } (1) إلى قوله : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } (2) ، وكانوا أيضًا يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده ، حتى يكون معه غيره ، فرخص الله لهم في ذلك ، فقال : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا }.
وقال قتادة : وكان هذا الحي من بني كنانة ، يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية ، حتى إن كان الرجلُ لَيَسوقُ الذُّودَ الحُفَّل وهو جائع ، حتى يجد من يؤاكله ويشاربه ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا }.
فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ، ومع الجماعة ، وإن كان الأكل مع الجماعة أفضل وأبرك ، كما رواه الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن وَحْشيّ بن حَرْب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أنّ رجلا قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا نأكلُ ولا نشبَع. قال : "فلعلكم تأكلون متفرقين ، اجتمعوا على طعامكم ، واذكروا اسم الله يُبَاركْ لكم فيه".
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث الوليد بن مسلم ، به (3)
وقد رَوَى ابن ماجه أيضًا ، من حديث عمرو بن دينار القهرماني ، عن سالم ، عن أبيه ، عن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كلوا جميعًا ولا تَفَرّقُوا ؛ فإن البركة مع الجماعة". (4)
وقوله : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } قال سعيد بن جبير ، والحسن البصري ،
__________
(1) بعدها في ف ، أ : "ولا على الأعرج حرج".
(2) قبلها في ف ، أ : "أو ما ملكتم مفاتحه".
(3) المسند (3/501) وسنن أبي داود برقم (3764) وسنن ابن ماجه برقم (3286).
(4) سنن ابن ماجه برقم (3287) وقال البوصيري في الزوائد (3/77) : "هذا إسناد ضعيف".

(6/86)


وقتادة ، والزهري : فليسلم بعضكم على بعض.
وقال ابن جُرَيْج : حدثنا أبو الزبير : سمعتُ جابر بن عبد الله يقول : إذا دخلتَ على أهلك ، فسَلِّمْ عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة. قال : ما رأيته إلا يوجبه.
قال ابن جريج : وأخبرني زياد ، عن ابن طاوس أنه كان يقول : إذا دخلَ أحدكم بيته ، فليسلم.
قال ابن جُرَيْج : قلت لعطاء : أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلِّم عليهم ؟ قال : لا ولا آثر وجوبه عن أحد ، ولكن هو أحبُّ إلي ، وما أدعه إلا نابيًا (1)
وقال مجاهد : إذا دخلت المسجد فقل : السلام على رسول الله. وإذا دخلت على أهلك فسلِّمْ عليهم ، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وروى الثوري ، عن عبد الكريم الجَزَريّ ، عن مجاهد : إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل : بسم الله ، والحمد لله ، السلام علينا من ربنا ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال قتادة : [إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم ، وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين] (2) فإنه كان يؤمر بذلك ، وحُدّثنا أن الملائكة ترد عليه. وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عَوْبَدُ بن أبي عمران الجوني ، عن أبيه ، عن أنس قال : أوصاني النبيّ (3) صلى الله عليه وسلم بخمس خصال ، قال : "يا أنس ، أسبغ الوضوء يُزَد في عمرك ، وسَلّم على من لقيك من أمتي تكْثُر حسناتك ، وإذا دخلت - يعني : بيتك - فسلم على أهل بيتك ، يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضُّحى فإنها صلاة الأوابين قبلك. يا أنس ، ارحم الصغير ، ووقِّر الكبير ، تَكُنْ من رفقائي يوم القيامة". (4)
وقوله : { تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } قال محمد بن إسحاق : حدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقول : ما أخذت التشهدَ إلا من كتاب الله ، سمعت الله يقول : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } ، فالتشهد في الصلاة : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ثم يدعو لنفسه ويسلم.
هكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث ابن إسحاق.
والذي في صحيح مسلم ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف هذا (5) ، والله أعلم.
__________
(1) في ف ، أ : "ناسيا".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف : "رسول الله".
(4) ورواه ابن عدي في الكامل (5/382) من طريق موسى عن عويد بن أبي عمران الجوني ، به. ونقل عن البخاري : "عويد بن أبي عمران عن أبيه منكر الحديث" ثم قال ابن عدي : "وعويد يبن على حديثه الضعف".
(5) صحيح مسلم برقم (403) ولفظه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن ، فكان يقول : "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".

(6/87)


وقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لما ذكر تعالى ما في السورة الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة ، نَبَّه تعالى على أنه يُبَيّن لعباده الآيات بيانًا شافيًا ، ليتدبروها ويتعقلوها.

(6/88)


إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)

{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) }.
وهذا أيضًا أدب أرشد الله عبادَه المؤمنين إليه ، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول ، كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف - لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، من صلاة جمعة أو (1) عيد أو (2) جماعة ، أو اجتماع لمشورة ونحو ذلك - أمرهم الله تعالى ألا ينصرفوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته. وإن من يفعل ذلك فهو من المؤمنين الكاملين.
ثم أمر رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له ، إن شاء ؛ ولهذا قال : { فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }.
وقد قال أبو داود : حدثنا أحمد بن حَنْبَل ومُسَدَّد ، قالا حدثنا بشر - هو ابن المفضل - عن عَجْلان عن سعيد المَقْبُرِيّ ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلِّم ، فإذا أراد أن يقوم فليسلِّم ، فليست الأولى بأحق من الآخرة".
وهكذا رواه الترمذي والنسائي ، من حديث محمد بن عجلان ، به (3). وقال الترمذي : حسن.
{ لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) }.
قال الضحاك ، عن ابن عباس : كانوا يقولون : يا محمد ، يا أبا القاسم ، فنهاهم الله عز وجل ، عن ذلك ، إعظامًا لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه (4) قال : فقالوا : يا رسول الله ، يا نبي الله. وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير.
وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يسود.
__________
(1) في ف : "و".
(2) في ف : "و".
(3) سنن أبي داود برقم (5208) وسنن الترمذي برقم (2706) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10201).
(4) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".

(6/88)


وقال مقاتل [بن حَيَّان] (1) في قوله : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } يقول : لا تُسَمّوه إذا دَعَوتموه : يا محمد ، ولا تقولوا : يا بن عبد الله ، ولكن شَرّفوه فقولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله (2).
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم في قوله : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } قال : أمرهم الله أن يشرِّفوه.
هذا قول. وهو الظاهر من السياق ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا } [البقرة : 104] ، وقال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } إلى قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } [الحجرات : 2 - 5]
فهذا كله من باب الأدب [في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته] (3)
والقول الثاني في ذلك أن المعنى في : { لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } أي : لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره ، فإن دعاءه مستجاب ، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا. حكاه ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، والحسن البصري ، وعطية العَوفي ، والله (4) أعلم.
وقوله : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } قال مقاتل بن حَيَّان : هم المنافقون ، كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة - ويعني بالحديث الخطبة - فيلوذون ببعض الصحابة - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - حتى يخرجوا من المسجد ، وكان لا يصلح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبيّ صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة ، بعدما يأخذ في الخطبة ، وكان إذا أراد أحدهم الخروجَ أشارَ بإصبعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل ؛ لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب ، بطلتْ جُمعته.
قال السُّدِّي كانوا إذا كانوا معه في جماعة ، لاذ بعضهم ببعض ، حتى يتغيبوا عنه ، فلا يراهم.
وقال قتادة في قوله : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } ، يعني : لواذا [عن نبي الله وعن كتابه.
وقال سفيان : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } قال : من الصف. وقال مجاهد في الآية : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } ] (5) قال : خلافًا.
وقوله : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } أي : عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سبيله هو (6)
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "يا رسول الله ، يا نبي الله".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "فالله".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "وهو سبيله".

(6/89)


أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)

ومنهاجه وطريقته [وسنته] (1) وشريعته ، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله ، فما وافق ذلك قُبِل ، وما خالفه فهو مَرْدُود على قائله وفاعله ، كائنا ما كان ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من عمل عَمَلا ليس عليه أمرنا فهو رَدّ" (2).
أي : فليحذر وليخْشَ من خالف شريعة الرسول باطنًا أو ظاهرًا { أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } أي : في قلوبهم ، من كفر أو نفاق أو بدعة ، { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الدنيا ، بقتل ، أو حَد ، أو حبس ، أو نحو ذلك.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبِّه قال : هذا ما حدَّثنا أبو هُرَيرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا ، فلما أضاءت ما حولها (3). جعل الفراش وهذه الدواب اللاتي [يقعن في النار] (4) يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه ويتقحَّمن فيها". قال : "فذلك مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحجزِكم عن النار هلم عن النار ، فتغلبوني وتقتحمون فيها". أخرجاه من حديث عبد الرزاق (5)
{ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) }.
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ، وأنه عالم غيب السموات والأرض ، وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم ، فقال : { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } و"قد" للتحقيق ، كما قال قبلها : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } ، وقال تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } [الأحزاب : 18]. وقال تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [المجادلة : 1] ، وقال : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } [الأنعام : 33] ، وقال : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ] } (6) [البقرة : 144] فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بـ"قد" ، كما يقول المؤذن تحقيقًا وثبوتًا : "قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة" فقوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } أي : هو عالم به ، مشاهد له ، لا يعزب عنه مثقال ذرة ، كما قال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [الشعراء : 217 - 220]. وقال : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [يونس : 61] ، (7) وقال تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد : 33] أي : هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر. وقال تعالى : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ [ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] } [هود : 5] (8) ، وقال تعالى : { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [الرعد : 10] ، وقال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود : 6] ، وقال : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام : 59].والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا.
وقوله : { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } أي : ويوم تَرْجِعُ (9) الخلائق إلى الله - وهو يوم القيامة - { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا } أي : يخبرهم بما فعلوا في الدنيا ، مِنْ جليل وحقير ، وصغير وكبير ، كما قال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة : 13]. وقال : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف : 49]. ولهذا قال هاهنا : { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } والحمد لله رب العالمين ، ونسأله التمام.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (2697) وصحيح مسلم برقم (1718).
(3) في ف ، أ : "حوله".
(4) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(5) المسند (2/312) ومسلم برقم (2284) وليس عند البخاري من هذا الطريق.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ف : "في السموات ولا في الأرض" ، وهو خطأ.
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ف : "يرجع".

(6/90)


تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)

تفسير سورة الفرقان
وهي مكية بسم الله الرحمن الرحيم
{ تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) }.
يقول تعالى حامدا نفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم ، كما قال تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ] (1) } [ الكهف : 1 - 3] وقال هاهنا : { تَبَارَكَ } وهو تفاعَلَ من البركة المستقرة الدائمة الثابتة { الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ } نزل : فَعَّل ، من التكرر ، والتكثر ، كما قال : { وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ } [ النساء : 136] ؛ لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة ، والقرآن نزل (2) مُنَجَّماً مُفَرَّقاً مُفَصَّلا آيات بعد آيات ، وأحكاما بعد أحكام ، وسوراً بعد سُوَر ، وهذا أشد وأبلغ ، وأشد اعتناءً بمن أنزل عليه كما قال في أثناء هذه السورة : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 32 ، 33]. ولهذا سماه هاهنا الفرقان ؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، والحلال والحرام.
وقوله : { عَلَى عَبْدِهِ } : هذه صفة مدح وثناء ؛ لأنه أضافه إلى عبوديته ، كما وصفه بها في أشرف أحواله ، وهي ليلة الإسراء ، فقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا } [ الإسراء : 1 ] ، وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } [ الجن : 19] ، وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه ، فقال { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا }.
وقوله : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } أي : إنما خصَّه بهذا الكتاب العظيم المبين المفصل المحكم الذي : { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42] ، الذي جعله فرقانا عظيما - إنما خصه به ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء ، ويستقل على الغبراء ، كما قال - صلوات الله وسلامه عليه - "بعثت إلى الأحمر والأسود" (3). وقال : "أعطيت خمسًا لم
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في أ : "ينزل".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (521) هو والذي يليه من حديث جابر ، رضي الله عنه.

(6/92)


يعطهن أحد من الأنبياء قبلي" ، فذكر منهن : أنه "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة" ، وقال الله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ [لا إِلَهَ إِلا هُوَ ] (1) يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ الأعراف : 158] أي : الذي أرسلني هو مالك السموات والأرض ، الذي يقول للشيء كن فيكون ، وهو الذي يحيي ويميت ، وهكذا قال هاهنا : { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } ، فَنزه نفسه عن الولد ، وعن الشريك.
ثم أخبر أنه : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } أي : كل شيء مما سواه مخلوق مربوب ، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه ، وكل شيء تحت قهره [وتسخيره] (2) ، وتدبيره وتقديره (3).
__________
(1) زيادة من أ وهو الصواب.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف ، أ : "قهره وتقديره وتسخيره وتدبيره".

(6/93)


وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)

{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا (3) }
يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ، الخالق لكل شيء ، المالك لأزمَّة الأمور ، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. ومع هذا عَبَدُوا معه من الأصنام ما لا يقدر على خلق جناح بعوضة ، بل هم مخلوقون ، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ، فكيف يملكون لعابديهم ؟ { وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا } أي : ليس لهم من ذلك شيء ، بل ذلك مرجعه كله إلى الله عز وجل ، الذي هو يحيي ويميت ، وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم ، { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28] ، { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50] ، { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ } [ النازعات : 13 ، 14] ، { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ } [ الصافات : 19] ، { إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 53]. فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه ، ولا تنبغي العبادة إلا له ؛ لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وهو الذي لا ولد له ولا والد ، ولا عديل ولا نديد ولا وزير ولا نظير ، بل هو الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا (5) قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) }
يقول تعالى مخبرًا عن سخافة عقول الجهلة من الكفار ، في قولهم عن القرآن : { إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ } : أي : كذب ، { افْتَرَاهُ } يعنون النبي (1) صلى الله عليه وسلم ، { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } أي : واستعان على جمعه بقوم آخرين. قال الله تعالى : { فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا } أي : فقد افتروا هم قولا باطلا هم
__________
(1) في ف ، أ : "محمدا".

(6/93)


وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)

يعلمون أنه باطل ، ويعرفون كذب أنفسهم فيما يزعمون (1).
{ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا } يعنون : كتب الأوائل استنسخها ، { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ } أي : تقرأ عليه { بُكْرَةً وَأَصِيلا } أي : في أول النهار وآخره.
وهذا الكلام - لسخافته وكذبه وبهْته منهم - كُلّ أحد يعلم (2) بطلانه ، فإنه قد عُلم بالتواتر وبالضرورة : أن محمداً رسول الله لم يكن يعاني شيئا من الكتابة ، لا في أول عمره ولا في آخره ، وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة ، وهم يعرفون مدخله ومخرجه ، وصدقه ، وبره وأمانته ونزاهته من الكذب والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة ، حتى إنهم لم يكونوا يسمونه في صغره إلى أن بُعِث (3) إلا الأمين ، لما يعلمون من صدقه وبره. فلما أكرمه الله بما أكرمه به ، نصبوا له العداوة ، وَرَموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها ، وحاروا ماذا يقذفونه به ، فتارة من إفكهم يقولون : ساحر ، وتارة يقولون : شاعر ، وتارة يقولون : مجنون ، وتارة يقولون : كذاب ، قال الله تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } [ الإسراء : 48].
وقال تعالى في جواب ما عاندوا هاهنا وافتروا : { قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ } أي : أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين إخباراً حقاً صدقاً مطابقاً للواقع في الخارج ، ماضيا ومستقبلا { أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ } أي : الله الذي يعلم غيب السموات والأرض ، ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر.
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } : دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم ، وأن من تاب إليه تاب عليه. فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتهم وكفرهم وعنادهم ، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا ، يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى ، كما قال تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ المائدة : 73 - 74] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } [ البروج : 10]. قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة [سبحانه وتعالى] (4).
{ وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) }
__________
(1) في ف ، أ : "زعموه".
(2) في ف ، أ : "بهته كل أحد منهم يعلم".
(3) في أ : "بعثه".
(4) زيادة من ف ، أ.

(6/94)


إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)

{ إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) }.

(6/94)


يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم ، وإنما تعللوا بقولهم : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ } ، يعنون : كما نأكله ، ويحتاج إليه كما نحتاج إليه ، { وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ } أي : يتردد فيها وإليها طلبا للتكسب والتجارة ، { لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } يقولون (1) : هلا أنزل إليه ملك من عند الله ، فيكون له شاهدا على صِدْق ما يدَّعيه! وهذا كما قال فرعون : { فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [ الزخرف : 53]. وكذلك قال هؤلاء على السواء ، تشابهت قلوبهم ؛ ولهذا قال : { أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز } أي : علم كنز [يكون] (2) ينفق منه ، { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } أي : تسير معه حيث سار. وهذا كله سهل يسير على الله ، ولكن له الحكمة في ترك ذلك ، وله الحجة البالغة { وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا }.
قال الله تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ } أي : جاءوا بما يقذفونك به ويكذبون به عليك ، من قولهم "ساحر ، مسحور ، مجنون ، كذاب ، شاعر" وكلها أقوال باطلة ، كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك ؛ ولهذا قال : { فضلوا } أي : عن طريق الهدى ، { فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } وذلك لأن كل من خرج عن الحق فإنه ضال حيثما توجه ؛ لأن الحق واحد ومنهج متحد ، يُصَدّق بعضه بعضا.
ثم قال تعالى مخبراً نبيه أنه لو شاء لآتاه خيراً مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن ، فقال [تعالى] (3) { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا }.
قال مجاهد : يعني : في الدنيا ، قال : وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصرا ، سواء كان كبيرا أو صغيرا (4).
وقال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن خَيْثَمَة ؛ قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك ، ولا يُعطى أحد من بعدك ، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله ؟ فقال : اجمعوها لي في الآخرة ، فأنزل الله عز وجل في ذلك : { تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } (5).
__________
(1) في أ : "يقول".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في ف ، أ : "صغيرا أو كبيرا".
(5) رواه الطبري في تفسيره (18/140) من طريق سفيان به مرسلا.

(6/95)


وقوله : { بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ } أي : إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيباً وعناداً ، لا أنهم يطلبون ذلك تبصرا واسترشادا ، بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال ، { وأعتدنا } أي : وأرصدنا { لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا } أي : عذابا أليماً حاراً لا يطاق في نار جهنم.
وقال الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن سعيد بن جبير : "السَّعِير" : واد من قيح جهنم.
وقوله : { إِذَا رَأَتْهُمْ } أي : جهنم { مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } يعني : في مقام المحشر. قال السدي : من مسيرة مائة عام { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } أي : حنقا (1) عليهم ، كما قال تعالى : { إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } [ الملك : 7 ، 8] أي : يكاد ينفصل بعضها من بعض ؛ من شدة غيظها على من كفر بالله.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا إدريس بن حاتم بن الأخيف (2) الواسطي : أنه سمع محمد بن الحسن الواسطي ، عن أصبغ بن زيد ، عن خالد بن كثير ، عن خالد بن دُرَيْك ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من يقل عَلَيَّ ما لم أقل ، أو ادعى إلى غير والديه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فليتبوأ [مقعده من النار". وفي رواية : "فليتبوأ] (3) بين عيني جهنم مقعدا" قيل : يا رسول الله ، وهل لها من عينين ؟ قال : "أما سمعتم الله يقول : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } الآية.
ورواه ابن جرير ، عن محمد (4) بن خِدَاش ، عن محمد بن يزيد (5) الواسطي ، به (6).
وقال أيضًا : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن عيسى بن سليم ، عن أبي وائل قال : خرجنا مع عبد الله - يعني : ابن مسعود - ومعنا الربيع بن خُثَيْم فمروا على حداد ، فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار ، ونظر الربيع بن خثيم إليها فتمايل ليسقط ، فمر عبد الله على أتّون على شاطئ الفرات ، فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } فصعق - يعني : الربيع بن خُثَيْم - فحملوه إلى أهل بيته (7) ورابطه عبد الله إلى الظُّهر فلم يفق ، رضي الله عنه.
وحدثنا أبي : حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : إن العبد ليجر إلى النار ، فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير ، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.
__________
(1) في أ : "خنقا".
(2) في ف ، أ : "الأحنف".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف : "محمود".
(5) في أ : "زيد".
(6) تفسير الطبري (18/140).
(7) في أ : "إلى أهله".

(6/96)


هكذا رواه ابن أبي حاتم مختصرا ، وقد رواه الإمام أبو جعفر بن جرير :
حدثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقي ، حدثنا عُبَيْد الله بن موسى ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : إن الرجل ليجر إلى النار ، فتنزوي وتنقبض بعضها إلى بعض ، فيقول لها الرحمن : ما لك ؟ قالت : إنه يستجير مني. فيقول : أرسلوا (1) عبدي. وإن الرجل ليُجَرّ إلى النار ، فيقول : يا رب ، ما كان هذا الظن بك ؟ فيقول : فما كان ظنك ؟ فيقول : أن تَسَعني رحمتك. فيقول : أرسلوا عبدي ، وإن الرجل ليجر إلى النار ، فتشهق إليه النار شهوق البغلة إلى الشعير ، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وهذا إسناد صحيح.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عُبَيد بن عُمَيْر في قوله : { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } قال : إن جهنم تزفر زفرة ، لا يبقى ملك ولا نبي إلا خَرّ تَرْعَد فرائصه ، حتى إن إبراهيم عليه السلام ، ليجثو على ركبتيه ويقول : رب ، لا أسألك اليوم إلا نفسي (2).
وقوله : { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا } قال قتادة ، عن أبي أيوب ، عن عبد الله (3) بن عمرو قال : مثل الزج في الرمح (4) أي : من ضيقه.
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني نافع بن يزيد ، عن يحيى بن أبي أسيد - يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن قول الله { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ } قال : "والذي نفسي بيده ، إنهم ليُسْتَكرهون في النار ، كما يستكره الوتد في الحائط" (5).
وقوله { مُقَرَّنِينَ } قال أبو صالح : يعني مكتفين : { دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } أي : بالويل والحسرة والخيبة. { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد (6) عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أول من يُكسَى حُلَّةً من النار إبليس ، فيضعها على حاجبيه ، ويسحبها منْ خَلْفه ، وذريته من بعده ، وهو ينادي : يا ثبوراه ، وينادون : يا ثبورهم. حتى يقفوا على النار ، فيقول : يا ثبوراه. ويقولون : يا ثبورهم. فيقال لهم : لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا ، وادعوا ثبورا كثيرا".
لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، ورواه ابن أبي حاتم ، عن أحمد بن سِنَان ، عن عفان ، به : ورواه ابن جرير ، من حديث حماد بن سلمة به (7).
__________
(1) في أ : "أن تنقلوا".
(2) تفسير عبد الرزاق (2/56).
(3) في ف ، أ : "عبيد الله".
(4) في ف : "رمحه".
(5) رواه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (6/240).
(6) في هـ ، ف ، أ "علي بن يزيد" والصواب ما أثبتناه من المسند (3/252).
(7) المسند (3/152) وتفسير الطبري (18/141).

(6/97)


قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)

وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } أي : لا تدعوا اليوم ويلا واحداً ، وادعوا ويلا (1) كثيرا.
وقال الضحاك : الثبور : الهلاك.
والأظهر : أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار ، كما قال موسى لفرعون : { وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا } [ الإسراء : 102] أي : هالكا. وقال عبد الله بن الزبَعْرى :
إذْ أجَاري الشَّيطانَ في سَنَن الغيَ... يِ ، وَمنْ مَالَ مَيْلَهُ (2) مَثْبُورُ (3)
{ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا (16) }.
يقول تعالى : يا محمد ، هذا (4) الذي وصفناه من حال أولئك الأشقياء (5) ، الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم ، فتتلقاهم بوجه عبوس وبغيظ (6) وزفير ، ويُلقَون في أماكنها الضيقة مقرَّنين ، لا يستطيعون حراكا ، ولا انتصاراً ولا فكاكا مما هم فيه - : أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده ، التي أعدها لهم ، وجعلها لهم جزاء على ما أطاعوه في الدنيا ، وجعل مآلهم إليها.
{ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } [أي] (7) : من الملاذ : من مآكل ومشارب ، وملابس ومساكن ، ومراكب ومناظر ، وغير ذلك ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خَطَر على قلب أحد (8). وهم في ذلك خالدون أبدا دائما (9) سرمدا بلا انقطاع ولا زوا ، ولا انقضاء ، لا يبغون عنها حوَلا. وهذا من وَعْد الله الذي تفضل به عليهم ، وأحسن به إليهم ، ولهذا قال : { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا } أي لا بد أن يقع وأن يكون ، كما حكاه أبو جعفر بن جرير ، عن بعض علماء العربية أن معنى قوله : { وَعْدًا مَسْئُولا } أي : وعدا واجبا.
وقال ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا } يقول : سلوا الذي واعدتكم - أو قال : واعدناكم - نُنْجِزْ.
وقال محمد بن كعب القُرَظي في قوله : { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا } : إن الملائكة تسأل لهم ذلك : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ } [ غافر : 8].
وقال أبو حازم : إذا كان يوم القيامة قال المؤمنون : ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا ، فأنجز لنا ما وعدتنا. فذلك قوله : { وَعْدًا مَسْئُولا }.
وهذا المقام في هذه السورة من ذكر النار ، ثم التنبيه على حال أهل الجنة ، كما ذكر تعالى في
__________
(1) في ف ، أ : "بلاءا".
(2) في أ : "مثله".
(3) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (2/419).
(4) في أ : "أهذا".
(5) في أ : "من هؤلاء الأشقية".
(6) في أ : "وتغيظ".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف ، أ : "بشر".
(9) في ف : "دائما أبدا".

(6/98)


وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)

سورة "الصافات" حال أهل الجنة ، وما فيها من النضرة والحبور ، ثم قال : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نزلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } [ الصافات : 62 - 70].
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) }.
يقول تعالى مخبراً عما يَقَع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم مَن عبدوا من دون الله ، من الملائكة وغيرهم ، فقال : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ (1) وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }. قال مجاهد : عيسى ، والعُزَير ، والملائكة. { فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ } أي : فيقول الرب تبارك وتعالى [للمعبودين] (2) أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني ، أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم ، من غير دعوة منكم لهم ؟ كما قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُم } (3) إلى آخر الآية ؛ [ المائدة : 116 - 117] ولهذا قال تعالى مخبرًا عما يُجيِب به المعبودون يوم القيامة : { قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } قرأ الأكثرون بفتح "النون" من قوله : { نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ } أي : ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك ، لا نحن ولا هم ، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك ، بل هم قالوا (4) ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء منهم ومن عبادتهم ، كما قال تعالى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [ سبأ : 40 - 41]. (5) وقرأ آخرون : "مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُتَّخَذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ" أي : ما ينبغي لأحد أن يعبدنا ، فإنا عبيد لك ، فقراء إليك. وهي قريبة المعنى من الأولى.
{ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ } أي : طال عليهم العمر حتى نَسُوا الذكر ، أي : نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك ، من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك.
__________
(1) في ف : "يحشرهم".
(2) زيادة من أ.
(3) بعدها في ف ، أ : (إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني).
(4) في أ : "فعلوا".
(5) في هـ : "به" والمثبت من أ ، وهو الصواب.

(6/99)


وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)

{ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا } قال ابن عباس : أي هلكى. وقال الحسن البصري ، ومالك عن الزهري : أي لا خير فيهم. وقال ابن الزبعرى حين أسلم :
يا رَسُولَ المَليك إنّ لسَاني... رَاتقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ...
إذْ أجاري الشَّيطَانَ في سَنَن الغيْ... يِ ، وَمَن مالَ مَيْلَه مَثْبُورُ...
قال الله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } أي : فقد كذبكم الذين عَبَدْتُم فيما زعمتم أنهم لكم أولياء ، وأنكم اتخذتموهم قربانا يقربونكم (1) إليه زلفى ، كما قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 - 6].
وقوله : { فَمَا (2) تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا } أي : لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم ، { وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ } أي : يشرك بالله ، { نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا }.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20) }
يقول تعالى مخبرا عن جميع مَنْ بعثه من الرسل المتقدمين : إنهم كانوا يأكلون الطعام ، ويحتاجون إلى التغذي به { وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } أي : للتكسب والتجارة ، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم ؛ فإن الله جعل لهم من السمات الحسنة ، والصفات الجميلة ، والأقوال الفاضلة ، والأعمال الكاملة ، والخوارق الباهرة ، والأدلة [القاهرة] (3) ، ما يستدل به كل ذي لب سليم ، وبصيرة مستقيمة ، على صدق ما جاءوا به من الله عز وجل. ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109]{ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } [ الأنبياء : 8].
وقوله : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } أي : اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض ، لنعلم مَن يُطيع ممن يعصي ؛ ولهذا قال : { أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } أي : بمن يستحق أن يوحى إليه ، كما قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124] ، ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ، ومن لا يستحق ذلك.
وقال محمد بن إسحاق في قوله : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } قال : يقول الله : لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون ، لفعلت ، ولكنّي قد أردتُ أن أبتلي العباد بهم ،
__________
(1) في أ : "يقربوبكم".
(2) في أ : "فلا" وهو خطأ.
(3) زيادة من أ.

(6/100)


وأبتليهم (1) بهم.
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله : إني مُبْتَلِيك ، ومُبْتَلٍ بك" (2). وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة" ، وفي الصحيح أنه - عليه أفضل الصلاة والسلام - خُير بين أن يكون نبياً ملكا أو عبداً رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا.
__________
(1) في أ : "وأبتليكم".
(2) صحيح مسلم برقم (2865).

(6/101)


وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)

{ وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا (24) }.
يقول تعالى مخبرا عن تَعَنُّت الكفار في كفرهم ، وعنادهم في قولهم : { لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ } (1) أي : بالرسالة كما نزل (2) على الأنبياء ، كما أخبر عنهم تعالى في الآية الأخرى : { قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } [ الأنعام : 124] ، ويحتمل أن يكون مرادهم هاهنا : { لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ } فنراهم عيانا ، فيخبرونا أن محمدا رسول الله ، كقولهم (3) : { أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا } [ الإسراء : 92]. وقد تقدم تفسيرها في سورة "سبحان" ؛ ولهذا قال (4) : { أَوْ نَرَى رَبَّنَا } ولهذا قال الله تعالى : { لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا }. وقد قال [الله] (5) تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111].
وقوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } أي : هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم ، بل يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ لهم (6) ، وذلك يَصْدُق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار ، وغضب الجبار ، فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه : اخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث ، اخرجي إلى سَموم وحَميم ، وظلِّ من يحموم. فتأبى الخروج وتتفرق في البدن (7) ، فيضربونه ، كما قال الله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50]. وقال : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي : بالضرب ، { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنعام : 93] ؛ ولهذا قال في هذه الآية
__________
(1) في أ : "عليه" وهو خطأ.
(2) في أ : "تنزل".
(3) في ف ، أ : "وكقولهم".
(4) في ف ، أ : "قالوا".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف ، أ : "للمجرمين".
(7) في أ : "الجسد".

(6/101)


الكريمة : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ } ، وهذا بخلاف حال المؤمنين في وقت احتضارهم ، فإنهم يبشرون بالخيرات ، وحصول المسرات. قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [ فصلت : 30 - 31].
وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب : أن الملائكة تقول لروح المؤمن : "اخرجي أيتها النفس الطيبة (1) في الجسد الطيب ، كنت تعمرينه ، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان". وقد تقدم الحديث في سورة "إبراهيم" (2) عند قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ إبراهيم : 27].
وقال آخرون : بل المراد بقوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ } يعني : يوم القيامة. قاله مجاهد ، والضحاك ؛ وغيرهما.
ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم ، فإن الملائكة في هذين اليومين يوم الممات ويوم المعاد تتجلى للمؤمنين وللكافرين ، فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان ، وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران ، فلا بشرى يومئذ للمجرمين.
{ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } أي : وتقول الملائكة للكافرين حَرَام محرم عليكم الفلاح اليوم.
وأصل "الحجر" : المنع ، ومنه يقال : حَجَر القاضي على فلان ، إذا منعه التصرف إما لسفَه ، أو فَلَس ، أو صغر ، أو نحو ذلك. ومنه سمي "الحجْر" عند البيت الحرام ؛ لأنه يمنع الطُوَّاف أن يطوفوا فيه (3) ، وإنما يطاف من ورائه. ومنه يقال للعقل "حجر" (4) ؛ لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق.
والغرض أن الضمير في قوله : { وَيَقُولُونَ } عائد على الملائكة. هذا قول مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، وعطية العوفي ، وعطاء الخراساني ، وخُصَيف ، وغير واحد. واختاره ابن جرير (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا موسى - يعني ابن قيس - عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري : { وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } قال : حراما مُحَرّما أن يُبَشَّر بما يبشر به المتقون.
وقد حكى ابن جرير ، عن ابن جُرَيْج أنه قال : ذلك من كلام المشركين : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ } ، [أي : يتعوذون من الملائكة ؛ وذلك أن العرب كانوا إذا نزل بأحدهم نازلة أو شدة] (6) يقولون : { حِجْرًا مَحْجُورًا }.
__________
(1) في ف ، أ : "المطمئنة".
(2) عند الآية : 27.
(3) في ف : "به".
(4) في أ : "حجرا".
(5) تفسير الطبري (19/2).
(6) زيادة من ف ، أ.

(6/102)


وهذا القول - وإن كان له مأخذ ووجه - ولكنه بالنسبة إلى السياق في الآية بعيد ، لا سيما قد نص الجمهور على خلافه. ولكن قد روى ابنُ أبي نَجِيح ، عن مجاهد ؛ أنه قال في قوله : { حِجْرًا مَحْجُورًا } أي : عوذاً معاذاً. فيحتمل (1) أنه أراد ما ذكره ابن جريج. ولكن في رواية ابن أبي حاتم ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أنه قال : { حِجْرًا مَحْجُورًا } [أي] : (2) عوذا معاذا ، الملائكة تقُوله. فالله (3) أعلم.
وقوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } ، وهذا يوم القيامة ، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشر ، فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال - التي ظنوا أنها منجاة لهم - شيء ؛ وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي ، إما الإخلاص فيها ، وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية ، فهو باطل. فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين ، وقد تجمعهما معا ، فتكون أبعد من القبول حينئذ ؛ ولهذا قال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا }.
قال مجاهد ، والثوري : { وَقَدِمْنَا } أي : عمدنا.
وقال السدي : (قدمنا) : عَمَدنا. وبعضهم يقول : أتينا عليه.
وقوله : { فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } قال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، رضي الله عنه ، في قوله : { [ فَجَعَلْنَاهُ] (4) هَبَاءً مَنْثُورًا } ، قال : شعاع الشمس إذا دخل في الكوَّة. وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي. ورُوي مثله عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، والسُّدِّي ، والضحاك ، وغيرهم. وكذا قال الحسن البصري : هو الشعاع في كوة أحدهم (5) ، ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال : هو الماء المهراق.
وقال أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي : { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال : الهباء رَهْج (6) الدواب. ورُوي مثله عن ابن عباس أيضا ، والضحاك ، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال قتادة في قوله : { هَبَاءً مَنْثُورًا } قال : أما رأيت يَبِيس الشجر إذا ذرته (7) الريح ؟ فهو ذلك الورق.
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عاصم بن حكيم ، عن أبي سريع الطائي ، عن يعلى بن عبيد (8) قال : وإن الهباء الرماد.
وحاصل هذه الأقوال التنبيهُ على مضمون الآية ، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها شيء ، فلما عرضت على الملك الحكيم (9) العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا ، إذا إنها لا شيء بالكلية. وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق ، الذي لا يقدر منه صاحبه على شيء بالكلية ، كما قال
__________
(1) في ف ، أ : "فيحمل".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "والله".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف ، أ : "أحدكم".
(6) في ف ، أ : "وهج".
(7) في أ : "أذرته".
(8) في أ : "عبيد بن يعلى".
(9) في ف : "الحكم".

(6/103)


الله تعالى : { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } [ إبراهيم : 18] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا } [ البقرة : 264] وقال تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [ النور : 39] وتقدم الكلام على تفسير ذلك ، ولله الحمد والمنة.
وقوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } أي : يوم القيامة { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20] ؛ وذلك لأن (1) أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات ، والغرفات الآمنات ، فهم في مقام أمين ، حسن المنظر ، طيب المقام ، { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 76] ، وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات ، والحسرات المتتابعات ، وأنواع العذاب والعقوبات ، { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [ الفرقان : 66] أي : بئس المنزل منظرا وبئس (2) المقيل مقاما ؛ ولهذا قال : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } أي : بما عملوه من الأعمال المتقبلة ، نالوا ما نالوا ، وصاروا إلى ما صاروا إليه (3) ، بخلاف أهل النار فإنه ليس لهم عمل واحد يقتضي لهم دخول الجنة والنجاة من النار ، فَنَبَّه - تعالى - بحال السعداء على حال الأشقياء ، وأنه لا خير عندهم بالكلية ، فقال : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا }.
قال الضحاك : عن ابن عباس : إنما هي ضحوة ، فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين ، ويَقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين.
وقال سعيد بن جبير : يفرغ الله من الحساب نصف النهار ، فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، قال الله تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا }.
وقال عكرمة : إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار : هي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر ، إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة ، فينصرف أهل النار إلى النار ، وأما أهل [الجنة فيُنطلق بهم إلى] (4) الجنة ، فكانت قيلولتهم [في الجنة] (5) وأطعموا كبد حوت ، فأشبعهم [ذلك] (6) كلهم ، وذلك قوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا }.
وقال سفيان ، عن مَيسَرة ، عن المِنْهَال ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، أنه قال : لا ينتصف النهار حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } وقرأ { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ } [ الصافات : 68].
__________
(1) في أ : "أن".
(2) في ف : "أو".
(3) في ف : "وصاروا إلى ما إليه صاروا".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) زيادة من ف ، أ.

(6/104)


وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)

وقال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } قال : قالوا في الغرف من الجنة ، وكان حسابهم أن (1) عُرضوا على ربهم عرضة واحدة ، وذلك الحساب اليسير ، وهو مثل قوله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا } [ الانشقاق : 7 - 9].
وقال قتادة في قوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } أي : مأوى ومنزلا قال قتادة : وحَدّث صفوان بن مُحْرِز أنه قال : يجاء يوم القيامة برجلين ، أحدهما كان ملكا (2) في الدنيا إلى الحمرة والبياض فيحاسب ، فإذا عبدٌ ، لم يعمل خيرا فيؤمر به إلى النار. والآخر كان صاحب كساء في الدنيا ، فيحاسب فيقول : يا رب ، ما أعطيتني من شيء فتحاسبني به. فيقول : صدق عبدي ، فأرسلوه. فيؤمر به إلى الجنة ، ثم يتركان ما شاء الله. ثم يدعى صاحب (3) النار ، فإذا هو مثل الحُمَمة (4) السوداء ، فيقال له : كيف وجدت ؟ فيقول : شر مَقيل. فيقال (5) له : عد (6) ثم يُدعَى بصاحب الجنة ، فإذا هو مثل القمر ليلة البدر ، فيقال له : كيف وجدت ؟ فيقول : رب ، خير مَقيل. فيقال له : عد. رواها ابن أبي حاتم كلها.
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث ، أن سعيدًا (7) الصوَّاف حدثه ، أنه بلغه : أن يوم القيامة يقصر على المؤمن (8) حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وأنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ، وذلك (9) قوله تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } (10).
{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنزلَ الْمَلائِكَةُ تَنزيلا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا (29) }.
يخبر تعالى عن هَول يوم القيامة ، وما يكون فيه من الأمور العظيمة ، فمنها انشقاق (11) السماء وتفطرها وانفراجها بالغمام ، وهو ظُلَل (12) النور العظيم الذي يبهر الأبصار ، ونزول ملائكة السموات يومئذ ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر. ثم يجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء.
قال مجاهد : وهذا كما قال تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ } [ البقرة : 210].
__________
(1) في أ : "إذ".
(2) في أ : "ملك".
(3) في أ : "بصاحب".
(4) في ف ، أ : "الفحمة".
(5) في أ : "فقال".
(6) في ف ، أ : "عده".
(7) في أ : "سعيد".
(8) في أ : "المؤمنين".
(9) في ف ، أ : "فذلك".
(10) تفسير الطبري (19/5).
(11) في أ : "اشتقاق".
(12) في أ : "ظل".

(6/105)